بالنسبة لبعض الأشخاص حول العالم ومن مختلف الثقافات يمكن إيجاد عامل مشترك يجمعهم ربما: التصديق بنظريات المؤامرة التي تتحدث عن المتنورين والماسونية وحكومة العالم الخفي وسواها. وبحث سريع على فيسبوك مثلاً سيضع أمامك عشرات إن لم يكن مئات مجموعات النقاش لمصدقي هذه النظريات.

قصة الانتشار الكبير لهذه الخرافة تشرح كيفية انتشار القصص المزيفة اليوم وتبين الأسرار وراء عقلية أنصارها وهذا الموضوع ينطبق على الماسونية التي تثير جنون محبي نظرية المؤامرة.

إنها نظرية المؤامرة التي تحجم وتصغر كل نظريات المؤامرة الأخرى. كنز من المكائد والمصائب المعروفة لدى البشر. المتنورون (The Illuminati) هم أسياد العالم المزعومين، الذين يتحكمون بشؤون العالم سريًا ليؤسسوا نظام العالم الجديد.

كيف بدأت نظرية المؤامرة عن المتنورين والماسونية وحكومة العالم الخفية

هذه القصة المرعبة صعبة التصديق بدأت كعمل خيالي في ستينيات القرن الماضي. ماذا يقول لنا ذلك عن استعدادنا لتصديق ما نقرأ وما نسمع، وماذا تستطيع خرافة المتنورين أن تكشف عن الأخبار والقصص المزيفة والتي تأثر بنا إلى هذا اليوم؟.

عندما يحاول أي شخص النظر إلى تاريخ المجتمعات السرية، يجد نفسه في ألمانيا مع نظام المتنورين من حقبة عصر التنوير. كان المتنورون يشكلون مجتمعًا سريًا في بافاريا (ولاية في ألمانيا)، أنشئ في عام 1776 ميلادية، ليتيح للمثقفين الاجتماع بشكل سري لمعارضة التأثير الديني والنخبوي على الحياة اليومية. تضمن هذا المجتمع عدة تقدميين معروفين في ذلك الوقت.

ولكن وجد المتنورون أنفسهم، جنبًا إلى جنب مع الماسونيين الأحرار، وتدريجيًا أصبحوا محظورين من ممارسة نشاطاتهم من قبل معارضيهم المحافظين والمسيحيين. وهكذا تلاشت المجموعة من الوجود، وكان هذا أمراً يتفق عليه الجميع حينها.

استمر اختفاء ذكر الجماعتين هذا حتى عام 1960 ميلادية. المتنورون الذين نسمع عنهم اليوم لا يكاد لهم أي صلة مع البافاريين. كما علمنا من الكاتب والمذيع دايفيد برامويل، الرجل الذي كرس نفسه لتوثيق أصول هذه الخرافة.

تتحمل عدة عوامل مسؤولية إعادة تجسيد قصة المتنورين، غير المدعومة بأي دليل في حقبة الستينيات، ومنها نشوء هوس بمعاداة الثقافة السائدة، مخدر LSD، واهتمام عميق بالفلسفة الشرقية.

من كتاب ساخر إلى أسطورة المتنورين الحديثة

كل هذا بدأ في ما يعرف بـ “صيف الحب” عام 1967، ظاهرة الهيبيين (hippies)، وانتشار كتاب مطبوع يعرف بـ Principa Discordia للكاتبين غريغوري هيل وكيري ثورنلي، وُزّع على شكل نصوص مقدسة “كلاسيكية سرية” أصبحت أكثر شهرة بعد أن اقتبست على نطاق واسع في ثلاثية بواسطة روبرت شيا وروبرت أنطون ويلسون باسم The ILLuminatus.

كان هذا الكتاب باختصار عبارةً عن كتاب مقدس تهكمي لدين تهكمي اسمه الديسكوردية (Discordianism)، وناشده بذلك الوقت أناركيين (فوضويين) ومفكرين متحمسين في محاولة لإقناع القراء لعبادة Eris، آلهة الفوضى. حركة الديسكوردية كانت تدعو للعصيان المدني، المزحات الجسدية، والخدع.

الكتاب نفسه لم تكن له أهمية سوى كونه محاولة فضولية لمعاداة الثقافة السائدة. ولكن أحد المبادئ لهذا الدين أن هذه الأعمال الدنيئة قد تجلب التغيير في المجتمع وتجبر الأشخاص على التساؤل عن واقعهم.

بحسب برامويل، قرر ويلسون وأحد كتاب Principa Discordia، كيري ثورنلي، أن العالم على الطريق ليصبح تسلطيًا للغاية، ضيقًا للغاية، مغلقًا للغاية، ومحكومًا للغاية.

