أحدثت نظرية الصفائح التكتونية ثورةً في الطريقة التي يُنظر بها لكوكبنا، الثورة التي بدأت تحديدًا في يوم السابع من سبتمبر عام 1967.

أي منذ ما يقرب من خمسين عامًا حينما نشرت ورقة بحثية سببت قفزةً هائلة في صياغة تاريخ العلم.

كان يُعتقد في السابق أن الأرض مكونةٌ من حجر – بالمعنى الحرفي للكلمة – وبصرف النظر عن حركة أجزاءٍ منها صعودًا وهبوطًا في نفس المكان، كان يُعتقد أن القشرة تحت القارات والمحيطات – على حدٍ سواء – ثابتةٌ في مكانها.

حتى اقترحت ورقة بحثية في «دورية الطبيعة» أمرًا مغايرًا. تحت عنوانٍ مهذب «شذوذ المغناطيسية فوق إرتفاعات المحيط» وقدمت أدلةً دامغة على أن أسطح المحيطات أبعد ما تكون عن كونها ثابتة وأنها تتصرف كما لو كان قاع المحيط مثل حزامٍ ناقل ضخم يزحف عبر وجه الأرض.

قُدمت هذه الورقة من قِبل طالب الدكتوراه في جامعة كامبريدج (فريد فاين) Fred Vine والمشرف عليه (دروموند ماثيوز) Drummond Matthews، وعُرِفت باسم «فرضية فاين – ماثيوز» وأشعلت ما يُعرف باسم «ثورة الصفائح التكتونية».

كلمة «تكتونيات» مشتقة من الكلمة اليونانية تكتونيكوس أي «بنيوية» نسبةً لمن يبني. إذ تصف الصفائح التكتونية الطريقة التي بُنيت بها القشرة الأرضية.

لقد ظهر فهم كامل لنظرية الصفائح التكتونية بسرعة في غضون سنواتٍ قليلة من ورقة «فاين وماثيوز». وكانت هذه بداية فهمنا للطبيعة الحقيقية لكوكبنا، حيث يتم تقسيم سطح الأرض – مثل الأحجية – إلى ألواح جامدة كبيرة، نسميها الصفائح. علاوة على ذلك، تبقى هذه الصفائح في حالة حركة مستمرة مدفوعة بالحرارة الداخلية للكوكب، ثم تتحطم معًا، تتمزق معًا أو يطحن بعضها البعض.

للمرة الأولى، قدمت الصفائح التكتونية تفسيرًا مقنعًا لكيفية تشكُّل سلاسل جبلية عظيمة، وتوزيع الزلازل والبراكين. أكثر من ذلك، أنه بعد خمسين عامًا من ثورة «فاين وماثيوز» لا تزال تقدم رؤًى جديدة في علم  طبقات الأرض لكوكبنا.

فاين وماثيوز لم يرغبا في تحريك ثورة الصفائح التكتونية، فقط كانا يحاولان حل لغزٍ ما. إذ أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تمت إعادة نشر «مقاييس المغنطيسية» الحساسة للغاية، لدراسة القاع الصخري لقاع المحيط – كانت تستخدم أصلًا لتحديد غواصات العدو من خلال بصمتها المغناطيسية – واكتشفوا شيئًا غريبًا خلافًا لأي شيء على الأرض، حيث وجِّد أن قاع المحيط ذو نمط مغناطيسي مخطط.

فاين وماثيوز فسرا الموضوع: يبدو أن أرضية المحيطات التي تبدو ثابتة كما نعتقد «تتحرك» وترسِّخ الصهارة التي ترتفع من الشقوق على طول منتصف ارتفاعات المحيطات وبالتالي تضيف مواد جديدة إلى قاع المحيطات التي تنتشر بعيدًا عن الإرتفاعات على كلا الجانبين.

كلما تجمدت  الصهارة ستظهر في المجال المغناطيسي المسجل لهذا اليوم، وبما أن الحقل المغناطيسي للأرض يعكس اتجاهه كل نصف مليون سنة أو نحو ذلك، انتهى قاع البحر بصخور ذات قطبية مغناطيسية معكوسة.

