الإنزيم الذي يفسر أصل الحياة
الآن في أنبوبة اختبار


 

محاكيين التّطوّر الطَّبِيعِي في أنبوب اختبار، قام العلماء في The Scripps Research Institute -TSRI- بتصميم إنزيم له خاصّيّة فريدة من نوعها من الممكن أن يكون شديد الأهمّيّة في أصل و نشأة الحياة على الأرض.

عدى عن إنارة طريقٍ محتمل لنشأة الحياة، على الأرجح أنّ هذا الإنجاز سوف ينتج أداةً قويّةً لتطوير جزيئات كيميائيّة مفيدة وجديدة.

“عندما أخبرنا النّاس عن هذا الاكتشاف، تساءلوا في بعض الأحيان ما إذا كنّا نقترح احتماليّة وجود هذا الإنزيم فقط – لكن لا، نحن حقّاً صنعناه،” قال Gerald Joyce، البروفيسور في قسم الكيمياء و الأحياء الخلويّة الجزيئيّة في TSRI و مدير Genomics Institute of Novartis Research Foundation (معهد الجينوم في مؤسّسة نوڤارتيس للبحوث).

جويس هو الكاتب الرّئيسي للتّقرير الجديد الذي نشر على الإنترنت من قبل مجلّة Nature في التَّاسِع عشر من أكتوبر، ٢٠١٤.

التّحدّي في صنع نُسَخ:

الإنزيم الجديد اسمه ribozyme (ريبوزيم) لأنّه مصنوع من الحمض الرّيبوني RNA.
مظاهر الحياة الحديثة المرتكزة على الDNA تبدوا أنّها تطوّرت من RNA مبسّط، والكثير من العلماء يظنُّون أنّ جزيئات الRNA التي تملك خواص إنزيميّة كانت أوّل من كرّرت نفسها وتكاثرت على وجه الأرض.

يعمل الريبوزيم الجديد أساساً بهذه الطّريقة. يساعد الإنزيم في شبك وحياكة “نسخة” من قطعة صغيرة من الRNA، باستخدام قطعة RNA أصليّة كمرجع أو “قالب.” مع ذلك، فإنّها لا تصنع نسخة من جزيء متطابق تماماً مع نفسها، بل تصنع نسخة معكوسة عن نفسها -اليمين بدل اليسار، واليسار بدل اليمين- وبدوره، يساعد الريبوزيم “الأيسر” على تكوين نسخ أصليّة “يُمنى” كالنّسخة الأصليّة.

لا أحد صنع مثل هذا الإنزيم “العاكس” من قبل. ظهور هكذا إنزيم في عالم الRNA البدائي -والذي تدعمه هذه الدّراسة- من المحتمل أن يكون قد قام بإزالة عقبةٍ كبيرة من طريق نشأة الحياة.

الحياة على الأرض تطوّرت بطريقة جعلت في كل صنفٍ للجزيئات ترتيب “أيمن أو أيسر” مسيطر. جميع الRNA تقريباً، كمثال، ترتيبها أيمن وتسمّى D-RNA. هذا الاتّسام والتّشابه البنائي يجعل التّفاعلات ضمن الصّنف الواحد أكثرَ فعاليّةً -تماماً كما المصافحة باليد أكثر فعاليّةً عند التقاء اليمينان معاً، أو اليساران معاً، عوضاً عن اليمين واليسار.

“عُلِّمَ العُلماءُ بشكلٍ عام ليفكّروا أنّه من اللازم أن يكون هناك ترتيب بنائي معيّن للجزيئات المتفاعلة حتّى تبدأ الحياة،” قال جويس.

مع ذلك، يبدو من المحتمل أنّ جزيئات الRNA البسيطة في الأرض البدائيّة قديماً تكوّنت من خليط من الأصناف اليمنى واليسرى. على الرّغم من هذا المنطق، قام جويس قبل ثلاثين عاماً -حيث كان حينها طالبٓ دراساتٍ عليا- بنشر بحثٍ في مجلّة Nature وإظهار أنّ الجزيئات المكرّرة لنفسها كانت ستمر بصعوبة لتتطوّر في هكذا خليط، حيث أنّ أي جزء صغير من الRNA جمع نيوكليوتيدات (المكوّنات الأساسيّة لأحماض مثل الDNA) عشوائيّة حوله لكان قد دمج نيوكليوتيد معاكس التّرتيب البنائي له -ممّا أدّى إلى سد أي تركيب أو صنع آخر لهذه النّسخة.

“منذ ذلك الوقت ونحن نتساءل عن كيفيّة نشوء الRNA المتكاثر على الأرض البدائيّة،” قال جويس.

