نظريّة الكمّ ومبدأ اللايقين

في الربع الأوّل من القرن العشرين، أيّ خلال ال25 عامًا التّي مرّت على اكتشاف بلانك، تحولت قطرات الأدلة التي تتحدى الفيزياء الكلاسيكية إلى سيلٍ عرمرمٍ. قوّض صرح البناء العظيم الذي بناه نيوتن وأتباعه، والذي كان القلعة الشامخة في فهمنا للطبيعة.

بالرغم من النجاح الذّي حققه بلانك، أينشتاين، بوهر وغيرهم في تفسير بعض النتائج، لم يستطع أحد أن يعطي نظريةً واح

دةً توحد تفسير كل النتائج بشكل منهجي ومتناسق.

دخلت الفيزياء، كمجال أبحاثٍ، في أزمةٍ حقيقيةٍ لم يكن واضحًا خلالها ما إذا كان سيظهر مبنًى فيزيائي جديد يحلّ محل الفيزياء الكلاسيكية أم أننا سنبقى مع هذا الدمار، ولكن فجأة ظهرت نظريتان تحملان بشرى الانقلاب المنشود.

النظرية الأولى، أتى بها شاب في ربيعه الرابع والعشرين، فرنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) من جامعة غوتنغن في ألمانيا  في عام 1925، وتعتمد على صفات مبنًى رياضي معيّن يسمى المصفوفة (Matrix)، لهذا سميت نظريته “ميكانيكا المصفوفة” (Matrix Mechanics).

أما النظرية الثانية فقد ظهرت في عام 1926 وأتى بها الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر (Erwin Schrödinger) وتعتمد على معادلة  تعامل الأجسام كأمواج، عرفت هذه النظرية باسم “ميكانيكا الأمواج” (Wave Mechanics).

ظن الجميع في البداية بأن هاتان النظريتان تختلفان تمامًا عن بعضهما البعض، ولكن اتضح بعد حين أنهما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، بحيث أنهما تصفان نفس النظرية.

تعرف هذه النظرية اليوم باسم نظرية الكم (أو ميكانيكا الكم) التي اتضح أنها، إلى جانب نظرية أينشتاين النسبية، العمود الفقري للفيزياء الحديثة.

المعادلة التي أتى بها شرودنغر، ليست معادلة موجة كلاسيكية بل هي في الحقيقة مزيجٌ بين معادلة الأجسام ومفاهيم من الأمواج.

وهي مبنية على قانون حفظ طاقة الجسم الكلاسيكية التي تحكم تصرف دالةٍ معينةٍ، تسمى دالة الموجة ويرمز لها عادة بالحرف اليوناني، Ψ!  ولكن ماذا تعني هذه الدالة، وأي موجة تصف، وما علاقتها بما نقيسه في الطبيعة؟

أتى فهم معنى دالة الموجة في نهاية عام 1926 على يد ماكس بورن (Max Born) الألماني الذي بيّن أن تربيع القيمة المطلقة لدالة الموجة، Ψ|²|هي ما يسمى كثافة الاحتمالات، أي أنها تصف إحتمال وجود هذا الجسم في مكانٍ معيّن.

لكن ألا يعني هذا بأننا لا نعرف مكان الجسم المعين بشكلٍ قاطعٍ في أيّة لحظةٍ وبأنّ الجسم الذي تصفه هذه الدالة هو في الحقيقة غير موجود في مكان محدّد بل هناك احتمالٌ معينٌ بأنّه موجودٌ في كلّ مكانٍ تسمح به المجموعة الفيزيائيّة في نفس الوقت! يضرب هذا التفسير الاحتمالي والإحصائي لنظرية الكم حتمية موقع وسرعة جسم معين بعرض الحائط.

فبعكس حتمية قوانين الطبيعة التي تصف موقع وسرعة الأجسام والتي تعود عليها الفيزيائيون منذ عهد نيوتن (تتواجد هذه الحتمية في كون بطليموس أيضًا)، استبدلتها ميكانيكا الكم بوصف احصائي، (لكنه وصف حتمي لتطور دالة الموجة التي تصف احتمال أن يكون لجسم موقع وسرعة معينة).

إذا قبلنا بهذا التفسير فهذا يعني موت شيطان باسكال الذي ذكرناه سابقا ونهاية فكرة الكون كآلة تحدد به كل شيء منذ الأزل وحتى الأبد؟

وقع التخلّص من حتميّة قوانين الطبيعة كالصاعقة على كثير من العلماء وأولهم أينشتاين الذي رفض قبول هذا التفسير معتقدًا بوجود حقيقة أعمق من نظرية الكم بها، ما اسماه، متغيرات مستترة نجهلها، وما التفسير الإحصائي لدالة الموجة إلا انعكاسٌ لهذا الجهل، أيّ أنّ نظرية الكم هي ليست الحقيقة الكاملة!

وفي هذا السياق جاءت جملته الشهيرة التي ظهرت في رسالة كتبها لماكس بورن قال فيها “أنا، على أي حال، مقتنع تمام بأن [الله] لا يلعب النرد”. سأعود لهذا النقاش بتوسّعٍ لاحقًا!

دعونا قبل الاستمرار في قصتنا نتوقف برهة لنتمعن في معنى أن يكون قانون طبيعة أساسي إحصائي بجوهره.

نتوقع من قانونٍ طبيعي أن يعطينا نتائج حتميةً نعتمد عليها ونثق بها وهي صفةٌ أساسيةٌ في القوانين الكلاسيكيّة، فنحن نعتمد عليها عندما نسافر بالطائرة وعندما نعبر الشارع وعندما نركب السيارة أو نشعل الكهرباء والخ من نشاطاتنا اليومية العادية أو العلمية والتكنولوجية.