أرادوا أن يرجعوا الفوضى إلى المجتمع لخلط الأشياء مع بعضها. وكانت الطريقة لعمل هذا هي نشر معلومات مضللة وخاطئة من خلال جميع المنافذ المتاحة؛ من خلال معاداة الثقافة السائدة والإعلام  السائد. وقرروا أن يبدأوا بفعل هذا بدايةً بسرد قصص حول المتنورين.

في ذلك الوقت، ويلسون كان يعمل في مجلة Playboy الرجالية. وبدأ مع ثورنلي بإرسال رسائل مزيفة من القراء تتحدث عن هذه المنظمة السرية النخبوية المسماة “المتنورون illuminati”. ومن ثم أرسلوا المزيد من الرسائل تناقض ما كتبوا.

إذن، المبدأ وراء هذا هو إن كنت تعطي زوايا رؤية متناقضة حول قصة ما، نظريًا (بشكل مثالي) سوف يقوم الجمهور العريض بالنظر إلى هذه الأشياء والقول “انتظر دقيقة”.

كما يقول برامويل: «يسألون أنفسهم، هل أثق بالمعلومات المقدمة لي؟ إنها طريقة مثالية للفت انتباه البشر إلى الواقع الذي يعيشون فيه وهذا بالطبع أمر لم يحصل بالطريقة التي تمنوا».

انتشرت فوضى خرافة المتنورين بشكل كبير، ويلسون وكاتب آخر في مجلة Playboy شاركوا في كتابة ثلاثية The Illuminatus! Trilogy والتي نسبت “الأمور المخفية” في وقتنا الحالي كـ”اغتيال جون كينيدي” إلى المتنورين.

حقق الكتاب نجاحًا مفاجئًا لدرجة أنه تحول إلى عمل مسرحي في مدينة ليفربول، مما أطلق المسيرة المهنية للممثلين البريطانيين بيل ناي وجيم برودبنت.

أطلقت فرقة العزف الإلكتروني The KLF على نفسها أيضًا تسمية The Justified Ancients of Mu Mu، تيمنًا بمجموعة أتباع الدين الديسكوردي الذي اخترق صفوف المتنورين في ثلاثية ويلسون، حيث أنهم كانوا ملهمين بالفكر الأناركي (الفوضوي) للدين الديسكوردي.

وبعد ذلك، ظهرت لعبة ورق في عام 1975، يقوم فيها اللاعبون بلعب دور المتنورين، والتي رسخت العالم الروحاني للمجتمعات السرية في عقول جيل كامل.

اليوم، هذه النظرية هي واحدة من أكثر نظريات المؤامرة حول العالم التي تلقى ترحيبًا.

حتى الشخصيات المشهورة مثل جاي-ز وبيونسيه اعتمدوا شعار المتنورين لأنفسهم، برفع أيديهم نحو مثلث المتنورين أثناء الحفلات. هذا كله لا يحفز الاستيعاب بأن كل هذا هو زائف، كما قصد مؤيدو الديسكوردية بالأصل.

ثقافة وجود دور النشر الصغيرة والمجلات الصغيرة في الستينيات من القرن الماضي تبدو بعيدةً جدًا عن الثقافة الحالية في وجود الإنترنت المعولم والمتصل بشكل كبير.

ودون أي شك، لعب الإنترنت دورًا كبيرًا في نشر إشاعات حول المتنورين على مواقع مثل 4chan وreddit مما أشهر الفكرة كما هي اليوم.

هل التصديق بنظريات المؤامرة مثل المتنورين والماسونية وغيرها عارض مرضي؟

ولكننا نعيش في عالم مليء بنظريات المؤامرة، والأهم من ذلك، مليء بالمؤمنين بنظريات المؤامرة. ففي عام 2015، اكتشف علماء سياسيون أن نصف الجهمور في الولايات المتحدة الأمريكية، تقريبًا، يؤيدون نظرية مؤامرة واحدة على الأقل.

وتشمل هذه النظريات التي يؤمنون بها أي شيء من خرافة المتنورين إلى نظرية ولادة أوباما في كينيا، أو الاعتقاد السائد بأن العملية الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر كانت عمليةً داخليةً قامت بها أجهزة المخابرات الأمريكية.

يقول فايرن سوامي وهو بروفيسور علم النفس الاجتماعي في جامعة أنجليا راسكن: «لا يوجد هناك صفات نمطية للمؤمن بنظرية المؤامرة. هناك عدة تفسيرات لماذا يؤمن الأشخاص بهذه النظريات، وهذه التفسيرات ليست بالضرورة منفصلةً عن بعضها البعض؛ لذا أبسط نوع من التفسير لهذا هو أن البشر الذين يؤمنون بنظريات المؤامرة يعانون نوعًا من الأمراض النفسية».