تحكّم أقل:

واحدة من النّظريّات تقول بأنّ إنزيمَ RNA أيمناً ظهر مع القدرة على عمل نسخ من جزيئات RNA يمنى أخرى، شاملاً نفسه، وتجاهل الL-RNA الأيسر البنية. جويس وغيره صنعوا مثل هذه الرّيبوزيمات في المختبر، ووجدوا أنّ ميل الRNA للتّلاصق وتكوين أزواج مع جزيئات RNA أخرى -والذي يعد خاصّيّة مفيدة للعديد من مهامّها الخلويّة- يعيق قدرتها على العمل كناسخ لجزيئات الRNA الأخرى. هذه الرّوبوزيمات النَّاسخة للRNA تعمل بفعاليّة مع بعض التّسلسلات، لكن ليست جميعها.

يكون الإنزيم المتكاثر للRNA ذو الهدف العام أقل تحكّماً للRNA الذي يديره. “بهذه الطّريقة تعمل الإنزيمات البروتينيّة المتطوّرة لاحقاً والتي تُكرّر الDNA والRNA -هي ليست أحماض أمينيّة ولذلك ليست لديها القدرة تكوين أزواج قواعديّة مع الأحماض النوويّة التي تنسخها،” قال جويس.

ولكن كيف لإنزيم RNA أن يعمل هكذا في عالَمٍ بدائي يقتصر على الRNA فقط؟ ربّما يحدث هذا فقط في حال تفاعلت مع RNA معكوس البنية، وَالَّذِي منعت أن تكوّن روابط قواعديّة متتابعة معه.

“بدأنا بالتّفكير: نشعر بالغرابة قليلاً، لكن من الممكن أن تصافح أحداً باليد الخطأ،” قال جويس.

التّطوّر في أنبوب اختبار:

لا أحد من قبل صنع أو حتّى حاول صنع ريبوزيم يعمل مع جزيئات الRNA حتّى لو كانت معكوسة، يسرى البنية، لكن في الدّراسة الجديدة، زميل جويس الذي يعمل في بحوث ما بعد الدكتوراة Jonathan T. Sczepanski استخدم تقنيّة تسمّى “التّطوّر في أنبوب الاختبار” للإتيان بواحد.

بدأ جوناثان بمحلول يحوي مليون مليار (١٠^١٥ من اليمين لليسار) جزيء RNA قصير. تسلسل الجزيئات كان بالأساس عشوائيّاً، و جميعها كان أيمن البنية. “لقد نظّمناها لتكون الجزيئات القادرة على تحفيز وتسريع تفاعل ارتباط مع RNA أيسر قابلة للإخراج من المحلول ومن ثمّ تكرارها ونسخها،” قال سيبانسكي.

بعد عشرة سنوات فقط من دورات الاختيار والتّكرار هذه، حصل الباحثون على ريبوزيم قوي. عمل الباحثون بعد ذلك على توسعة حجم المنطقة الأساسيّة، ووضع الرّيبوزيم خلال ست دورات أخرى، وقص وتقليم النيكليوتيدات الغريبة. النّتيجة: ريبوزيم ذو ٨٣ نيوكليوتيد، معتدل من ناحية تحديده للتسلسلات، وقادر بثقة على ربط وحياكة قطعة اختبار من RNA أيسر للشكل الأصلي -تقريباً مليون مرّة أسرع من السّرعة المعتادة بدون استخدام الإنزيم.

أظهر الفريق أيضاً أنّ الرّيبوزيم الجديد قادر على العمل دون عوائق حتّى في حضور نيوكليوتيدات الRNA المشابهة بالبنية.في اختبارٍ أخير، قام الرّيبوزيم الجديد بتحفيز تجميع ١١ قطعة من الRNA لتكوين نسخة كاملة من ريبوزيم منعكس البنية، والذي بدوره استطاع تجميع قطع الRNA اليمنى.

يعمل الباحثون الآن على وضع الرّيبوزيم الأيمن (ومع التّكرار، رفيقه الأيسر) ضمن دورات اختيار جديدة، حتّى تحقّق التّكرار الكامل للRNA دون الاعتماد على تسلسل معيّن إطلاقاً. هذا سيجعل منه إنزيم متكاثر، عام الهدف، قادر على تحويل محلول نيوكليوتيدات بدائي إلى محيط حيوي شاسع.

“بالنّهاية، نريد أن نطلق الإنزيم ونحرّره -بالمختبر، طبعاً، وليس في الطّبيعة- وجعله يكرّره نفسه ويتطوّر لنرى ماذا سيحدث،” قال جويس.


يوسف عبد الرّزّاق

المصدر