لقد كان التفسير أنيقًا جدًا وقويًا لدرجة أنه لابد وأن يكون صحيحًا. لكنه أيضًا أعاد عن غير قصد نظرية نُبذت لوقت طويل كانت دومًا محل جدل.

في عام 1915، اقترح «ألفريد فاجنر» عالم الأرصاد الجوية الألماني البارع والمستكشف القطبي الباسل، أن اليابسة كانت مجتمعةً في قارة ضخمة كانت تسمى «بانجيا» قبل أن تتفكك وتنتقل إلى مواقعها الحالية. وأصبحت الفكرة تعرف باسم «الانجراف القاري».

إلقاء نظرة على أي أطلس للعالم يكشف أن القارات الكبرى في الأرض تبدو وكأنها قطعة من أحجية متناثرة. تَقَلُص جنوب المحيط الأطلسي ومرفق أمريكا الجنوبية يناسب بشكل جيد زاوية غرب أفريقيا.

وتَقَلُص المحيط الهندي والقطب الجنوبي والهند يناسب بشكل جيد الجناح الجنوبي الشرقي من أفريقيا، مع أستراليا التي تناسب الجانب الجنوبي من القارة القطبية الجنوبية.

لكن بالإضافة إلى التدقيق في الخرائط، جمع «فاجنر» مجموعة مثيرة للإعجاب من الأدلة الجيولوجية والحفريات لدعم فكرته، نُشرت باللغة الألمانية عام 1915 في كتاب بعنوان «أصل القارات والمحيطات».

وأشار «فاجنر» إلى الرواسب الجليدية التي يجب أن تكون قد شُكِّلت حول غطاء الجليد القديم ولكنها موجودة الآن في قارات المناطق الاستوائية أو المعتدلة، مما يشير إلى أنها قد سافرت مسافات كبيرة من أصولها القطبية. في حين أن القارات التي تبدو وكأنها قطع بانوراما متطابقة لديها الآن مناخات ونظم إيكولوجية مختلفة بشكل كبير، لكنها مع ذلك تشترك في نفس الحفريات النباتية والحيوانية، مما يشير إلى أن النظم الإيكولوجية الخاصة بها كانت هي نفسها ذات يوم.

أضف إلى ذلك صورة سلاسل الجبال القديمة التي يبدو أنها كُسِّرت قبالة حافة قارية واحدة، إلا أنها ظهرت على الجانب الآخر من المحيط، مثل: جبال الأبالاش في أمريكا الشمالية التي تستمر بنفس شكل سلسلة كاليدونيا في شمال أوروبا وشرق جرينلاند.

كما كتب فاجنر: «إنها تبدو كما لو كنا نعيد صياغة قطع ممزقة من صحيفة عن طريق مطابقة حوافهم ومن ثم نتحقق ما إذا كانت خطوط الطباعة تتطابق بسلاسة. إذا حدث ذلك، لن نستنتج سوى أن القطع كانت متجمعة بهذه الطريقة».

وعلى الرغم من رجاحة هذه الأدلة، فقد اُستقبلت نظريته بدرجة واضحة من العداء عندما ترجمت إلى اللغة الإنجليزية بعد الحرب العالمية الأولى، خصوصًا في أمريكا حيث كان ينظر إلى فاجنر على أنه دخيل، في المقام الأول لأنه لم يكن عالم جيولوجيا – في الحقيقة كان عالم جيولوجيا لكنه أيضًا كان متعاطفًا مع الأفكار القادمة من ألمانيا بُعيد الحرب – فقد اعتمد المجتمع الجيولوجي من يوم فاجنر فكرة التحركات العمودية الواسعة في قشرة الأرض، بينما اُعتبرت الحركات الأفقية بدعة.

وصل العداء لنظرية فاجنر إلى قمته في اجتماع للجمعية الأمريكية لعلماء الجيولوجيا النفطية الذي نُظم لمناقشة الانجراف القاري في نيويورك عام 1926.