في المقابل، يعني قانونٌ ذو طبيعةٍ احتماليةٍ بطبيعة الحال أنّ هناك عدم يقينٍ في المقدار الذّي نريد أن نعرفه، فكيف لنا مثلًا أن نسافر بالطائرة عندما نعلم بأننا لسنا على يقينٍ تمامًا إذا ما كانت ستطير أصلًا، حتى إذا كانت الطائرة في حالة تقنيةٍ ممتازةٍ؟ لأنّ ما لا نستطيع الاعتماد عليه هنا هي قوانين الطبيعة بذاتها!

لتحديد هذه النقطة أكثر أعطي مثالًا يحدث في الطبيعة عن الجسيم الأوّلي المسمى بالميؤون (muon) وهو جسم غير مركب من أيّ جسمٍ آخر ويشبه الإلكترون في صفاته، لكننا نعرف أن الميؤون هو جسيمٌ غير ثابتٍ وينحلّ أو يضمحل (decay) إلى أجسامٍ أخرى أقلّ كتلة، خلال زمن قصيرٍ جدًا (جزئين من مليون من الثانية بالمعدل).

تخيل أنّ هناك ميؤونان متطابقان تمامًا يعيشان تحت نفس الظروف الفيزيائية بالضبط. بحسب الفيزياء الكلاسيكية، الحتمية، يتصرف هذان الجسمان بشكل مطابقٍ تمامًا، ولكن ما يحدث في الواقع هو أنه بعد زمنٍ معيّن ينحلّ أحدهما قبل الآخر بحيث  يبقى الثاني كاملًا كما هو لفترة أطول، بالرغم من أنهما متطابقان تمامًا! ليس لدينا أيّ طريقة نحدّد بها متى بالضبط سيحدث الانحلال وأي منهما سوف ينحلّ أولًا. هذه هي الطبيعة الإحصائية الغريبة لقوانين ميكانيكا الكم!

لكن كيف لنا أن نسمي معادلات ميكانيكا الكم “قوانين” إذا كانت لا تتنبأ بأي شيء حتمي، فهي لا تستطيع أن تبيّن لنا مثلًا أين يقع مدار الإلكترون في الذرة بالضبط، بل من الممكن أن يكون في أيّ مكان تبعاً لها. هذا صحيح، ولكنها قوانين، بمفهوم أنها تعطينا احتمال وجود الإلكترون في مكانٍ ما بشكلٍ حتمي ودقيقٍ جدًا، وهذه معلوماتٌ مهمّةٌ جدًا.

هناك فرعٌ كاملٌ في الحقيقة في الميكانيكا الكلاسيكيّة يعطينا قوانين إحصائية عن طبيعة مجموعات معيّنة، يسمى “الميكانيكا الإحصائية”.

طُوّر هذا الفرع في القرن التاسع عشر ليتعامل مع التجمعات الكبيرة من الأجسام الصغيرة ليصف خواصها المتوسطة، مثل الحرارة والضغط.

بالرغم من أنّ القوانين الكلاسيكية التّي تحكم كل جسيم صغير في هذه المجموعات الضخمة هي قوانينٌ حتميةٌ، إلا أن حلّ معادلات الأجسام جميعها في آنٍ واحدٍ هو مهمّةٌ مستحيلةٌ حتى لأكبر حاسوب لدينا.

ففي متر مكعب من الهواء مثلا هناك حوالي 1025 جسيم (10000000000000000000000000 جسيم)، لهذا، من الأسهل أن نتعامل مع مجموعةٍ كهذه بشكلٍ إحصائي لنحسب خواصها العامة.

هذا الفرع من الفيزياء الكلاسيكيّة هو فرعٌ هامٌ جدًا ودقيقٌ جدًا، ولكن الفرق بين الميكانيكا الإحصائية وميكانيكا الكم هي أنّ الأولى تعتمد قوانين الإحصاء لتتغلب على عدم قدرتها على حل معادلات كل جسيم  بانفراد، أي تستعمله لتخبئ المتغيرات الحقيقية للمجموعة وتستبدله بقوانين ذات طابع إحصائي (هذا هو مصدر مصطلح المتغيرات المستترة الذي استعمله اينشتاين)، أما الثانية، أي ميكانيكا الكم، فطابعها الإحصائي هو أساسي حتى عندما تتعامل مع جسيمٍ واحدٍ فقط.

إذاً، هناك  دائمًا خطأ معيّن أو بالأحرى لا يقين معين نتيجة لهذه الطبيعة الإحصائية لقوانين ميكانيكا الكم عند حساب موقع أيّ جسم، مصدرهُ عدم حتمية القوانين وليس خطأ القياس.

يشبه هذا مراقبة شخصٍ ما وتحديد أنه داخل بيته ولكن من غير أن نحدّد في أيّ مكانٍ في البيت بالضّبط لأننا لا نستطيع مبدئيًا أن نعرف في أيّ مكانٍ في الداخل هو موجود، ولكن ماذا لو راقبنا هذا الرجل بشكلٍ مكثفٍ أكثر وزرعنا كاميراتٍ ومجسّات في داخل البيت، عندها بالطبع نستطيع أن نحدّد مكانه بدقةٍ أكبر، لكننا ندفع عندها ثمنًا غاليًا جدًا لمعرفتنا الدقيقة، كما تقول لنا نتيجة المبدأ الشهير المعروف بـ “مبدأ اللايقين” ( uncertainty principle) والذّي ينتج بشكلٍ طبيعي من نظرية الكمّ !

