عادة ما تكون نظرتنا للعالم وأفعالنا المترتبة عليها مبنية على مبرهنة بسيطة، توصّل لها مما يزيد عن 150 عامًا الرياضي وعالم اللاهوت الإنجليزي الصامت “توماس بايز – Thomas Bayes”، لكنها لم تنشر إلا بعد وفاته.

استخدمت مبرهنة بايز لفك شفرة آلة (الإنيجما-Enigma) النازية في الحرب العالمية الثانية، وتستخدم الآن في حل مشاكل عدم اليقين في العلوم والتكنولوجيا والطب وغيرها.

إذًا، كيف تعمل؟

شرح مبرهنة بايز

كانت فكرة بايز الأولية بسيطة جدًا.

احتمالية كون فرضية ما صحيحة تعتمد على شرطين:

  1. مقدار منطقيتها في ظل المعلومات الحالية.
  2. كيفية تماشيها مع ظهور أدلة جديدة.

ومع ذلك ولمئة سنة بعد موته، استمر العلماء بتقييم فرضياتهم بناءً فقط على الأدلة الجديدة.

تلك هي الطريقة التقليدية لاختبار الفرضيات (التكرارية) والتي يتعلمها أغلبنا في حصص العلوم.

يتجلى الفرق بين توجه بايز والتوجه التكراري في الحالات التي تماشي تفسير غير منطقي تمامًا مع أدلة جديدة؟

فلنُمعن النظر في فرضية « القمر مصنوع من الجبن».

عند النظر نحو السماء، وجمع أدلة جديدة، نلاحظ أن لون القمر يبدو أصفر كالجبن.

في النظام التقليدي لاختبار الفرضيات، سأستنتج أن الدليل الجديد متماش مع الفرضية السخيفة، وبذلك أزيد من ثقتي فيها.

لكن باستخدام مبرهنة بايز، سأكون أكثر حرصًا. مع أن فرضيتي تتماشى مع الأدلة الجديدة، لكن الفكرة كانت مضحكة من البداية، وتنتهك كل ما نعرفه حول علم الفلك وعلم المعادن.

إذًا فإن الاحتمالية المجملة لكون القمر مصنوع من الجبن، والتي تعتمد على كلا العاملين، تبقى ضئيلة جدًا.

بالطبع هذا المثال مبالغ فيه.

فليس هنالك عالم محترم قد يهتم يومًا باختبار تلك الفرضية الغبية.

لكن العلماء حول العالم دائمًا ما يختبرون عددًا كبيرًا من الفرضيات، وبعضها يكون بعيد الاحتمال.

فعلى سبيل المثال، اقترحت دراسة في العام 2010 أن الناس ذوي التوجهات السياسية المعتدلة لديهم حرفيًا القدرة على رؤية أطياف أكثر من الرمادي بأعينهم.

ولكن تم التخلي عن ذلك الطرح بعد إجراء المزيد من الاختبارات، والتي أجراها الباحثون لأنهم وجدوا أن الطرح غير معقول من البداية.

ولكن من شبه المؤكد أنه قد تم قبول دراسات أخرى بغير نقد.

التوجه البايزي في الحياة

نحن نستخدم المعلومات السابقة من خبرتنا وذكرياتنا، والأدلة الجديدة من حواسنا، لتعيين احتمالات للأحداث اليومية ولإدارة حياتنا.

فكر في أمر ببساطة الرد على هاتف العمل الخاص بك، والذي تضعه على مكتبك في أثناء العمل، أو في الشاحن وأنت في البيت.

بينما أنت في منزلك تعتني بحديقتك إذا بصوت هاتف العمل يرن.

إن المعطيات الجديدة تتماشى مع كون الهاتف في أي مكان داخل المنزل، ولكنك تتجه مباشرة نحو الشاحن.

لقد جمعت معلوماتك السابقة حول مكان الهاتف (إما على مكتبك في العمل أو في الشاحن في المنزل)، مع المعطى الجديد (أنه في مكان ما بالمنزل)، لتقوم بتحديد مكانه.

إذا لم تجد الهاتف عند الشاحن، فعندها تستخدم معلوماتك السابقة عن الأماكن التي تركت فيها هاتفك من قبل لتضييق مساحة البحث.

