اختار قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية كلمة (ما بعد الحقيقة post-truth)، بصفتها كلمةً عالميةً لعام 2016م، وكاختصار، تعني هذه الكلمة أن مفهوم الحقيقة لم يعد مهمًا، ويعرِّف القاموس كلمة (ما بعد الحقيقة)، بأنها تشير إلى الأحداث أو الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، عن الاحتكام للعواطف أو الاعتقاد الشخصي، وقد واجه العلماء هذا الرفض لأهمية الحقيقة والعلم، والحقائق الموضوعية دائمًا.

يعود أصلها كلمة (علم science) إلى الكلمة الفرنسية القديمة: (science) وتعني المعرفة، أو الفهم، أو المعرفة المبنية على التجربة، أو المهارة المكتسبة، وفي اللاتينية تسمى: (Scientia) وتعني المعرفة أو الخبرة المعرفية، إذ تستخدم كلمة المعرفة في مواجهة الرأي أو الإيمان.

هناك العديد من الطرق لممارسة العلم، منها ما يتضمن الاختبارات المعملية، والبحوث الاستقصائية، والبحوث الميدانية من النوعين: التجريبي وغير التجريبي، وبصرف النظر عن وسيلة التساؤل، تعد كل هذه الطرق محاولاتٌ لممارسة العلم؛ سعيًا وراء الحقيقة.

إن السعي وراء الحقيقة العلمية ليس عمليةً آليةً، بل بشريةٌ للغاية؛ وهذا ما يجعلها ذاتيةً بجانب كونها موضوعيةً أيضًا، وهذا التأكيد ليس سلبيًا، أو تصريحًا بأن الحقائق الموضوعية مستحيلةُ المنال بسبب محدودية البشر، إننا بالإشارة لتلك الجوانب الذاتية للتفكير العلمي لا نضع أنفسنا مع الرؤية النسبوية، التي تقول بأن الحقيقة فكرةٌ فارغةٌ من المعنى، إذا نظرنا إليها دون التحيز للثقافات أو التأثيرات الخارجية، وتبعًا لذلك فإن العلم لا يعطينا أي حقيقةٍ موضوعيةٍ، أو إجاباتٍ دائمةٍ، وكما علمت الجامعات الكبرى في العالم علماؤها، كجامعات كهارفرد وبنسيلفانيا، فإننا نشارك هؤلاء العلماء في تأكيدهم أن الحقيقة الواقعية قائمةٌ، وأن العلم بالتجربة والخطأ، قادرٌ على الوصول إليها.

يعد دوران الأرض حول الشمس حقيقةً، وقد اعتقل جاليلو جاليلي لذلك الاكتشاف، وفي النهاية ظهرت تلك الحقيقة للعيان، فبالحديث عن الاختلافات، تستطيع العين التمييز بين المختلفات وتقييمها، وتفضيل ما يبدو مألوفًا.

إن ما يجعل التفكير العلمي مختلفًا عن التفكير العادي، هو أنه يصحِّح نفسه بناءً على البيانات، والأدلة والمعلومات، فعلى سبيل المثال؛ رؤية داروين عن ماهية النوع البيولوجي وكيفية نشوئه، وكيفية نشوء النوع البشري، مبنيةٌ على الكثير من البيانات، التي تمكنت من بناء وحدةٍ موضوعيةٍ سائدةٍ كنموذج أصل الأنواع، ودحض النماذج الأخرى التي تقول بتراتب الأنواع كما قال سابقيه من فلاسفة اليونان: ( أبقراط وسقراط وأفلاطون وأرسطو)، وعلماء مثل: (بيرنير وبلومينباخ ومورتن)، وقد أدى التفكير العلمي بداروين لاستنتاج أن كل الأنواع انحدرت من سلفٍ مشترك.

وعلى الرغم من أن نظرية داروين في التطور لم تضع نهايةً لفكرة الترتيب الهرمي للأنواع، والتي تعكس اختلافاتٍ بين الأنواع بما يعطي بعضها أفضليةً على الأخرى، إلا أنها مهدت الطريق لتعزيز فكرة أن كل الأنواع لها قيمةٌ متساوية.

إن تساؤل العالم لا ينتهي أبدًا، والحقيقة العلمية تبقى متأرجحةً وقابلةً للدحض، وإن محدودية التفكير العلمي لا تهدم فرصتنا لإجراء البحوث العلمية، ولكنها تجعلنا مستعدين لتقبل أخطاء البحث، والحدود التي يعجز عندها الفهم البشري.

إن أحد المفاهيم التي يجب استيعابها، هو أن كل التحقيقات العلمية معرضةٌ للخطأ، ومن المهم معرفة ذلك؛ لدراسة أسباب تلك الأخطاء، بدلًا من أن نغفل الأخطاء في البيانات وفي عقل العالم، إن العلم وما نسميه التفكير النقدي، يحتاجان إلى النظام والاجتهاد، وإن التفكير كالعلماء يبقينا منفتحين على الأفكار والأسئلة الجديدة قبل أن نعتقد في الشيء، وإن المنهج العلمي يشجعنا على تغيير آراءنا، عندما تنكشف علينا بياناتٌ جديدة، وتشجعنا على الاستمرار ودراستها مجددًا.

هذه الطريقة من النظرة العلمية للعالم، تصبح من طبيعتنا مع مرور الوقت، حتى في أحداث اليوم وعلاقتنا مع الآخرين تصبح كالتجارب، وعندما لا تأتي النتائج كما نتوقع، فإننا نسعى لطريقةٍ أو مقاربةٍ أخرى لحل المشكلة، إن التفكير كالعلماء هو رحلةٌ طويلة المدى.

وهناك سمةٌ أخرى للتحقيق العلمي لا يدور حولها الحديث كثيرًا، وهي الأمانة أو النزاهة العلمية، والتي نأمل أن يتحلى بها الطلاب دومًا، خصوصًا عندما نجري تجربةً ما، فمن المتوقع منا أن نشير إلى ما نعتقد أنه قد يجعلها غير صحيحةٍ أو غير جديرةٍ بالثقة، وليس فقط ما نعتقد أنه يجعلها صحيحةً، ويجب أن نعطي تفسيراتٍ بديلةٍ للبيانات، البياناتُ المحددة التي قد تشكك في تفسيراتنا يجب أن ندلي بها؛ ويجب أن نعطي أي شيءٍ أو استنتاج قد يحتمل خطؤه.

إن نيتنا تكمن بأن نعطي كل الحقائق والمعلومات لمساعدة الآخرين في تقييم بحثنا، وليس أن نعطيهم المعلومات التي تقنعهم بالحكم في اتجاه واحد، فستتأكد الحقيقة عندما تعاد التجربة بواسطة علماء آخرين، لذلك فإننا نتشجع لفحص تحيزاتنا وأن نكون أمناء مع أنفسنا.

وعندما نتحدث عن التفكير العلمي، فإننا نتحدث عن الفضائل التي تمنحها لنا طريقة التفكير التي تشمل تجميع المعلومات بأمانة واختبارها، والسعي لمعرفة كيفية استخدامها لمصلحة الإنسانية.


  • المترجم: محمد إيهاب
  • المدقق: رجاء العطاونة
  • تحرير: جورج موسى
  • المصدر