في استنتاج آخر توصل إليه الباحثون، هو أن هذه النظريات تعطي طرقًا عقلانيةً لفهم أحداث تزعزع الثقة بالنفس أو قيمة الذات.

يقول سوامي، الذي نشر بحثاً في عام 2016: «يعطونك تفسيرًا بسيطًا للغاية»، وجد سوامي أن المؤمنين بنظريات المؤامرة أكثر قابليةً للمرور بتجارب مقلقة من غير المؤمنين بها. بعض علماء النفس اكتشفوا أيضًا في عام 2017 أن الأشخاص أصحاب الدرجات العلمية الأعلى هم أقل إيمانًا بنظريات المؤامرة.

الصورة التي ترسمها هذه النظريات عن أمريكا الحديثة هي صورة داكنة، خصوصًا بالنسبة لسوامي الذي رأى تغييرًا في من قد يؤيد موادّ مؤامرتيةً، خصوصًا في جنوب آسيا، نظريات المؤامرة كانت أداةً للحكومة للتحكم بالبشر. في الغرب، العكس يحصل عادةً، نظريات المؤامرة هي للأشخاص الذي يفتقرون لقوة تأثيرية.

وهذا الافتقار للقوة هو الذي يعطي مجالًا لنظريات المؤامرة لتحدي الحكومة، مثلًا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. إذا افتقد البشر للقوة، نظريات المؤامرة تستطيع أن تزرع بذور الاحتجاج الاجتماعي وتدعو الناس لطرح الأسئلة.

التغيير الكبير هو أن السياسيين، وبالتحديد دونالد ترامب، بدأوا باستخدام المؤامرات لحشد الدعم.

الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة كان مؤمنًا قويًا بنظرية ولادة أوباما في كينيا، ويتحدث بشكل متردد لوسائل الإعلام عن أن أوباما لم يولد فعلًا في هاواي.

واتهم أيضًا عدة ولايات أمريكية بتزوير التصويت بعد انتخابات 2016، وقام فريقه الانتخابي بنشر الأخبار المفبركة، المفضوح زيفها حاليًا، حول مواضيع مثل قيام مدير حملة هيلاري كلينتون بإدارة شبكة تهريب أطفال عن طريق مطاعم بيتزا (الموضوع معروف ب Pizza Gate) ومذبحة بولنغ غرين التي لم تحدث أصلًا.

سئل سوامي إن كان يعتقد بأن هذا التحول في استخدام نظريات المؤامرة قد يؤثر في السياسة على المدى البعيد فأجاب: «يصبح الناس غير متفاعلين مع العملية السياسية السائدة في حال إيمانهم بنظريات المؤامرة.

على الأرجح سوف يقومون بالتفاعل مع عملية سياسية غير اعتيادية، وسوف يقومون على الأرجح بالتفاعل مع مواقف عنصرية كارهة لباقي الجنسيات ومتطرفة».

فكرة وجود نخبة سرية لا يمكن لمسها تلقى صدىً مع البشر الذين يشعرون بأنهم مهملون وعديمو القوة. قال ترامب بأنه يريد تمثيل هؤلاء البشر، خصوصًا في مناطق الجنوب الأمريكي المعروفة ب Rust Belt والتي كانت يومًا ذات قوة صناعية.

ولكن بالرغم من شعورهم بأنهم ممثلون بشكل أفضل في ردهات النفوذ عن طريق شخص غير سياسي مثلهم، وكونه (نظريًا) من المفترض أن يتلاشى شعورهم بالعجز والضعف نوعًا ما، فإن البعض في الولايات المتحدة الأمريكية يحبون الإيمان بقصص مثل المتنورين أكثر من قبل.

يقول دايفيد برامويل: «لو كان ويلسون حيًا اليوم، سوف يكون سعيدًا من جهة، ومصعوقًا من جهة أخرى، كانوا يعتقدون في الستينيات من القرن الماضي بأن هذه الثقافة كانت ضيقةً جدًا. في الوقت الحالي، يبدو الأمر وكأن الأمور سائبة وتتفكك».

«ربما سيكون هناك استقرار عندما يحارب البشر “الأخبار الزائفة” ونشر الأكاذيب. لقد بدأنا بفهم كيف أن وسائل التواصل الاجتماعي تغذي أفكارنا بما نريد أن نؤمن به؛ غرف الصدى».

في منتديات الإنترنت اليوم، تصدعات في الثقافة السائدة والقدرة اللامحدودة للخيال البشري، قد يتمكن الباحثون عن الحقيقة والمدققون في الحقائق من دحض خرافة المتنورين إلى الأبد.


  • ترجمة: عبد الرحمن الصباغ
  • تدقيق: أحلام مرشد
  • تحرير: أحمد عزب
  • المصدر