نشر هايزنبرغ في عام 1927 مقالًا بيّن فيه بأنّ هنالك في الطبيعة أزواجٌ من المتغيرات المرتبطّة ببعضها ارتباطًا عضويًا، مثل المكان والسرعة (الأصحّ أن نقول: كميّة الحركة)، اللذين لا نستطيع أن نعرف أحدها بدقة متناهية من غير أن نخسر معرفتنا عن المتغير الآخر بشكلٍ تام.

أيّ في مثال الرجل داخل بيته، قد نستطيع أن نحدّد مكانه بدقّة متناهية ولكنّا عندها لا نستطيع، مبدئيًا، أن نعرف سرعته أبدًا، أو كما نصّ هايزنبرغ هذا: “كلما عرفنا مكان جسم بشكلٍ أدق، كلما نعرف كمية حركته بشكلٍ أقلّ دقة”، والعكس بالعكس. كذلك الأمر بالنسبة للزمن والطاقة وأزواجٍ أخرى من المتغيّرات لنفس الجسم.

أعطى هايزنبرغ في نفس المقال معادلةً تعطي بدقةٍ حدود اللايقين، بحيث أن حاصل ضرب اللايقين بالمكان في اللايقين بكمية الحركة (الكتلة السرعة) لنفس الجسم هو أكبر من عددٍ معيّن صغير جدًا، مرتبط بثابت بلانك الذي ذكرناه سابقًا (بصورةٍ رياضيةٍ العلاقة هي( Δx⋅Δp ≥ h/4π )، بحيث أن الحد Δx هو اللايقين في المكان، Δp هو اللايقين في كمية الحركة، h هو ثابت بلانك و π≃3.14 هو النسبة التقريبية).

مما يجدر ذكره بأنّ السبب الأساسي الذي يجعلنا لا نرى هذه العلاقة في حياتنا اليومية هو أن ثابت بلانك هو عدد صغير جدًا (h=6.626×(10^(-34)) m^2 kg/s)، لهذا نرى تأثير نظرية الكم فقط على أبعادٍ صغيرةٍ جدًا.

تعدّ هذه العلاقة في الحقيقة الفرق الأساسي بين ميكانيكا الكمّ والميكانيكا الكلاسيكية، فلو كانت قيمة ثابت بلانك صفر لما كان هناك أيُّ فرقٍ بينهما.

خيالٌ أم حقيقةٌ

لنستمر في عرض صفات نظرية الكم الأساسية. لقد رأينا مثلًا أننا لا نستطيع أن نتحدث عن مكان الإلكترون أو البروتون وغيرها من الجسيمات، فقد تكون موجودةً مبدئيًا في كلّ مكانٍ، بالضبط كما لا نستطيع أن نعرف مكان الموجة المستوية الممتدة المبيّنة في الصورة الأولى أعلاه فهي لا تحتل نقطةً معينةً في الفراغ الهندسي.

يتناقض هذا مع مفهوم الجسم كما ندركه كلاسيكيًا ونستدلّ عليه من تجاربنا اليوميّة. فبحسب التفسير الرائج لفيزياء الكم (أنظر لاحقًا) الجسم هو مجرد غمامةٍ من الاحتمالات غير المحدّدةِ في نقطةٍ مكانيةٍ واحدة تظهر في مكانٍ معيّن فقط عندما نحاول رصدها.

الظاهرة التّالية المذهلة هي ظاهرة النفق الكمي (quantum tunnelling). بالرغم أنّ أغلب القرّاء، على الأرجح، لم يسمعوا عن هذه الظاهرة إلا أنها مهمةٌ جدًا في حياتنا  نتيجةً لدورها في الترانزيستورات والديودات اللتان في قلب الأجهزة  الإلكترونية الحديثة.

لوصف هذه الظاهرة سنبدأ بالمقابل الكلاسيكي لها. تخيّل طفلًا يلعب بكرة القدم ويركلها باتجاه حائط، حسب الميكانيكا الكلاسيكية تصطدم الكرة بالحائط وتعود في اتجاه الطفل، أيّ أن الكرة تنعكس دائمًا.

الآن، بدلًا من الكرة، لنتخيّل إلكترون يسير نحو حاجزٍ مثل الحائط الذي واجهته الكرة (يسمى هذا عادةً بالحاجز الجهدي potential barrier). نتوقع أن يصطدم الإلكترون بالحاجز وينعكس، كما يحدث للكرة، لكن ما يحدث في الحقيقة هو  أكثر تعقيدًا.

ينعكس الإلكترون في الغالبية العظمى من الحالات ولكن أحيانًا يخترق الحائط ويظهر في الجانب الآخر منه، كما لو كان مسحورًا! تسمى هذه الظاهرة “النفق الكمي”، التي بالرغم من غرابتها من الممكن فهمها إذا ما تعاملنا مع الإلكترون كموجة، فهناك جزءٌ من الموجة ينعكس ولكن هناك احتمالٌ بأن جزء منها يخترق الحاجز (أنظر صورة حاجز الأمواج في حيفا المبيّنة أعلاه. نلاحظ أن جزء من الموجة يظهر خلف الجدار).

هذا ما يحدث مثلًا عندما تشّع بعض أنوية الذرّة أشعة ألفا (alpha radiation) وغيرها من الإشعاعات النووية، فهي ببساطة جسيمات تخترق حاجز النواة الجهدي وتتحرّر كما تخترق أمواج الصوت حيطان غرفةٍ موصدة الإحكام.

تبيّن الصورة المرفقة ظاهرة النفق الكمّي، دالة الموجة لجسمٍ معين ومبنية باللون الأزرق، تظهر الجسم محصورًا في يسار الصورة بواسطة الحاجز الجهدي المبيّن باللون الأحمر ولكن جزء من دالة موجة الجسم يستطيع أن يخترق هذا “الحائط” ليظهر في الطرف الآخر من الحاجز (يمين الصورة) كأن شخصا ما يسير عبر الحيطان ويخترقها كما لو كان شبحًا.

