من الأمور المحبطة خلال التعامل مع النرجسيين، هو محاولتهم الدائمة لترك انطباعٍ إيجابي عن أنفسهم لدى من حولهم، كإهدار الجهد في اختيار لباسٍ لائقٍ لمناسبات تافهةٍ، أو سعيهم لاستلطاف الغرباء، ويصمم النرجسيون على الظهور بأفضل مظهرٍ ممكن، وذلك من خلال تمضية ساعاتٍ أمام المرآة؛ لتصفيف شعرهم، أو وضع مساحيق التجميل، والإسراف في اقتناء ملابس ومجوهراتٍ وأحذية فوق طاقتهم، وكل هذا مع نكرانهم لهذا الجهد المبذول.

و يشير الباحثون المهتمون بدراسة النرجسية، إلى أن هؤلاء الأفراد يلجؤون إلى الكذب أكثر من غيرهم، خصوصًا في اختبارات تخص أفعالهم ذات الصبغة النرجسية، ونتيجةً للقلق حيال النرجسيين وميولهم نحو الجودة الزائفة، أو إخفاء شخصياتهم الحقيقية من خلال أجوبتهم، قادت عالمة النفس بـ (جامعة جورجيا – University of Georgia) (شيلسي سليب – Chelsea Sleep)، مع مجموعةٍ من زملائها تحقيقًا بالموضوع، ولاحظ فريق العمل أنّه:

 

” بالرغم من ارتباط النرجسية بكلٍّ من تفخيم الذات، والإدراك المغلوط، أو غير الدقيق للنفس، تظل العلاقة مبهمةً بين هذه الميزات النرجسية ومدى صحة الأجوبة على استطلاعات الرأي حول الصحة النفسية، مما يزيد الأمر سوءًا؛ لأن دراسة الميول نحو تزييف الأجوبة خلال الاستطلاعات، تبدو الطريقة الوحيدة للتحقيق في شخصيات الأفراد أصحاب الحاجة إلى تضخيم الذات، مع قلة معرفتهم بذواتهم”.

وللتعامل مع الخلل، درس فريق جامعة جورجيا ثلاث مجموعات من المعطيات، زيادةً على فئتين من المتمدرسين، الأولى بلغ أفرادها 482، والثانية بلغ أفرادها 228، وهناك فئةٌ من سجنٍ إصلاحي بمدينة ميشيغان (Michigan) تتكون من 702 نزيلًا، أجرت كل فئةٍ اختبارًا موحدًا للنرجسية – قائمة الشخصية النرجسية – (the Narcissism Personality Inventory, or NPI)، ويتكون الاختبار من 40 سؤالًا؛ لتشخيص خلل الشخصية النرجسية، ويرتكز على ثلاثة عوامل، هي :

1- استعراض الفخامة.

2- الاستحقاق/ الاستغلالية.

3- القيادة/ السلطة.

 

بالإضافة إلى اختبارين لقياس كل من مكوِّنيْ العظمة والضعف، والقسمان الأساسيان للنرجسية، كما أتم المشاركون ثلاث اختبارات موحدة للطب النفسي؛ لتشخيص عوامل إضافية مشاركة في خلل النرجسية أو مرافقة لها، و أخيرًا، أجرى الباحثون ما يسمى بـقائمة مينيسوتا للـشخصـية متعددة الأوجه – 2 – ( “the Minnesota”Multiphasic Personality Inventory -2 (MMPI-2) )، وهي مقياس واسع الاستعمال خصوصًا لدى الحالات المرضية.