أُجبر فاجنر – بصفته أحد المشاركين – على تحمل الرفض الوحشي لنظريته. سجَّل التاريخ بعض الاستجابات الأكثر حدة: «أفٍ لهذا العفن!»، «إذا أردنا أن نصدق هذه الفرضية، يجب علينا أن ننسى كل ما تعلمناه في السبعين سنةً الماضية وأن نبدأ من جديد» و«أن أي شخص يحترم سمعته في الحدس العلمي لن يجرؤ على دعم مثل هذه النظرية».

مكسور الخاطر، عاد فاجنر إلى شغفه الآخر «البحث في المناخ القطبي لغرينلاند وغطائه الجليدي» وقاد بعثةً لإنشاء ثلاث محطات للإرصاد الجوي من الغرب إلى الشرق عبر الغطاء الجليدي، لكنها سقطت ضحية لتقلبات مناخ غرينلاند. في كارثة قطبية كلاسيكية، توفي بشكل بطولي بعد أربعة أيام فقط من عيد ميلاده الخمسين حينما انتفض لانقاذ  العلماء المحاصرين في المحطة الوسطى دون إمدادات.

نجا زميله «فريتز لوي» – بعدما جعله الصقيع يبتر أصابع قدمه باستخدام سكين الأغراض المتعددة – لينشئ لاحقًا إدارة الأرصاد الجوية في جامعة ملبورن، التي اندمجت في وقت لاحق مع كلية علوم الأرض.

تراجعت نظرية فاجنر الرائعة بعد وفاته، وعلى الرغم من السياسات والتحيزات التي سادت هذا الوقت، فإن أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو أنه لا يمكن لأحد أن يشرح بشكل مقنع كيف يمكن للقارات أن تتحرك عبر الأرض.

وكان فاجنر نفسه قد اعترف بالفشل عام 1929، في التنقيح الأخير لكتابه، حيث كتب الآتي: «من المحتمل أن الحل الكامل لمشكلة القوى التي تتسبب في حركة القارات سيستغرق وقتًا كبيرًا ليظهر .. نيوتن الخاص بنظرية الانجراف لم يظهر بعد».

لم تمت نظرية الانجراف بفضل مجموعة صغيرة من المؤيدين المؤثرين المنتشرين في جميع أنحاء العالم. وكان من أبرزهم صمويل وارين كاري (Samuel Warren Carey)، أستاذ الجيولوجيا في جامعة تسمانيا، وواحد من الشخصيات الكبرى في الجيولوجيا الأسترالية في منتصف القرن العشرين.

كان كاري مدافعًا صريحًا وعاطفيًا عن الانجراف القاري، لقد حافظ على الشعلة لعقود الطويلة عندما كان يسخر الغالبية العظمى من علماء الجيولوجيا السائدة من هذه الفكرة.

كان يتحدث بصوته المزدهر بشكل مطول إلى أي شخص من شأنه أن يستمع لمزايا نظرية الانجراف رغم  كل المعارضة التي يلقاها ورغم مكانته العلمية. لقد قام بدور المعارض الذي مرر دفاعه عن الفكرة لعدد لا بأس به من تلامذته.

في أواخر الخمسينيات، بدأ العلماء في تحويل انتباههم إلى الجيولوجيا المنسية في قاع المحيط، لأنه يتألف إلى حد كبير من البازلت الغني بالحديد، فإن إحدى الطرق لمعالجة هذه المشكلة الصعبة تتمثل في رسم خواصه المغناطيسية.

وتم نشر مقاييس مغناطيسية حساسة للغاية لاستكشاف هذا الجزء الغريب جدًا من الكوكب. يتم تحديد مغناطيسية أي منطقة معينة من قاع المحيط من خلال قياس القراءة الكلية للمغناطيسية وطرح القيمة الخلفية للمجال المغناطيسي للأرض.

بحلول أوائل الستينيات، سجَّلت مقاييس مغناطيسية تم سحبها حول سطح المحيطات الهاديء والأطلسي والهندي شيئًا مذهلًا. ما وجدوه كان نمطًا غامضًا مثل الموجة. في القمم الطويلة كانت الإشارة المغناطيسية أقوى قليلًا من حقل الخلفية، أما في القيعان كانت الإشارة أضعف قليلًا.