كما ذكرنا، من الممكن فهم هذه الظاهرة كما في حالة الأمواج بحيث أن جزء من الموجة “يدور” حول الحاجز ويسير خلفه كما في صورة كاسحة الأمواج في ميناء حيفا، ولكن من الممكن أيضًا فهمها بواسطة مبدأ اللاحتمية بين الطاقة والزمن الذي ذكرناه سابقًا، والذّي يسمح بأن يأخذ الجسم طاقة كبيرة جدًا لزمنٍ صغيرٍ جدًا (تذكر بأنّ مبدأ اللاحتمية ينصّ بأن محصل ضرب اللاحتمية في الزمن [Δt] باللاحتمية في الطاقة [ΔE]هي أكبر من رقمٍ صغيرٍ جدًا  [Δt⋅ΔE ≥ h/4π ].

قد تزيد طاقة الجسيم داخل الحاجز لفترةٍ قصيرة جدًا بحسب هذا المبدأ، بحيث يستطيع القفز فوق الحاجز والعبور للجانب الآخر.

لنعد الآن لتفحص ماذا يحدث عندما تقوم بتجربة شقي يانغ التي ذكرت أعلاه عندما نقوم بها بواسطة جسيمات، مثلًا إلكترونات، إذا فكرنا في هذه التجربة كلاسيكيًا (أيّ كما تمليه علينا تجربتنا اليومية) نتوقع أن يمرّ كل من الإلكترونات التي نطلقها أمّا من الشّق الأول أو الثاني لهذا نتوقع أن تحتشد الإلكترونات خلف الشقين في مجموعتين مختلفتين، تضم الأولى الإلكترونات التي مرّت من الثقب الأول و تضم الثانية الإلكترونات التي مرت من الشق الثاني.

لكن هذا ليس ما يحدث، إذ أنّ الصورة التي سنراها على الشاشة التي تقع خلف الشقين عندما نقوم بهذه التجربة، هي صورة نمط واضح يتوافق تمامًا في تجربة الأمواج، أي نجد نمط من التداخل (أنظر الصورة).

لكن هل هذا النمط هو نتيجة لتفاعل مجموعة الإلكترونات الكبيرة التي يطلقها مدفع الإلكترونات أم أنّ كلّ إلكترون على حدة يتصرف كموجة؟

نستطيع الإجابة على هذا السؤال بواسطة إعادة التجربة ولكن باستعمال مدفع الكترونات يطلق إلكترون واحد كل مرة.

ما نراه على الشاشة بعد أن ننتظر حتى يصبح عدد الإلكترونات التي انطلقت من المدفع كبير، هو أننا ما زلنا نحصل على نمط التداخل. أي أن الإلكترون الواحد يمرّ من الشقين معًا!

أي أن من الإمكانيات المتاحة للإلكترون، أي أن يمر من الثقب الأول أو الثاني، يختار الإلكترون كلاهما فهو يمر معًا من الشقين! هذا يذكرنا ب “مبدأ التراكب” الذي ذكرته سابقًا وهو مبدأ أساسي في فيزياء الكم: إذا كان هناك العديد من الإمكانيات المتاحة أمام مجموعة فيزيائية تختار هذه المجموعة، وفقًا لفيزياء الكم، جميعها في آنٍ واحدٍ.

أحقًا تصدّق بأنّ القمر يكون موجودًا فقط حين أنظر إليه؟

هناك خطوةٌ أخرى في تجربة يانغ نستطيع أن نقوم بها. لنفرض الآن بأننا وضعنا جهازًا صغيرًا بجانب أحد الشقين يفحص عدد الإلكترونات التي مرت بهذا الشق، بالطبع نتوقع بأننا إذا قمنا بالتجربة مجددًا بأن نرى نمط التداخل مرة أخرى على الشاشة، لكن هذا ليس ما يحدث!

بل ما يحدث هو أن الإلكترونات تتجمع في تجمعان اثنان تمامًا كما توقعنا في الحالة الكلاسيكية، أي عندها يمر كل من الإلكترونات من شق واحد فقط.

لكن مهلا، ما الذي يحدث هنا؟ كيف يغيّر الإلكترون تصرفه بمجرد أننا راقبنا من أي شقٍ يمر؟ أليس من المفروض أن عملية القياس هي عملية موضوعية نقيس بها ما يحدث في الواقع من غير أن نؤثر عليه؟

بحسب التفسير الأكثر شيوعًا لنظرية الكم والمسمى تفسير كوبنهاجن (هنالك عدد من الصيغ لهذا التفسير) − نسبة إلى عاصمة الدنمارك التي هي موطن نيلس بوهر وموقع معهده الشهير− تلك هي صفات أساسية لهذه النظرية: المجموعة التي تعيش في كل الاحتمالات الممكنة عندما لم نكن نقيسها، مثلًا عندما يمر الإلكترون من مكانين معًا في نفس الوقت، تقرر عندما نحاول قياسها بأنها تتبنى فقط إمكانيةً واحدة.

هذه في الحقيقة من أغرب صفات نظرية الكم وتسمى “مشكلة القياس” (the measurement problem)، وهي تقول بأنّ عملية القياس في نظرية الكم تجبر المجموعة الفيزيائية على اختيار حالةٍ معينةٍ ومحددة، ومن دونها تعيش هذه المجموعة كل هذه الاحتمالات معًا، أي أنّ القياس يملي على الطبيعة كيف تتصرف!

قد يناقش البعض بأنّ هذا ليس بجديد فكل عملية قياس، حتى في الفيزياء الكلاسيكية تؤثر على المجموعة التي نقيسها وتحمل في طياتها خطأ معين، عادة ما يكون صغيرًا.