إنك تتجاهل أغلب الأماكن في المنزل مسبقًا (الثلاجة، درج الجوارب) لكونها غير مرجحة بشكل كبير، وتضيّق البحث في الأماكن التي تعتبرها أكثر احتمالية إلى أن تجد الهاتف في النهاية.

إنك تستخدم مبرهنة بايز لإيجاد الهاتف.

الاعتقاد والدليل

من مزايا الاستنباط البايزي أن أهمية الاعتقاد السابق تزداد عند ضعف المعطيات الجديدة.

ونحن نستخدم ذلك المبدأ بشكل حَدَسي.

فعلى سبيل المثال، حين تلعب لعبة أسهم التصويب في نادٍ ويخبرك شخص غريب أنه لاعب محترف، قد تفترض في البداية أنه يمزح.

أنت لا تعلم شيئًا عن ذلك الشخص، لكن فُرص مقابلة شخص يمارس رياضة التصويب بالأسهم بشكل احترافي ضئيلة، فوفقًا لموقع DartPlayers Australia، يوجد فقط حوالي 15 لاعب محترف في أستراليا.

إذا رمى ذلك الشخص سهمًا وأصاب المنتصف تمامًا، قد لا يزعزعك هذا الأمر إطلاقًا.

فقد تكون ضربة حظ.

لكن إذا أصاب ذلك الشخص منتصف الهدف عشر مرات على التوالي، فإنك ستميل إلى تصديق ادعائه بأنه محترف.

إن اعتقادك السابق يقل وزنه مع تراكم الأدلة.

مجددًا مبرهنة بايز.

نظرية واحدة تحكم الجميع

يدعم المنطق البايزي اليوم العديد من الاستعلامات البشرية، من الكشف عن السرطان إلى الاحتباس الحراري وعلم الجينات والسياسة النقدية والذكاء الاصطناعي كذلك.

ومن المجالات التي يعتبر فيها المنطق البايزي ضروريًا دراسة تقييم المخاطر والتأمينات.

ففي كل مرة يضرب إعصارٌ أو فيضان منطقة ما ترتفع أسعار التأمينات بجنون.

لماذا؟

إن تقييم المخاطر قد يكون شديد التعقيد وقد توفر الظروف الحالية معلومات شحيحة حول الكوارث المستقبلية الممكنة.

ولذلك يُقدّر المخاطر أخصائيو التأمينات بالاعتماد على كل من الظروف الحالية والأحداث السابقة.

في كل مرة تقع فيها كارثة طبيعية، يُحدثون معلوماتهم السابقة حول تلك المنطقة لتعكس كونها أكثر خطورةً.

ومن ثم يتنبؤون بزيادة الطلب على بوليصات التأمين لتلك المنطقة وعليه يرفعون سعرها.

وكذلك يلعب الاستنباط البايزي دورًا هامًا في التشخيصات الطبية.

فقد تكون الأعراض الظاهرة على المريض (الدليل الجديد) ناتجة بسبب العديد من الأمراض الممكنة (الفرضية)، لكن الأمراض المختلفة لديها احتمالية وقوع سابقة تختلف من مريض لآخر.

المشكلة الرئيسية في المواقع الطبية مثل موقع webMD هي أن احتمالات الحدوث السابقة لا تؤخذ بعين الاعتبار.

فهم يعرفون القليل عن ماضيك الطبي، وهناك العديد من الأمراض الممكنة التي يمكن اقتراحها.

لكن زيارتك لطبيب لديه معلومات عن سجلاتك الطبية ستؤدي إلى تشخيص أدق وأكثر منطقية.

مجددًا يظهر دور نظرية بايز هنا.

آلان تيورنج وآلة الإنيجما

تسمح لنا الطُرق البايزية باستخراج معلومات دقيقة من بيانات مُبهمة، لإيجاد حلول ممكنة ضمن عدد هائل من الإمكانيات.

وقد كانت تلك الطرق محورية في فك الرياضي الإنجليزي “آلان تيورنج – Alan Turing” لشيفرة آلة الإنيجما الألمانية.

وقد سرّع ذلك من نصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بسنتين على الأقل وبالتالي أنقذ ملايين الأرواح.