وعلى الخريطة كانت تشبه خطوط الحمار الوحشي بعرضٍ يصل إلى حوالي 10 – 20 كم. ويبدو أن هذا النمط متركز على ارتفاعات منتصف المحيط الغامضة، وهي سلسلة جبال محيطة بالكرة الأرضية تحت سطح البحر بسبب انشقاق عميق على طول قمم هذه الجبال.

ويبدو أن النمط المغناطيسي ينتشر بشكل متناظر على هذه الارتفاعات، حيث يتدفق مئات الكيلومترات على كلا الجانبين. لم ير الجيولوجيين مثل هذا الحمار الوحشي المغناطيسي من قبل، لقد كانوا في حيرة لفهم ماذا يحدث.

تطرق فاين وماثيوز إلى الموضوع، كان ماثيوز أحد العلماء الذين يجمعون بيانات المغناطيسية من المحيط الهندي. بالعودة إلى  كامبريدج، وباستخدام أجهزة الكمبيوتر الكئيبة الشائعة في تلك الحقبة، كلف تلميذه فريد فاين بمهمة تحليل البيانات.

كيف يمكن تفسير نمط الشرائط المغناطيسية المنتشرة على جانبي المحيطات؟ قام فاين بقفزة عبقرية، وربط اثنين من الأفكار الغريبة والغامضة.

الأولى تتمثل في مفهوم المجال المغناطيسي للأرض – الذي على الرغم من تذبذبه عادةً ما يتلائم بشكل وثيق مع القطبين الجغرافيين –  يمكنه أن يقلب أقطابه من وقتٍ لآخر، فالشمال يمكن أن يصبح جنوبًا!

لقد اقترح  برنارد برونهس (Bernhard Brunhes) لأول مرة هذه الفكرة المذهلة عام 1905 عندما وجد الصخور معكوسة مغناطيسيًا في تدفقات الحمم القديمة في فرنسا.

أما الفكرة الثانية، التي يشار إليها باسم «انتشار أرضية البحر» (sea-floor spreading)، فقد رأت أن ارتفاعات منتصف المحيطات كانت ممتدة على غشاء قاع المحيط، حيث يتم سحب جانبي المرتفعات ببطء.

الصهارة المنصهرة تتدفق من المناطق السفلية لتغلق الفجوة المتزايدة باستمرار بصخور الحمم الجديدة. وقد نشر اثنان من العلماء الأمريكيين هذه الفكرة بشكل مستقل، روبرت ديتز (Robert Dietz) في عام 1961 وهاري هيس (Harry Hess)  في عام 1962.

وكان انتشار أرضية البحر متسقًا مع ما كان معروفًا قليلًا من ارتفاعات منتصف المحيط في ذلك الوقت ولكن – مثل فاجنر قبلهم – كان هيس وديتز غير قادرين على إثبات نظريتهم الجديدة.

حتى هيس وهو أحد الجيولوجيين الأمريكيين البارزين في وقته، وصف نفسه بأنه «تجربة في الجيولوجيا الشاعرية» كنايةً عن أن الفكرة حالمة وخيالية.

يمكن القول بأن فاين وماثيوز قد وجدا الأدلة التي ستحول الجيولوجيا الشاعرية إلى «علم الجيولوجيا: الخطوط المغناطيسية في أرض المحيط».

كما لخصا الأمر دايتز وهيس (Dietz and Hess): تكونت أرضية المحيطات الجديدة باستمرار من الصهارة المنصهرة والحركة الدائبة بعيدًا عن المرتفعات، تمامًا مثل الحزام ناقل الحركة يتحرك ببطء. كلما بردت الصهارة لتشكيل الصخور البازلتية الجديدة، فإنها تترك بصمتها المغناطيسية على المجال المغناطيسي للأرض في وقتها.

يمكن اعتبار قاع البحر المنتشر مثل مسجل الشريط، إنه يسجل الاتجاه المغناطيسي للأرض في الوقت الذي تم تشكيله.