هذا صحيح، ولكن الفرق أنه في الفيزياء الكلاسيكية نستطيع مبدئيًا على الأقل أن نحسب كيف ستؤثر عملية القياس على المجموعة بشكل حتمي.

إضافةً إلى ذلك، الفيزياء الكلاسيكيّة تجزم بأن وضع المجموعة التي نقيسها هو نفس الوضع الذي نرصده بالتجربة، أي أن القياس التجريبي يعكس الواقع الموضوعي.

أمّا في فيزياء الكم، لا يمكن حساب خطأ القياس والتنبؤ به بشكل حتمي لا عمليًا ولا مبدئيًا، إضافةً إلى ذلك، فإنّ عملية القياس لا تعكس كل الواقع الموضوعي لوضع المجموعة بل تجبر الطبيعة على اختيار إحدى إمكانيات وجودها.

أيّ أنها تفكك دالة الموجة إلى مركباتها (مجموعة الإمكانيات المتاحة أمام المجموعة) وتجبرها أن تختار أحداها. يعني هذا أن المراقب الذي يقيس المجموعة هو ليس مراقبًا موضوعيًا لواقعٍ موجودٍ بمعزلٍ عنه، بل هو مشاركٌ في تحديد هذا الواقع!

يناقض هذا أحد الفرضيات العلميّة الأساسيّة ويلقي بظلال الشك واللايقين على طبيعة الواقع الموضوعي، إن لم يكن على وجوده جملةً وتفصيلًا.

أثار هذا التصرف المذهل والغريب الذي قبله أتباع مدرسة كوبنهاجن حفيظة عدد من العلماء الكبار وعلى رأسهم أينشتاين، الذي كان أحد “أجداد” نظرية الكم، و إرفين شرودنجر، أحد آبائها المؤسسين. لتوضيح عبثية مسألة القياس في نظرية الكم بحسب هذه المدرسة، تخيل إرفين شرودنجر تجربةً ذهنيةً (thought experiment) مشهورةً تعرف بإسم تجربة “قطة شرودنجر” (Schrödinger’s cat).

والتجربة هي كما يلي: تخيل أنك وضعت قطةً في صندوق محكم ومغطى، وضعنا في الصندوق مع القطة زجاجة دقيقة من مادة السيانيد السامة، وعلبة بها مادة ذرية مشعة تطلق جسيمًا واحدًا كلّ ساعةٍ بالمعدل، لا نستطيع كما ذكرت سابقًا أن نتنبأ متى بالضبط ستطلق المادة المشعة جسيمًا فقد يكون هذا بعد ساعة أو أقل أو أكثر، لكن عندما تطلق المادة المشعة الجسيم يؤدي هذا الجسيم إلى تشغيل مطرقة تكسر قارورة السم، وبالتالي إلى موت القطة.

السؤال الذي سأله شرودنجر هو: بعد ساعة من الزمن هل القطة حية أم ميتة؟ وهذا السؤال أعقد مما يبدو، فقبل أن نفتح الصندوق لنفحص هناك إمكانيتان أمام المادة المشعة فإما أن تكون قد أطلقت جسيم أو لا، لكن كل من الحالتين لها إسقاطات مختلفة على القطة فقبل انطلاق الجسيم القطة حية ترزق وبعد انطلاقه تصبح ميتة لا روح فيها. لكن كما ذكرنا، بحسب تفسير كوبنهاجن قبل القياس (أي فتح غطاء الصندوق) تكون المادة المشعة في الحالتين معا، أي حالة بعد إطلاق الجسيم وبنفس الوقت في حالة قبل إطلاقه (تمامًا كما يمر الإلكترون من الشقين معًا في تجربة يانغ)، إذا حسب تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم، تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت.

سأكرر، لا تكون القطّة إما ميتة أو حية بحسب هذا التفسير، كما تقول الفيزياء الكلاسيكية، بل القطة حية وميتة في نفس الوقت، لأن الحالتان متاحتان لها.

هذا حتى نقوم بفحص الصندوق، عندها فقط، تقرر المجموعة على أي من الحالتين ستستقر! وهذا بالطبع رفضه  شرودنجر، كما يرفض قبوله جميعنا أيضًا، لأنه مناقض للعقل والمنطق.

لكن الأمور ليست بهذه السهولة  إذ أن عملية القياس هي عملية كلاسيكة بجوهرها (تعطي معلومات محددة عن الواقع) والعلاقة بين عالم الكم الذي مسرحه أصغر الأبعاد والعالم الكلاسيكي الذي يقطن في عالم الأبعاد المعتادة لنا هي علاقة غير واضحة ويجب أن تدخل في محاولة تفسير مثل هذا الوضع.

دعا هذا الواقع الغريب الذي تمليه علينا بعض تفسيرات ميكانيكا الكم أينشتاين أن يسأل أحد أترابه وهو أبراهام بييز (Abraham Pais) الذي كان من المؤمنين بتفسير كوبنهاجن لنظرية الكم حين كانا يتحدثان عن طبيعة الواقع: “أحقا تعتقد بأن القمر يكون موجودًا فقط حين أنظر إليه؟”

وهو سؤالٌ افتراضي يعكس مدى هذا التعقيد الذي تفرضه علينا نظرية الكم حين نحاول أن نفهم طبيعة الواقع، على هذا أجاب بوهر “مهما حاول أينشتاين فهو لن يستطيع إثبات وجود القمر حينما لا ينظر إليه”.

يشبه سؤال أينشتاين هذا سؤال الفيلسوف الإنجليزي باركلي “هل تصدر شجرة إذا سقطت في غابة صوتًا إذا لم يكن هناك من يسمعها؟”.