لفك شيفرة مجموعة من الرسائل الألمانية المشفرة، فمن المستحيل البحث عبر عدد شبه لا نهائي من الاحتمالات الممكنة، خاصة وأن شيفرة الآلة كانت تتغير بشكل يومي عن طريق تغيير إعدادات الدوار الميكانيكي في آلة التشفير الألمانية “الإنيجما” شديدة التعقيد.

كان حدس تيورنج البايزي هو أن بعض الرسائل أكثر احتمالية بكثير من غيرها.

تلك الحلول الممكنة، أو كما أسماها فريقه (المُهُود – cribs)، كانت مبنية على رسائل سابقة قد تم فك شيفرتها، وكذلك على التوقعات المنطقية.

فمثلًا رسائل الغواصات الألمانية (يو بوت – U-boats) من المرجح أن تحتوي على معلومات تتعلق بالطقس وسفن شحن الحلفاء.

وقد ساهمت المعلومات السابقة القوية التي وجدوها بتلك المهود من تضييق نطاق الاحتمالات الممكنة التي يجب فحصها بشكل كبير، مما سمح لآلة تيورنج بفك شيفرة الإنيجما بسرعة كافية لتسبق التغيير اليومي لها.

نسخة مطابقة لآلة “bombe“ والتي استخدمت من قبل خبراء التشفير للفك تشفير الإنيجما الألمانية؛ المصدر: wikimedia

بايز والتطور

لماذا نحن مهتمون بالطُرق البايزية إلى هذا الحد؟ في مجال دراستنا والبيولوجيا التطورية وكما في كثير من العلوم، تستمر محورية الطرق البايزية في الزيادة.

من التنبؤ بنتائج التغيير المناخي إلى فهم انتشار الأمراض المعدية، كثيرًا ما يبحث العلماء عن بعض الحلول القليلة الممكنة من بين مجموعة كبيرة من الاحتمالات.

في بحثنا العلمي، الذي يتضمن بشكل أساسي إعادة بناء تاريخ وتطور الحياة، وتلك الطرق تساعدنا في إيجاد الشجرة التطورية الصحيحة من بين مليارات الفروع الممكنة.

في العمل، كما في الحياة اليومية، تساعدنا الطرق البايزية في إيجاد إبَر صغيرة في كوم ضخمة من القش.

الجانب المظلم للاستنباط البايزي:

بالطبع قد تظهر مشاكل في الاستنباط البايزي عند تطبيق البيانات السابقة بشكل خاطئ.

وفي المحاكم القانونية قد يؤدي ذلك إلى إخفاق العدالة (كما في حالة مغالطة المدعي – prosecutor’s fallacy).

ففي المثال المشهور من الممكلة المتحدة، أُدينت المتهمة “سالي كلارك” ظلمًا في قضية مقتل ابنيها.

فقد جادل المدعي بأن احتمالية موت طفليها الاثنين بأسباب طبيعية (أي الاحتمال المسبق بكونها بريئة من كلتا التهمتين) كانت قليلة جدًا (1 من 73 مليون)، وعليه فمن المؤكد أنها قتلتهما.

لكنهم فشلوا في أن يأخذوا بعين الاعتبار أن احتمالية قتل أم لكلا ابنيها (أي الاحتمالية السابقة لكونها مذنبة بكلتا التهمتين) كان ضئيلة جدًا.

لذلك فإن الاحتمالات السابقة النسبية لكونها بريئة بالكامل في مقابل كونها مذنبة بقتل كلا الطفلين كانت أكثر تقاربًا مما ادعى المدعي في البداية.

لاحقًا تم تبرئة “كلارك” في النقض مع اعتراض قضاة محكمة النقض على الاستخدام الخاطئ للإحصاء في المحاكمة الأولى.

يوضح ذلك كيف يمكن للفهم الخاطئ لنظرية بايز أن يكون له نتائج كبيرة.

لكن على الجهة الأخرى فإن بإمكان الطرق البايزية باستخدام احتماليات سابقة مبررة ومستخدمة بشكل صحيح أن توفر معلومات لا يمكن إيجادها بطرق أخرى.


  • ترجمة: أحمد اليماني.
  • تدقيق: قُصي السمان.
  • تحرير: سهى يازجي.
  • المصدر