الجزء المركزي من التلال، حيث يتم تشكيل قاع المحيط الجديد سوف يُنتج إشارة مغناطيسية أقوى من تلك الموجودة في باقي أجزاء التل، وهو الذي يمثل مجموع المجال المغناطيسي الطبيعي الحالي للأرض بالإضافة إلى المغناطيسية «الطبيعية» المماثلة من الصخور.

وتظهر الخطوط على كل جانب إشارةً ضعيفة في موقع الصخور التي تجمدت في التلال المحيطية قبل الانعكاس الأخير عندما كانت قطبية الأرض في الاتجاه المعاكس.

إن المغناطيسية الضعيفة على هذه الصخور هي مجموع المجال المغناطيسي الحالي  والمجال «المعكوس» الموجود في الصخور عندما تجمدت. بمعنى قيمتين معكوستين مجموعهما الجبري سيكون أقل كما لو كانت عملية طرح.

السؤال هو متى حدثت هذه الإنقلابات في مغناطيسية الأرض؟ إننا نعلم الآن من خلال القياس الزمني وقياس الخصائص المغناطيسية للطباقات الصخرية البركانية المتكونة فوق اليابسة أن أقرب تاريخ لهذه الإنعكاسات المغناطيسية قد حدث منذ ما يقرب من 780,000 سنة.

لذا فإن كل الصخور المتكونة في منتصف المرتفعات الموجودة في قلب المحيط لابد وأن تكون أصغر من هذا العمر وهي التي شهدت الإنقلاب المغناطيسي الأول بالنسبة لها.

إذا تحركنا أبعد من القمة  داخل التلال سيتم تسجيل الانعكاسات المغناطيسية القديمة باطراد في صخور قاع المحيط.

من خلال حل سر الانتكاسات المغناطيسية في قاع البحر، وجد ماثيوز وفاين الجزء الأخير الحاسم من اللغز. وأصبحت فكرة قاع البحر المنتشر حقيقة واقعة.

كان جزءً من نظام أعاد تدوير قاع البحر داخل وخارج الغطاء السفلي، والذي وفر في نهاية المطاف القوة التي من شأنها أن تفسر حركة القارات.

كان هناك في الواقع دليلًا ثالثًا، في واحدة من المظالم العظيمة في سجلات العلم، توصل الجيولوجي الكندي «لورانس مورلي» لنفس النتيجة التي توصل إليها فاين وماثيوسز حول انتشار قاع البحر والنمط المغناطيسي على قاع المحيط، ولكن كلًا من دوريتي الطبيعة والبحوث الجيوفيزيائية رفضتا له مخطوطة في وقت سابق من نفس العام 1963. للأمانة علينا الآن أن نحتفل بالذكرى الخمسين لفرضية «مورلي- فاين – ماثيوز».

بعد ما يقرب من 40 عامًا من كونها مُنعت من مناقشة محترمة، عادت نظرية الانجراف القاري الآن على الطاولة. بفضل مورلي وفاين وماثيوز، الآن هناك آلية لشرح ذلك: «انتشار قاع البحر».

على مدى السنوات الخمس اللاحقة أو نحو ذلك، تم دمج انتشار قاع البحر والانجراف القاري في التوليفة الكبيرة المعروفة الآن باسم نظرية «الصفائح التكتونية».

تم تفتيت سطح الكوكب إلى ما يسمى صفحات الغلاف الصخري، التي ترقد على طبقة ضعيفة جزئيًا تعرف باسم «غلاف موري» (Asthenosphere) تقع على مسافة 100 كيلومتر أسفل القشرة الأرضية.

طبقات الغلاف الصخري تشمل القشرة وأيضًا الصخور الصلبة من السطح العلوي «الوشاح الأرضي». وتشمل بعض الصفائح، مثل صفائح المحيط الهادئ – في معظمها قشرة محيطية ثقيلة – والبعض الآخر مثل صفائح  أوراسيا، وهي قشرة قارية أخف وزنًا في الغالب؛ ولكن كل من السبع صفائح الرئيسية حوت بعضًا من الاثنين معًا.

شكَّل الغلاف الصخري مرتفعات منتصف المحيط، وانتشرت عبر قاع البحر. وكلما انتشر أصبح باردًا وكثيفًا، في نهاية المطاف غرق مرة أخرى في القشرة السفلية بسبب قوة الجاذبية – وهي عملية تعرف باسم (الاندساس – Subduction).