التشابك الكمّي (Quantum entanglement)

[* قد يكون هذا القسم من المقال صعبا على القارئ لأنه يحوي بعض الرياضيات. بالامكان تخطيه إلى القسم التالي من دون فقدان الاستمرارية.]

بقي أينشتاين حتى نهاية حياته غير مقتنعٌ بأنّ نظرية الكم هي النظريّة الأخيرة وأنها تعكس حقيقة الواقع كما هو. ومعارضته كان لها دورٌ كبيرٌ في تحديد وتوضيح الأسئلة العميقة التي تكمن خلف هذه النظرية والإسقاطات المذهلة التي تحملها في طياتها عن طبيعة الواقع وموضوعيته.

شن في عام 1935 أينشتاين أهم حملاته على قلعة نظرية الكم التي كانت في ذلك الوقت قد وجدت الكثير من الدعم التجريبي والتطبيقي.

أتى هذا الهجوم على شكل مقال كتبه مع زميليه بوريس بودولسكي (Boris Podolsky) ونتان روزن (Nathan Rosen، الذي علمني موضوع النظرية النسبية العامة) ويعرف هذا المقال باسم EPR نسبة لمؤلفيه الثلاثة.

لم يتحدى مؤلفو هذا المقال الطبيعة الإحصائية لنظرية الكم بل تعمدوا إلى انتقاد ما هو أعمق بكثير وهو مفهوم هذه النظرية للواقع نفسه.

هناك في صلب المقال تجربةٌ ذهنيةٌ سأحاول تبسيطها كما يلي: لنفرض أننا هيئنا مخبريًا جسيمان لكل منهما صفتان فيزيائيتان A و B تخضعان لمبدأ اللايقين، بحيث أننا إذا عرفنا A1، أي A للجسم الأول، بدقة كبيرة لا نستطيع أن نعرف B لنفس الجسم، أي B1 .

هذا طبعا لا يعني أننا لا نستطيع معرفة A1 بدقة متناهية للجسم الأول و B2 للجسم الآخر في نفس الوقت، والعكس بالعكس. لنفرض أننا هيئنا المجموعة بحيث أنّ A الكلي للجسمين هو صفر (0=A1+ A2) و B الكلي للجسمين مجتمعين هو أيضًا صفر (0= B1+ B2).

مثلًا جسم ساكن ينقسم إلى اثنين. ينطلق كلّ من هذان الجسمان في اتجاه معاكس حتى يبتعدان عن بعضهما بعدا كبيرا بحيث أصبحا في الطرفين المتعاكسين لمجرتنا ولا يؤثر الواحد منهما على الآخر.

لنفرض الآن أن هناك مراقب في الطرف الأول للمجرة يقيس الصفة A1 للجسم الأول، طبعا، بحسب مبدأ اللايقين، لا نستطيع عندها أن نقيس الصفة B1 لنفس الجسم. وفي الجهة الأخرى من المجرة هناك مراقبٌ آخرٌ يقوم بقياس الصفة B2 للجسم الثاني، لكن بما أنّ محصلة الصفة A للجسمين هي صفر(A1+A2=0) نستطيع أن نعرف قيمة A2 للجسم الثاني بمجرد قياس قيمة A1.

كذلك الأمر بالنسبة للصفة B، بحيث إذا قسناها للجسم الثاني تستطيع أن نعرف قيمتها للجسم الأول. أي أننا نستطيع معرفة المقادير الأربعة لهذان الجسمان بواسطة عمليتا القياس المذكورتين.

تطرح هذه التجربة سؤالين، الأوّل هو: بما أنّه حسب تفسير كوبنهاجن، الجسم الأول لا يعرف ما هي قيمة A1 حتى يتم قياسها، كيف إذا يعرف الجسم الثاني ما هي قيمة A2 التي يجب أن يحصل عليها، إلّا إذا انتقلت المعلومات من الجسم الأول للثاني بسرعة لا نهائية؟

تذكر لقد ابتعد الجسيمان ابتعادًا كبيرًا عن بعضهما لأنهما في طرفي نقيض من المجرة! السؤال الثاني هو: ألم نستطيع أن نعرف بهذه الطريقة قياس الصفتين A1 و B2 بدقة متناهية بواسطة القياس المباشر و A2 وB1 بشكلٍ غير مباشر؟ ألا يناقض هذا مبدأ اللايقين؟

لهذا يستنتج مقال EPR بأنّ هناك خلل مبدأي في نظرية الكم. أو كما ذكر المقال: “لهذا يستخلص المرء بأن وصف الواقع بواسطة دالة الموجة [الكمية] هو غير كامل.”

هناك فرضية أساسيّة في هذا المقال وهي أن الواقع الفيزيائي محلي أو بكلمات أخرى يخضع لمبدأ المحلية (Principle of Locality)، أي أن ما يحدث في مجموعة معينة هنا لا علاقة له بما يحدث في مجموعاتٍ بعيدة جدًا عنها وهو بحسب أينشتاين وزملائه مبدأ أساسي في الطبيعة.

كان رد أنصار مدرسة كوبنهاجن جوهريًا أن مبدأ المحلية لا ينطبق على فيزياء الكمّ، وهو ما يسمى بالترابط الكمي (Quantum entanglement)، أيّ أنه إذا كان هناك جسيمان في تفاعل في أي وقتٍ في الماضي فنحن لا نستطيع عندها وصفهما كجسمين مستقلين حتى إذا كان البعد بينهما كبيرًا جدًا.

المذهل أنه في عام 1964 اقترح العالم الايرلندي الأصل جون ستيوارت بيل (John Stewart Bell) نظريةً خلّاقةً تُمَكّن من فحص أيّ التفسيرين هو الصحيح، تفسير أينشتاين أم تفسير مدرسة كوبنهاجن.

