حقيقةً، تشكل المادة العادية ما يقارب 5% من كتلة الكون، ولكن لا يعني هذا بالضرورة أنّنا نعرف أين تقع كلّها. في الواقع، ولمدة 20 عامًا، ظل علماء الفلك يحاولون ليكتشفوا في النهاية أن الكميات الموجودة حولنا ليست هي الكميات المفترضة.

وقد كرّس فريق عالمي جهوده ليستطيع حلّ مشكلة الباريونات المفقودة، وقد وجدوها تسبح في الفضاء بين النجوم. فجميع المادّة التي نستطيع رصدها في الكون مكوّنة من الباريونات. النجوم، الكواكب، السدم، البلازما، وحتّى الثقوب السوداء مكوّنة من المادّة الباريونية.

إنّ إجمالي كمّيّة المادّة الباريونيّة-المعروفة أيضًا باسم المادة العادية أو الطبيعية-الموجودة في الكون يمكن تقديرها اعتمادًا على تحليل كمية إشعاع الخلفية الكونيّة التي خلفها الانفجار العظيم.
ومع ذلك، ووفقًا لفريق البحث، فإن ثلثي هذه المادة فقط تمّ احتسابها، ما يترك أمامنا جليًا ثلثًا كاملًا مفقودًا لم نعرف عنه قط.

ويقول «فابريزيو نيكاسترو» رائد فضاء المركز الوطني لعلم الفضاء في روما في إيطاليا ومركز هارفرد السيمسثوني لعلم الفضاء:
«إنّ الباريونات المفقودة تمثّل إحدى أكبر الألغاز في علم الفضاء الحديث. نحن نعلم أنّ هذه المادّة يجب أن تكون في مكان ما، فنحن نستطيع رؤيتها في الكون المبكر، ولكننا لا نستطيع أن نمسك بها بعد الآن. فإلى أين ذهبت؟!»

وفق إحصاء أُجري عام 2012 حول عدد الباريونات الموجودة في الكون، فإنه حوالي 10% من الباريونات يمكن أن تكون وسط المجرّات، والمزيد منها بنسبة 50-60% يمكن أن يكون في سُحُب الغازات بين المجرّات، وفي مناطق الغاز الساخن المحيطة بالمجرّات والمعروفة بالمحيط المجرّي اللاصق.

فهناك دراسةٌ نُشرت مسبقًا هذه السنة، اقترحت أنّ الباريونات المفقودة قد تكون في هذا المحيط المجرّي اللاصق، ولكنّ الباحثين لم يصلوا إلى شيء على الإطلاق.

وهذا ما يترك نقصًا ما بين الـ 30 والـ 40% من الباريونات المفقودة. ولكن هناك مكان دقيق تمّ توقّع وجودها فيه وهو المحيط الدافئ الساخن ما بين المجرّات «WHIM». وهذا المحيط عبارة عن شبكة من الغاز الساخن المنتشر ما بين المجرّات، وأغلب الظنّ أنّه من مخلّفات تكوين هذه المجرّات.

ويقول عالم الفلك في جامعة كولورادو بولدر «ميشال شال»: «عند هذه الأماكن تصبح الطبيعة شاذّة للغاية. فقد يحتوي هذا المحيط الذي يقع بين المجرّات خيوطًا من الغاز بدرجات حرارة تتفاوت ما بين بضعة آلاف إلى بضعة ملايين من الدرجات المئويّة».

ولأنّ هذه البارونات منتشرة للغاية، فمن الصعب رؤيتها عمليًّا.. فهذا حقًا من المستحيل، إلّا إذا استطعت رصد خلفيتها! وهذا ما قام بالفعل به الباحثون، وقد وجدوا كوازار يُدعى «1ES 1553»، وهو مجرّة تحوي في قلبها ثقبًا أسود ناشطًا للغاية.

إنّ «الكوازارات» تمثّل إحدى أسطع الأشياء في الكون. وبذلك يمكن استخدام هذا الضوء لإضاءة كلّ ما يقع بيننا وبينهم وهو في هذه الحالة.

وما بين عامي 2015 و2017، قام فريق البحث باستخدام مرصد الأشعّة السينيّة النيوتوني المتعدّد المرايا «XMM-Newton» المتمركز في الفضاء والتابع لوكالة الفضاء الأوروبيّة، وذلك لرصد «1ES 1553» لمدّة امتدت إلى 18 يومًا.
ويقول فابريزو: «بعد فحص المعلومات، نجحنا في العثور على إشارة للأكسجين في موقعين مختلفين في خطّ البصر في المحيط الساخن الواقع ما بين المجرّات بيننا وبين كوازار بعيد».

فذلك يحدث بسبب وجود خزّانات هائلة للموادّ – تتضمن الأكسجين- تقع هناك، وتمامًا بالكمّيّة التي نتوقّعها.. ولذلك نستطيع أخيرًا إغلاق ثغرة ميزانيّة الكون من الباريونات.
إنّ أغلب الغاز الذي يكوّن «WHIM» هو في الحقيقة هيدروجين مؤيّن، لا يحوي إلكترونات لتكوّن ميزات طيفيّة. ولكن العنصر الأثقل، الأكسجين المؤيّن يحوي بضع إلكترونات، ما يعني أنّه من الممكن رصده، ولذلك قام الباحثون باستخدامه للاستدلال على الكتلة المتبقّية. ومن هنا، يخطّط «فابريزو» وفريقه لاستخدام كوازارات أخرى لتأكيد نتائجهم.
إنّه لمن المثير أيضًا، البدء باستخدام طريقة جديدة كلّيًّا لدراسة «WHIM» وباستخدام كوازارات أخرى؛ فقد تستطيع فرق بحثية أخرى من علماء الفلك البدء بوضع خرائط لتوزّيع حرارتها ومحتواها، وكذلك تشكّل طريقة تكوينها. ولكن قد نحتاج إلى أن ننتظر تليسكوب وكالة الفضاء الأوروبّيّة القويّ «أثينا» -المخطّط إطلاقه عام 2028- للحصول على الأجوبة.

تقول عالمة الفيزياء الفلكيّة من مركز هولندا للبحث الفضائي جل كاسترا: «إنّ اكتشاف الباريونات المفقودة بواسطة مرصد الأشعّة السينيّة النيوتوني المتعدّد المرايا هو الخطوة الأولى المثيرة لوصف الظروف والبنيان التي تتواجد فيها هذه الباريونات. بالطبع للمُضي لخطواتنا التالية، سنحتاج تلسكوبًا بدقّة أعلى من أثينا، يكون أحد أهدافه الرئيسيّة دراسة المحيط الدافئ الساخن ما بين المجرّات، وذلك لتحسين فهمنا لكيفية نموّ تلك الأجسام في تاريخ الكون».


  • ترجمة: منال جابر
  • تدقيق: منّة حمدي
  • تحرير : إيناس الحاج علي
  • المصدر