نشأت مناطق الاندساس، على سبيل المثال في المنطقة البركانية في المحيط الهادئ المعروفة باسم «حلقة النار».

وكان هذا الحزام الناقل الذي يتحرك عبر سطح – وشاح – الأرض مدفوعًا بالجاذبية، هو الذي خلق القوة لتحريك الصفائح ومعها القارات كأنها تمتطي سطحها.

على الرغم من أناقة تفسيرهم، فإن عمل «فاين وماثيوز» لم يحصل على الاعتراف العالمي فوراً، لكن المقاومة كانت تتعثر.

بعد عشر سنوات من ورقتهما، أصبحت «نظرية الصفائح التكتونية» النموذج الحاكم والتفسير الشامل لكيفية عمل كوكبنا.

وبحلول أواسط السبعينات، كانت جميع الجيوب المتبقية من المعارضة تقريبًا قد ذابت، وفازت الثورة واستمرت التداعيات.

فهم كيفية تأثير أشكال قشرة المحيطات يؤدي إلى نتيجة أخرى بالغة الأهمية، حيث يمكن معرفة عمر صخور قاع المحيط وتاريخها عن طريق سحب مقياس المغناطيسية خلف سفينة ورسم الخرائط لتوزيع الخطوط المغناطيسية.

ما برز تدريجيًا هو أن هناك أكثر من 170 انعكاسًا على مدى 180 مليون سنة، أي بمعدل إنعكاس واحد فقط لكل مليون سنة.

في السنوات الـ 65 مليون الماضية كانت تحدث بشكل أكثر تواترًا – في المتوسط مرة واحدة كل نصف مليون سنة – ويبدو أن الانعكاس القادم قد تأخر. ولكن لا داعي للذعر.

إنها تحدث تدريجيًا، فقد تحتاج إلى ألف سنة ليحدث اكتمال الانعكاس القطبي.

وكشفت الدراسات الاستقصائية المغناطيسية – التي أكدها برنامج رئيسي ومستمر لحفر أرضية المحيطات – عن استنتاج مذهل آخر عن قاع البحر.

في أي مكان في أحواض المحيطات في الأرض عمر القشرة أكثر من حوالي 180 مليون سنة، وهو ما يعبر عن 4٪ من عمر الأرض.

ما يعني أن إعادة تدوير قاع المحيط لدينا يتم بمعدل سريع! بقايا صغيرة من قاع المحيطات القديمة تقع في الطرف الشرقي للبحر الأبيض المتوسط هي الوحيدة المعروفة، هي كل ما تبقى من المحيط القديم الكبير الذي تم ابتلاعه ثانيًة داخل القشرة الأرضية.

ولذلك فإن القشرة المحيطية أصغر بكثير من متوسط عمر القشرة القارية، خاصةً من اللب القديم للقارات، كما هو الحال في غرب أستراليا وكندا، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من 4000 مليون سنة.

بوضع  نظرية الصفائح التكتونية في مكانها الصحيح، تحول البحث العلمي إلى محاولة تطبيق الدروس البسيطة نسبيًا المستفادة من قشرة المحيطات، لفهم التطور الذي لا حصر له والأكثر تعقيدًا للقارات القديمة التي تعتبر أكثر سمكًا بكثير.

يبدأ تشكيل القشرة القارية خلال إعادة تدوير صفائح المحيطات مرةً أخرى فوق الصفائح السفلية. خلال الانصهار، ذوبان أشكال جديدة للصهارة التي تصبح أخف ثم ترتفع لتشكل سلاسل من البراكين على السطح. بمرور الوقت تتراكم هذه الصخور البركانية الجديدة وتصبح أكثر سمكًا.

وكلما اصطدمت الصفائح، تصبح مشوهة ومتشابكة، وتتآكل وتترسب مرةً أخرى كما يحدث مع الصخور الرسوبية، ثم تدفن وتعاد بلورتها لتشكِّل الصخور المتحولة، حتى تذوب وتصقل مرةً أخرى لتشكل الجرانيت.