تحتوي الاختبارات الثلاث السالفة الذكر على مقاييس خاصةٍ بالرغبة الاجتماعية، أو الكذب من أجل ترك انطباعٍ جيدٍ لدى الباحثين، تتضمن هذه الاختبارات المئات من الأسئلة، ما يجعلنا نظن أنّ الراغبين في تزييف صورتهم عبر الكذب سينتهي بهم المطاف مفضوحين أمام الباحثين عند وقوعهم في تناقضٍ ما، خصوصًا لدى السجناء الذين قد يربط بعضهم هذه الاختبارات بالعلاج الذي ينتظرهم خلال فترة السجن، وعلى عكس كل هذا، أظهرت النتائج أنه مع ازدياد مستوى النرجسية لدى الفرد، ضَعُف احتمال تزييفه لصورته أمام الباحثين.

وتميزت نتائج دراسة عالمة النفس (شيلسي سليب) على مستوى النرجسية الفخمة والنرجسية الضعيفة، إذ من الواضح أن النرجسيون الضعفاء لا يؤمنون حقًا بتطابقهم مع الصورة الخارجية التي يتصنعونها أمام العالم الخارجي، و تبقى تلك الصورة مجرد عرضٍ لا أكثر ولا أقل، وهم في الواقع يرون عيوبهم وضعفهم، وكلما زادت عيوبهم ازداد إحساسهم بالضعف، ومعه تزداد حِدّة عرضهم، ومن خلال مقارنة الأجوبة على مقاييس الشخصية النرجسية مع مقاييس الكذب، نجد أن أصحاب النرجسية الضعيفة يعترفون بضعفهم العاطفي، وقلقهم وكآبتهم بصراحةٍ أكثر من غيرهم.

 

ويؤكد الباحثون على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار، أن الاختبارات ليس لها أي تبعات لدى المختَبَرين من الفئتين الأولى والثانية، وكذلك لدى السجناء، باعتبار أن الاختبار تقوده مجموعة من الباحثين.

ولهذه النتائج تجلياتٌ مهمةٌ في علاقتنا مع الأشخاص النرجسيين في حياتنا، فهم ليسوا منغلقين على نقاط ضعفهم، كما أنهم لا يخجلون من الاعتراف بميولهم النرجسي، خصوصًا إن لم يكن لديهم ما يخسرونه جراء ذلك الاعتراف، مما تزداد احتمالات خسائرهم، وكما هو الحال عند التقدم لوظيفة أو الدخول في علاقة عاطفية، فيصبح الرهان لاغيًا، ومن ثم سيلجؤون إلى المراوغة دون تردد، حتى وإن كان الكذب خيارًا أمامهم، فلن يترددوا.

ويختلف الأمر لدى الأشخاص أصحاب النرجسية الضعيفة الذين يتسمون بتعريف: (قلة فخامتهم)، فكلما شعروا بالاطمئنان، يصبحون قادرين على الاعتراف بمشاعرهم الحقيقية تجاه أنفسهم، وبضعفهم وبخزيهم وبرغبتهم في نيل الإعجاب من الغير؛ لتزداد ثقتهم بأنفسهم، ولا يشعرون بالخطر، ومن الطبيعي أن نتوقع تراجعهم وعودتهم إلى قوقعتهم وارتيابهم وعزلتهم وحزنهم.

 

ويوجد اختلاف بين مدى الصراحة في مختبرات علم النفس ومثيلتها في العلاقات العامة، والوضعيات الاجتماعية، وتبقى الخلاصات التي تأتي بها دراسات علم النفس حول النرجسية على مستوى عالٍ من الصحة.

وإن كنت تحاول فهم نرجسيٍّ قريب منك، أو تحاول فهم نفسك، كن متأكدًا أن المؤلفات الأدبية مصدرٌ غنيٌ بأفكارٍ ورؤى مهمة، ونجاح علاقتنا رهينٌ بالصراحة المتبادلة، وهذا البحث العلمي خطوةٌ أولى نحو تفهّمِ وتقبّلِ الأفراد الذين يعانون في علاقتهم الاجتماعية بسبب النرجسية.


  • المترجم: عبد العزيز برقوش.
  • المدقق: رجاء العطاونة.
  • تحرير: ياسمين عمر.
  • المصدر