ظهرت الأبحاث جاذبية الآراء التي لا يمكن إثباتها، وكيف تقود إلى مجتمع “مستقطب”.

قد تكون الحقيقة أمراً غير مريح.

“لقد وجدت دراسة علمية أن اللقاحات تسبب التوحد”

“في حقيقة الأمر، قد فقد الباحث في تلك الدراسة رخصته الطبية، ونفت أبحاث كثيرة منذ تلك التجربة وجود أي صلة بين اللقاحات والتوحد”.

– “حسناً، بغضِّ النظر، من حقي الشخصي كوالد لطفلي أن أختار عنه”.

هل يبدو ذاك الحوار مألوفاً؟ نقاش يبدأ بوقائع يمكن إختبار صحتها كالتحصين باللقاحات، والزواج المثلي، يستخدم فيها الفرد العلم ليقوِّي حجته، ونظراً للسهولة المتزايدة في إثبات وإختبار الوقائع -إن كانت في الفيزياء، علم النفس، أو السياسة- يتسائل الكثيرون عن سبب إستمرار التحيز والإستقطاب، فلماذا لا ينفع الإدلاء بالوقائع مثل أمن اللقاحات المؤكد أو يكون ذا تأثير ضعيف؟

عاين بحث جديد نشر في مجلة علم النفس الشخصي والإجتماعي (Journal of Personality and Social Psychology) طريقةً مزعزعةً يتهرَّب بها الناس من الوقائع التي تتعارض مع ما يؤمنون به، طبعاً قد يحتج بعض الناس على صحة الحجة نفسها، لكن قد وُجِد أن الناس قد يأخذون خطوة أبعد، ومثلما في المثال السابق سيعيدون صياغة المشكلة من وجهة نظر لا يمكن إثباتها أو نفيها، ما يجعل العلم وراء القرار والوقائع دونما قيمة في النهاية.

فلنأخذ مشكلة الزواج المثلي مثلاً:

قد تكون الوقائع مهمة بخصوص تشريعه أو منعه قانونياً، فمثلاً، لو أظهرت المعطيات أن الأطفال الذين يتبناهم زوجان مثليان كانوا أسوأ أو مثل غيرهم من الأطفال لآباء مختلفي الجنس، لكن ماذا لو أن هذه المعطيات تخالف نظرة الفرد؟

قُدِّم ل 174 مشارك أمريكي مؤيد أو معارض للزواج المثلي “وقائع علمية” مفترضة، تدعم أو ترفض الزواج المثلي، فكان أن غيَّر الذين تعرضوا للوقائع المعاكسة لآرائهم الشخصية من المجموعتين المنظور ليتجاهلوا الوقائع ويستثنوها، وبدأوا يتحدثون عن الأخلاقيات في الموضوع، لكن عندما تعرضوا لوقائع تناسب ميولهم قالوا أن آرائهم مبنية على الوقائع لا على الأخلاقيات في المسألة، بعبارة أخرى ما تمت مشاهدته هو شيء أبعد من تجاهل وقائع محددة: ما تمت مشاهدته هو نكران أهمية الوقائع وعلاقتها بالموضوع أصلاً.

في دراسة مشابهة تمت التجربة على 117 مشارك متديِّن، حيث قدمت لهم مقالات تنقد الدين، فكان شديدو التدين (دون الأقل تديناً) أكثر ميلاً إلى التغيير بإتجاه “الإيمان الأعمى” الذي لا يمكن اختباره لتأكيده أو نفيه كسبب لتديُّنهم من أولئك الذين عرضت عليهم مقالات محايدة.

تظهر هذه الدراسات أن تهديد معتقدات الناس وما يؤمنون به يرسلهم إلى أرض لا أهمية فيها للحقائق، ويمكن القول علمياً أنهم يجعلون معتقداتهم وآرائهم أقل قابلية للخطأ، إذ لم يعد من الممكن اختبارها علمياً للتأكيد أو النفي.

وكمثال آخر، دائماً يتنازع الناس حول سياسات الحكومات وفقاً لحجة أنها لا تنجح، ولكن حتى إن قدمت دلائل على نجاح سياسات الحكومات قد يظل الفرد رافضاً للحكومة من ناحية المبدأ، ونرى هذا على طرفي الطيف السياسي، إن كان اليمين أو اليسار، المتحفظ أو المتحرر.