وبالفعل قام عددٌ من الفيزيائيين التجريبيين بفحص هذه النظرية ليجدوا أنّ الطبيعة تتفق مع مدرسة كوبنهاجن وليست مع أينشتاين وتفسيره الذي ادعى بأن نظرية الكم ليست نظرية كاملة، أيّ أن الترابط الكمي هي صفة حقيقية للطبيعة!

وهي حقيقة غريبةٌ جدًا وتبدو غير منطقيةٍ أبدًا، إذ أن جسم ما في مكان معين، كان قد تفاعل في الماضي مع جسم آخر، هو الآن مرتبط به حتى لو كان في الطرف الآخر من الكون، وهي ميزة قال وصفها أينشتاين: “تفاعل مخيف من بعيد” (spooky action at a distance)!
تفسيرات نظريّة الكمّ.

كما رأينا فإن فهم معنى قوانين نظرية الكم وإسقاطاتها على طبيعة الواقع ومعناه هو أمرٌ في غاية الأهمية، لكن بالرغم من أهميته فهو أمر يشغل في الأساس فلاسفة العلوم، لأن أغلب الفيزيائيين يستعملون قوانين نظرية الكم ويطوّرون تطبيقاتها من غير التساؤل عن معناها الفلسفي العميق ويقبلونها كما هي.

فهذه النظرية، بالرغم من الأسئلة التي تثيرها، هي أنجح نظرية فيزيائيّة عرفها البشر في تاريخهم وتصف بدقةٍ كبيرةٍ الأغلبية الساحقة من الظواهر من حولنا (باستثناء المجموعات التي تحتاج أيضًا نظرية أينشتاين للجاذبية).

من أجل تطوير فهم عميق لنظرية الكم هناك أكثر من 20 تفسيرًا مختلفًا لقوانينها ومعناها التي اقترحت من قبل فيزيائيون و فلاسفة.

ما يشغل هذا التفسيرات هو المعنى العميق لنظرية الكم وعلاقتها بالواقع الموضوعي، ما هي العناصر الحتمية والاحتمالية في هذه النظرية، ماهية وتصنيف الادعاءات الأنطولوجية (التي تتعلق بما هو موجود) والابستمولوجية (التي تتعلق بكيفية معرفة ما هو موجود) التي تحملها هذه النظرية، ما هي الصفات المحلية (local) والصفات المترابطة (entangled)، كيف نفهم دور المراقب في تحديد نتائج التجارب، والخ.

لا يسعني هنا ذكر كل هذه التفسيرات ولكني سأذكر باقتضاب شديد بعض التفسيرات المهمة منها. لقد ذكرنا حتى الآن ثلاثة من هذه التفسيرات، الأول هو تفسير مدرسة كوبنهاجن، الثاني هو تفسير أينشتاين والمتغيرات المستترة، والثالث هو توجه محايد، وهو كما ذكرت توجه أغلب الفيزيائيين.

سأبدأ بأحد أكثر التفسيرات إثارةً، وهو التفسير المعروف باسم “تفسير العوالم المتعدّدة” (many-worlds interpretation)، الذي اقترحه عام 1957 هيو إيفرت الثالث (Hugh Everett III).

يرفض هذا التفسير الفرضيّة القائلة بأن التجربة تُرغم الطبيعة على اختيار إحدى الإمكانيات الموجودة أمامها، بل يفرض بأنّ الكون يختار كل الإمكانيات المعروضة أمامه ولكن لكل من هذه الخيارات ينشأ عالم مختلف يتطور، بعد هذا الاختيار، بشكلٍ منفصلٍ عن العوالم التي تمت بها اختيارات أخرى.

وهو تفسير يحلّ بعض إشكاليات نظرية الكم ولكنه يقترح وجود عوالم متوازية تخلق عند كل عملية قياس (أي تفاعل) بيننا وبين المجموعات الكمية، وهو أمر يحدث كل الوقت.

هذا التفسير يدخلنا في متاهات فيزيائية وفلسفية فهو يبدو، لأول وهلة على الأقل، أنه يفسر وضع معقد بواسطة وضعٍ أكثر تعقيدًا. المفاجئ في الأمر هو أن هذا التفسير يجد قبولًا عند عدد لا بأس به من الفيزيائيين وهو يدخل ضمن إطار النظريات متعددة الأكوان (multiverse theories).

التفسير الأخير الذي أذكره هنا هو أيضًا مثيرٌ للاهتمام والجدل، ويسمى “الإدراك يؤدي للانهيار” (consciousness causes collapse)، والقصد هنا انهيار دالة الموجة لتختار إمكانيةً واحدةً من كل الإمكانيات المتاحة لها.

ويدعي مقترحو هذا التفسير، جون فون نيومان ((John von Neumann، وهو أحد آباء الحاسوب الحديث) ويوجين ويغنر (Eugene Wigner)، بأنّ عملية القياس تتطلب كائنًا واعيًا للقيام بها وهو جزءٌ لا يتجزأ من التجربة.

أيّ أنّ وعينا هو الذي يتفاعل مع المجموعة التي نريد قياسها ويجعلها تأخذ حالة معينة خلال عملية القياس. وقد يبدو هذا التفسير غريبًا لأول وهلة، ولكن في السنوات الأخيرة تزداد الدلائل حول الطبيعة الكمية للعمليات البيولوجية التي تتحكم في إدراكنا.

تعتبر المجموعات البيولوجية عادةً مجموعات كلاسيكية ولكن هناك اعتقاد بأن فيزياء الكم قد تلعب دورًا في عملية الإدراك والتفكير التي تحدث في الدماغ.

