neavssap

المزايا والعيوب لمنطق محاباة الجماعة..

عندما يعثر علماء الآثار على آثار نياندرتال في أوروبا و آسيا، فإنهم لا يجدونها في مجموعات كبيرة. فالنياندرتال لم يكوّنوا أبداً تجمعات كبيرة كما يفعل الهومو سابين، مثلي ومثلك. و عادة ما تتواجد حفريات النياندرتال في مجموعات قليلة تربطها صلة قرابة، قرابة ربما تمتد حتى 30 فرداً. على الجانب الآخر، وعلى مدار آلاف الأجيال، تشي السجلات الحفرية بأن الهومو سابيين قد كونوا مجاميع تتسع لتشمل غير الأقارب، وربما بلغ قوامها 150 فرداً أو نحو ذلك. و بعد معرفة الزراعة، اتسعت مجموعات الإنسان لتصل إلى مئات الملايين بل والبلايين (الصين مثلا)
بالمناسبة، النياندرتال ليسوا منقرضين تماما كما تظن. الأدلة الجينية تقول أن معظمنا (بما فيهم أنت غالباً) يملكون دنا DNA يشترك في تركيبه مع جينوم النياندرتال القديم – ربما نسبة 1 – 4% من الدنا الخاص بك مطابق لأبناء عمومتنا من النياندرتال – كنتيجة لحدوث تزاوج بين الإنسان والنياندرتال منذ آلاف السنين. هذه شيء أبحثه أنا و طلبتي كجزء من مشروع New Paltz Neandert. لكن هذه مسألة خارج الموضوع.

بالنظر إلى كل السجلات الحفرية ذات الصلة، فإن جمجمة النياندرتال كانت في الغالب تحتوي دماغاً أكبر من دماغ الإنسان المعاصر هومو سابيين. و في الأغلب، لم يكونو أقل ذكاءاً منا. لكن الفارق الأساسي بيننا وبينهم هو أنه في أحد الأوقات، تطور لدى أجدادنا الهومو سابيين أساليب نفسية واجتماعية أدت إلى خلق جماعات امتدت لأكثر من صلة القرابة. وبرغم ذكاء وحذاقة النياندرتال، فإنه لا يبدو أنهم طوروا مثل هذه القدرة على تكوين جماعات كبيرة من أفراد يتعاونون للوصول لهدف مشترك.

الإنجازات التي تحققت بفضل كبر جماعات الهوموسابيان

لا تحتاج لتفكير طويل لتجد أمثلة على الفوائد الضخمة التي تعود من تكوين الجماعات. فعائلة صغيرة من الأفراد – بغض النظر عن مهاراتهم – كان من المستحيل أن يبنوا أهرام مصر، أو كولوسيوم روما، أو سور الصين العظيم، أو جسر جورج واشنطن.
مجموعة من عشرة أفراد من النياندرتال كان من المستحيل عليهم مهما حاولوا أن يرسلوا بأنفسهم واحدا منهم إلى القمر. بغض النظر عن روعة الأمر.
ميل الهومو سابين لتكوين جماعات كبيرة تتجاوز حد القرابة يشكل أحد المداخل الهامة لفهم تفرد الإنسان في المملكة الحيوانية.

تكوين الجماعات والأديان الإنسانية

ميول الهومو سابين المعاصر لتكوين جماعات كبيرة تتجاوز حد القرابة، يرجع في الأساس إلى أن الإنسان في حقيقته هو الفصيل من الرئيسيات الذي يذهب إلى دار العبادة. و برغم وجود تنوع كبير بين كل دين وآخر في الشعائر، فإن كل الأديان تعمل في الغالب على الاستفادة من هذا الميل لتكوين جماعات مصطنعة على المستوى النفسي، تتخطى حد القرابة
أحد الأصول النفسية الهامه للتفكير الديني هو مانسميه منطق “محاباة الجماعة” أو “داخل المجموعة/خارج المجموعة” “ingroup/outgroup reasoning”. فالناس حول العالم يحملون ميلاً تلقائياً شديداً لتصنيف الآخرين في مجموعتين رئيسيتين: جماعتي، وخارج جماعتي. هذه العقلية تفيد الجماعات الدينية (والأفراد المنتمين لها) لأنها تجعل أعضاء الجماعة الواحدة يحملون انجذاباً إيجابياً تجاه بعضهم البعض. أبناء عمومتنا من النياندرتال غالباً لم يكن لديهم هذا الميل لاصطناع هذه الجماعات نفسيا خارج حد القرابة، والتي غالبا ما ننسجها نحن باستخدام الدين.
وبرغم كل شيء، فإن أسلوب “محاباة الجماعة” في التفكير، ليس وردياً بالكامل. فهذا النوع من التفكير غالباً مايدفع أفراد مجموعة ما لتكوين صورة سلبية عن أفراد المجموعات المغايرة. كما يرتبط أيضاً بالميل لرؤية أفراد المجموعات المغايرة متشابيهن أو نسخ لنفس الشخص، ويدعى هذا الميل “تجانس الجماعات المغايرة “outgroup homogeneity، و نادراً ما نستطيع تجنبه. فمن الصعب علينا أن ننظر إلى أفراد جماعة تختلف كثيراً عن جماعتنا بنفس النظرة الإيجابية التي ننظر بها إلى أفراد جماعتنا. كل هذا هو جزء من أسس البناء النفسي الذي تطور جنبا إلى جنب مع تطور أصول التفكير الديني في الهوموسابين الأول. الانحياز الجماعي في التفكير و الميل لرؤية أفراد الجماعات الأخرى متشابهين هو أحد دعائم النفسية الاجتماعية في الإنسان، سواء أعجبك الأمر أم لا، فهو جزء من طريقة تفكيرنا.
في كتابه الشهير “مهد القطة Cat’s Cradle” قام كيرت فونيجوت Kurt Vonnegut بتوضيح هذه الأفكار. فقد ابتكر على وجه الخصوص فكرة الجرانافالون – وهي جماعة مصطنعة مبنية على خصائص بلا معنى تصنع رابطاً نفسياً بين الأشخاص. في “مهد القطة”، على سبيل المثال، يحدث تقارب سريع بين مجموعة شخصين يقابلان بعضهما لأول مرة على طائرة لمجرد أن كليهما ينتمي إلى ولاية إنديانا، فيحتفيان بكونهما من السكان الأصليين Hoosier و تتطور بينهما صداقة كأنهما يستطيعان أن يثقوا ببعضهم مدى الحياة. فونيجوت يسمي هذا الأمر “جرانافالون” بينما الباحثون في علم النفس الاجتماعي يدعونه محاباة الجماعة ingroup/outgroup reasoning، كلا الأمرين واحد، فهي الطريقة التي تدفعنا تلقائياً لتكوين جماعات مبنية على الحد الأدنى من المعايير، و تجعلنا منحازين لأفراد تلك الجماعات مهما كانوا سخفاء.
ومن المرجح أن النياندرتال لم يصنعوا جرانفالونات. لم يصنعوا جماعات مبنية على معايير مصطنعة. لم يصنعوا جماعات دينية تجمع آخرين خارج حد القرابة. ولم يكونوا جزءاً من شعب السكان الأصليين.