قد يتأمل الفرد أن الوقائع الموضوعية تسمح للأفراد بالوصول إلى إجماع على رأي بسهولة أكبر، لكن السياسات الأمريكية مثلاً مستقطبة أكثر من أي وقت مضى، فهل يكون هذ الإستقطاب تابعاً للشعور بالحرية أو الوقائع؟

بينما من الصعب دراسة تلك الفكرة بموضوعية يمكننا تقدير سؤال أساسي تجريبياً: عندما يدفع الناس إلى النظر إلى إعتقاداتهم المهمة كشيء “أقل” نسبياً بدلاً من “أكثر قابليةً للإختبار”، هل يزيد إستقطابهم وإلتزامهم بالمعتقد الذي يحبون؟ تقترح دراستان أن هذا ما يحدث فعلياً.

في دراسة تضمنت 179 أمريكي، تم تذكير نصف المشاركين تقريباً بأن معظم سياسة أوباما يمكن إختبارها تجريبياً ولم يتم تذكير الباقين، ثم قام المشاركون بتقييم أداء أوباما بخصوص خمس نقاط (مثل تأمين فرص العمل)، وبعد مقارنة تقييمات مؤيدي أوباما ومعارضيه وجدت الدراسة أن التذكير بإمكانية التقييم التجريبي خفض معدل التقييم المستقطب لأداء الرئيس أوباما بحوالي 40%.

لاختبار فرضية أن الناس يدعمون قوة معتقداتهم عندما تكون فارغة من الدليل، قام الباحثون بإختبار 103 متطوع يتراوحون بين “متديِّن بشدة” و “معتدل التديُّن”، ليجدوا أن شديدي التدين (دون المعتدلين) بعدما قيل لهم أن وجود الله لا يمكن إثباته أبداً قالوا بإعتقادات دينية مرغوبة (مثلاً أن الله يرعاهم ويحفطهم ويرشدهم) أقوى، بالنسبة لمن قيل لهم أن العلم قد يستطيع التحقق من وجود الله يوماً ما.

عند جمع الدراستين معاً يبدو -على الأقل في بعض الحالات- أنه في حال كون الوقائع على علاقة أقل بالمحادثة يميل الناس إلى البحث أعمق في معتقداتهم التي يتمنونها, كالنظر إلى سياسيين بطريقة معينة أو الإيمان بأن الله موجود دائماً ليدعمهم، هذه الدراسات تشابه في نتائجها الكثير من الدراسات التي وجدت أن الناس تميل للمبالغة بما يرغبون بالإيمان به عندما تتعامل مع وقائع مشوشة.

إذاً بعد معاينة قوة الإيمان الذي لا يمكن اختباره، ما الذي وجده الباحثون عن التعامل مع علم النفس البشري؟

وجد الباحثون كنتيجة أن التحيز وباء يجب التخلص منه، وللتخلص منه يجب أن يتم التعامل مع وقائع مفيدة وتعليم مناسب، ووجدوا أيضاً أن حقن الوقائع ضمن المحادثة يجعل أعراض التحيز أقل شدة، لكن -مع الأسف- وجدوا أيضاً أن الوقائع لا تستطيع تجاوز حد معين، ولتفادي الوصول إلى استنتاج غير مرغوب يقوم الناس بال”طيران” بعيداً عن الوقائع ليستخدموا أدوات أخرى من عدتهم المخصصة للدفاع عن المعتقدات الجوهرية.

إذاً مع وباء التحيز يمكن الوصول إلى المناعة الاجتماعية عند تشجيع الناس على قبول الالتباس، الانخراط بالتفكير الناقد, ورفض أساليب التفكير المتشددة، هذا المجتمع هو ما يحاول النظام التعليمي الأساسي إنتاجه, جنباً إلى جنب -على الأٌقل نظرياً- مع العروض اليومية، لن نستطيع استئصال التحيز أبداً من الآخرين، ولا من أنفسنا، ولا من المجتمع، لكن يمكننا أن نصبح أناساً ذوي طريقة تفكير أكثر حرية وأقل فراغاً من الإثباتات.