بدأ هذا الاعتقاد مع كتاب الرياضي الشهير روجر بنروز (Roger Penrose) بعنوان “عقل الإمبراطور الجديد” (The Emperor’s New Mind) والتي اقترح بها بأن حل لغز الإدراك يكمن في مجال الأبعاد التي يتم بها الانتقال من فيزياء الكم إلى الفيزياء الكلاسيكية.

ولكن قد يطرق هذا السؤال أذهاننا: ما لهذا وللتجارب المخبرية؟ ما علاقة الطبيعة الكمية لعملية الإدراك والكترونات التي تتداخل في تجربة يانغ؟

تشكك هذه الأسئلةٌ المثيرةٌ في وجود واقع موضوعي محدد. يبدو هذا التفسير لي مبالغا فيه، ينجرف على أمواج الحماس لهذه النظرية الخلابة، فماذا إذا حضّرنا تجربةً ودربنا كلبًا ذكيًا بأن يقوم بتشغيلها ونحن بعيدون عن المختبر، هل عندها يحدد نتيجة التجربة وعي الكلب؟ وإذا كان هذا فكيف لا تفرق الطبيعة بين وعينا ووعي الكلب بل تعطينا نفس نتائج التجربة؟

باعتقادي الطبيعة لا تحتاجنا كي تكون، فهي حقيقيةٌ بغض النظر عن إذا رصدناها أم لا، فهي ليست كجمال حبيبة يراها عشيقها آيةٌ في الحسن بينما يراها الآخرون امرأةً عادية.

الطبيعة هي واقع موضوعي لا يحتاجنا ليكون ولو بشكلٍ جزئي! المثير للاهتمام في الأمر بأن أغلب هذه التفسيرات عادةً ما تثير أسئلة أشد غرابة من النظرية الذي تحاول فهمها، فبدلًا من تسهيل إدراك الطبيعة علينا، تجعلنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

لربما علينا أن نقبل نظرية الكمّ من غير تساؤلات ونتبع نصيحة: احسب واصمت. ولكن إذا قبلنا هذا نصبح كالحاسوب الذي يقوم بحساباتٍ معقدًةٍ جدا ولكنه لا يفقه شيئًا ممّا يحسبه.

فجمال الفيزياء والطبيعة بالنسبة لنا تكمن في عملية الإدراك التي من غيرها نفقد الميزة الأساسية من دراستنا للطبيعة، وهي محاولة فهمها!ّ هذا الفهم وإن كان صعبًا، منقوصًا، وحتى غير دقيق، هو الذي يرفعنا عن مرتبة الآلة التي تنفذ سلسلة من التعليمات التي غذاها بها أحدهم.

إذا، فليحسب من يشاء وليصمت من يشاء ولكن هذا لا يعفينا من واجب المعرفة ولا التمتع بنشوة فهم الطبيعة.

الإرادة الحرّة

لا يسعني هنا الدخول في كل الإسقاطات الفلسفية لنظرية الكم ولكني أود أن أذكر باقتضاب شديد بعض النقاش الفلسفي على الرغم من كونه خارج بؤرة تركيز وسياق هذا المقال.

وهو العلاقة بين الحتمية والإحصائية في قوانين الطبيعة وعلاقتها بالإرادة الحرّة. كما رأينا، أدت الحتمية في الفيزياء الكلاسيكية بالبعض إلى الاعتقاد بأن “شيطان لابلاس” يعرف كيف سيتطور الكون في كل لحظة.

إذا كان هذا صحيحاً فالإنسان أيضًا، المكوّن من جسيمات مادية، لا يستطيع التحكم بتصرفاته لأن كل شيء قد قرر مسبقًا بحسب قوانين الطبيعة.

إذا كان هذا صحيحا فنحن غير مسئولون عن أفعالنا مهما كانت رديئة أو جيدة، ولا يحق لأي سلطة، قانونية أو دينية أو غيرها، محاسبتنا عليها!

ولكن هذا لا يطابق تجربتنا اليومية فنحن نقوم بخيارات كل الوقت، أي شيء نأكل اليوم، أي ثياب نلبس، ماذا نقرأ، كيف نتعامل مع أصدقائنا، وغيرها من آلاف القرارات اليوميّة التي نتخذها، والتي كان من الممكن أن نقرر غيرها. هذه كانت المشكلة الأساسية لمفهوم الارادة الحرة مع حتمية قوانين الطبيعة.

تحل نظرية الكم لأول وهلة هذه التناقض، لأن الطابع الإحصائي والاحتمالي لقوانينها، يترك المجال أمام نتائج مختلفة بالرغم من أن الظروف تكون مماثلة.

فقد يقرر أحدهم أن يتصرف بشكلٍ معين بينما يقرر شخص آخر أن يتصرف بشكل مغاير تحت نفس الظروف. في الحقيقة، لم تحل مشكلة الإرادة الحرة، كما تعرف بالفلسفة، مع قدوم فيزياء الكم، بل اتخذت شكلًا آخر.

فقد تحول السؤال من كيف يمكن لقوانين حتمية أن تسمح بوجود إرادة حرة، إلى سؤال آخر وهو، كيف يمكن لقوانين إحصائية عشوائية أن تحكم حرية إرادتنا وأن تترجم إلى خيارات منطقية مبنية على العقل والتحليل.

فإذا كانت الحتمية تدمر حرية الإرادة، فإن القوانين الإحصائية تحولها لإرادةٍ عشوائية، اعتباطيةٍ وغير منطقيةٍ. هناك الكثير ممّا يمكن أن يقال هنا بالطبع ولكني أكتفي بهذا القدر وأنصح القارئ المهتم بقراءة أحد المصادر العديدة التي كُتبت عن هذا الموضوع.


  • إعداد: البوفيسور سليم زاروبي
  • تحرير: أحمد عزب