محاباة الجماعة: المزايا والعيوب

منطق محاباة الجماعة، كأي مزية تطورية للنفس الإنسانية، له مزاياه و له عيوبه. فبدون القدرة على تكوين مجموعات متعاونة كبيرة العدد (بفضل منطق محاباة الجماعة) لم يكن ليصبح لدينا برج أيفل، أو الانترنت، أو آيس كريم. كل تلك العجائب الموجودة في عالمنا المعاصر صنعت عن طريق اشتراك مجموعات كبيرة من أناس يعملون معاً من أجل هدف موحد. مجموعات كبيرة من أفراد متباينين لا تربطهم صلة قرابة يرون أنفسهم جزءاً من كيان كبير يربطهم ببعضهم البعض. هذه هي الفائدة الأساسية التي تعود على عالمنا والتي يرجع فيها الفضل لمحاباة الجماعة.
لكن محاباة الجماعة لها جانبها السيء. والتاريخ الطويل للحروب التي استمرت عبر آلاف الأجيال في جنسنا يجسد هذه الحقيقة. فكما يشرح الفيلسوف ديفيد ليفينجستون سميث ، فالحرب ثابت بشري، وميل الأفراد المحاربين لتحقير أفراد الجانب المعادي – والذين يرونهم كحشرات أو دون البشر – هو عامل مشترك دائم في تركيبة النفسية الاجتماعية للحروب. فأن تصور عدوك في صورة غير بشرية يسهل عليك مهمة قتله. وهو مايرجع فيه الفضل لأيضا لمحاباة الجماعة.

ماذا تعلمنا دراسة النياندرتال عن طبيعتنا كبشر

اختصاراً أقول، أن دراسة طبيعة أبناء عمومتنا القدامى، النياندرتال، تعطينا فرصة لنفهم أنفسنا بشكل أفضل. فالهوموسابيين يختلفون بشكل كبير عن النياندرتال في مضمار بناء الجماعات التي تتجاوز حد القرابة. وهذا البناء يرتبط بشكل كبير بمنطق محاباة الجماعة، والذي يبدو أنه جزء من تكويننا. كما يبدو أيضا أن النياندرتال، والذين كانوا أذكياء على طريقتهم، لم يقوموا بتكوين مثل هذه الجماعات خارج حد القرابة.
كون نفسيتنا مبنية بشكل قوي على منطق محاباة الجماعة، هو أمر له مزاياه وله عيوبه. المزايا تشمل قدرتنا كبشر، بعكس النياندرتال، على تكوين مجموعات من الأفراد قادرة على صنع انجازات غير عادية، مثل حمل رجل إلى القمر. لكن هذه المزايا أيضا لها ثمن، فنفس منطق محاباة الجماعة في بنائنا النفسي كان المتسبب في أحلك الأزمنة في التاريخ البشري – حيث تضرب الحرب بجذورها في تفكيرنا المبرمج بمنطق “نحن ضد الجميع”
أتمنى أن يكون فهم الناس لمنطق محاباة الجماعة، وحقيقة أنه ميزة نفسية ينفرد بها الإنسان تاريخياً ، قادر على تنبيه الناس لهذه الميول اللاشعورية التي تؤثر في نفسيتنا كما تؤثر في حياتنا اليومية (أحيانا بالنفع وأحيانا بالضرر).

[divider] [author ]ترجمة : إبراهيم صيام

تصميم الصورة : صلاح الإبراهيم[/author] [divider]

المصدر