ولكن بمجرد تشكيلها، تتصرف الصخور القارية مثل (الستايروفوم – Styrofoam) في حمام سباحة – أي تصبح طافية فوق الماء – فتصبح نشطةً مما يسمح بإعادة تدويرها على نطاق واسع مرة أخرى في القشرة السفلية.

بدلًا من أن تتراكم في جميع أنحاء الأرض لتشكل القشرة القارية، فإنها تُدفع بشكل دوري في سلاسل جبال كبيرة ثم تُهدم مرة أخرى، وتتغير باستمرار ويتم إعادة تشكيلها، ولكنها لا تختفي أبدًا.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن قشرة المحيطات ليست دائمة وتُمْتَص في النهاية في القشرة الأرضية. ونحن نعلم الآن أن القارات تكونت من خلال عدة دورات من التكتل من القارة العظمى، لتتفتت ثم تتفرق في جميع أنحاء الأرض.

يمكن اعتبار الأرض الآن في حوالي نصف طريق الدورة التي بدأت من التفكك التدريجي لبانجيا – القارة العظمى التي اقترحها فاجنر – قبل نحو 200 مليون سنة.

أفريقيا هي آخر بقايا القارة العظمى التي لا تزال في عملية التفكك. ويمثل «وادي الصدع العظيم» اليوم خطًا تفككيًا حيث تنقسم أفريقيا إلى صحيفتين منفصلتين، المعادل القاري لنظام المرتفعات المحيطية، الذي سيصبح جزءً منه في نهاية المطاف.

ومن ناحيةٍ أخرى، أصبحت آسيا نواةً لشبه القارة الجديدة التي تجمع حولها قارات مختلفة، أحدثها الهند. وستصبح أستراليا أيضًا في مسارها الحالي جزءً من آسيا، وستنتهي سلاسل الجزر المختلفة في شمال أستراليا إلى تصادم في نهاية المطاف مع شرق آسيا خلال حوالي 50 مليون سنة. لذلك أستراليا ليست فقط في القرن الآسيوي، هي أقرب إلى الحقبة الآسيوية.

يمكن الحكم على نجاح نظرية الصفائح التكتونية – كما هو الحال مع أي نظرية – من خلال التنبؤات القابلة للاختبار. لقد برهنت السنوات الخمسون الماضية على صدق النبوءة الواحدة تلو الأخرى، كما تؤكده الملاحظات على نحو متزايد لكوكبنا.

فنحن الآن قادرون – على سبيل المثال – على قياس الحركات الأفقية للنقاط على سطح الأرض مباشرة، وبدقة لم نحلم بها قبل خمسين عامًا.

وتعني عمليات رصد الأقمار الصناعية لنظام تحديد المواقع العالمي (GPS) أن حركات الصفيحة يمكن ملاحظتها بدقة على مدى بضع سنوات فقط، من هذه القياسات نعلم أن الصفائح تتحرك بسرعات تتراوح بين 1 سم و 7 سم في السنة، مما يؤكد التقديرات التي أجريت منذ سنوات على قاع المحيط بطريق الخطوط المغناطيسية.

أستراليا، كجزء من طبقة الهند الأسترالية الكبيرة، هي أسرع من تتحرك نحو الشمال، بسرعة فائقة حوالي 7 سم في السنة.

ظهرت ورقة فاين وماثيوز عام 1963 إلى عالم على حافة العديد من الثورات. غنى (بوب ديلون) «الأوقات تتغير». لم يمضِ وقت طويل حتى هبط (نيل أرمسترونغ) و(بوز ألدرين) على سطح القمر.

لكن لا شيء يمكن أن يقارن مع الكشف بأن سطح الأرض يتحرك تحت أقدامنا. لقد شرحت صفائح التكتونيات الكثير عن كوكبنا، ولكن الأرض ستظل تحمل الكثير من الأسرار التي ستتحدى براعتنا.


  • ترجمة: مصطفى العدوي
  • تدقيق: محمد عبدالحميد ابوقصيصة
  • تحرير: أحمد عزب

المصدر