لماذا وعيي هنا، بينما يتواجد وعيك هناك؟ لماذا ينقسم الكون بالنسبة لكلّ منّا إلى أشياء واعية، وأخرى غير واعية لا تُحصَى عددًا؟

لماذا بعض الأشياء واعية والبعض الآخر ليس كذلك -على الأقل كما يبدو-؟ هل الفئران واعية؟ ماذا عن البعوض؟ والبكتيريا؟

كل هذه الأسئلة تتعلّق بمسألة «العقل والجسد» القديمة، والتي تناقش بشكل رئيسي ماهية العلاقة بين العقل والمادة، ولا تزال هذه المسألة بلا جوابٍ عامٍ مرضٍ حتى بعد آلاف السنين.

الآن، تُعرف مسألة العقل والجسد عمومًا باسم «المسألة الصعبة» للوعي، بعد أن صاغ الفيلسوف ديفيد تشالمرز هذا المصطلح في ورقة بحثية كلاسيكية وشرحه بصورة أعمق في كتابه الصادر عام 1996 بعنوان «العقل الواعي: بحثًا عن نظرية أساسية».

اعتقد تشالمرز أن مسألة العقل والجسد يجب أن تسمّى بالصعبة بالمقارنة مع ما وصفها بالمسائل «السهلة» في علم الأعصاب، مثل كيفية عمل الخلايا العصبية والدماغ على المستوى المادي.

بالطبع هذه المسائل ليست سهلة على الإطلاق، ولكن من وجهة نظره فإنها سهلة نسبيًا مقارنة بالمسألة الصعبة حقًّا والتي هي تفسير كيفية ارتباط الوعي بالمادة.

يقول تشالمرز: «على مدى العقد الماضي، طوّرتُ وزميلي جوناثان سكولر -أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا- ما نسميه (نظرية الرنين للوعي – resonance theory of consciousness)».

«نقترح أن الرنين -كلمة بمعنى الاهتزازات المتزامنة- هو في صميم الوعي الإنساني وأيضًا الوعي الحيواني، والواقع المادي بشكل أعم».

كل شيء عبارة عن اهتزازات

كل الأشياء في كوننا تتحرك باستمرار، حتى الأشياء التي تبدو ثابتة هي في الواقع تهتز وتتأرجح بترددات مختلفة.

الرنين هو نوع من أنواع الحركة يميزه التذبذب بين موضعين (حالتين). في النهاية، كل المواد هي عبارة اهتزازات للحقول الأساسية (الحقول الكمّية). على هذا النحو، فإن كل الطبيعة تهتز.

عندما تجتمع أشياء مهتزة عديدة فإن شيئًا مثيرًا للاهتمام سوف يحدث غالبًا. سوف تبدأ هذه الأشياء في الاهتزاز معًا بنفس التردد بعد فترة قصيرة، أي أنها ستصبح متزامنة، بشكل قد يبدو غامضًا في بعض الأحيان. تُعرَف هذه الظاهرة بالتنظيم الذاتي العفوي.

يقدّم عالم الرياضيات ستيفن ستروغاتز أمثلة مختلفة من الفيزياء والبيولوجيا والكيمياء وعلم الأعصاب لشرح معنى «المزامنة» في كتابه «المزامنة: كيفية انبثاق النظام من الفوضى في الكون، الطبيعة، والحياة اليومية» المنشور عام2003 .

من هذه الأمثلة:

  • عندما تلتقي اليراعات في تجمّعات كبيرة، فإنها تبدأ بالوميض المتزامن، بطرق لا تزال غامضة بعض الشيء.
  • ينتَج الليزر من فوتونات لها نفس الطاقة والتردّد.
  • دوران القمر متزامن تمامًا مع دورانه حول الأرض، لذا نرى دائمًا نفس الوجه منه.

التزامن داخل جمجمتك

لاحظ علماء الأعصاب التزامن في أبحاثهم أيضًا. إن الخلايا العصبية في دماغ الإنسان تعمل معًا مولدةً تردّدات قابلة للقياس، ويعتقد أن وعي الثدييات يرتبط عادةً بأنواع مختلفة من المزامنة العصبية.

على سبيل المثال، استكشف عالم الفيسيولوجيا العصبية الألماني باسكال فرايز الطرق التي تتزامن بها الأنشطة الكهربائية المختلفة في الدماغ لإنتاج أنواع مختلفة من الوعي البشري.

ركّز فرايز على أمواج (غاما) و(بيتا) و(ثيتا). تشير هذه الأسماء إلى سرعة التذبذبات الكهربائية في الدماغ، وتُقاس بواسطة أقطاب كهربائية موضوعة على السطح الخارجي للجمجمة.

تنتج مجموعات الخلايا العصبية هذه التذبذبات كنتيجة لاستخدامها النبضات الكهروكيميائية للتواصل مع بعضها البعض.

إن سرعة وجهد “فولتية” هذه الإشارات هي التي تنتج موجات EEG التي يمكن قياسها.

ترتبط موجات جاما بالأنشطة المنسقة واسعة النطاق مثل الإدراك أو التأمل أو الوعي المركّز، (بيتا) مع أقصى نشاط للدماغ. و(ثيتا) مع الاسترخاء أو أحلام اليقظة.

تعمل هذه الأنواع الثلاثة من الموجات معًا لإنتاج -أو على الأقل لتسهيل- أنواع مختلفة من الوعي البشري وفقًا لفرايز، لكن العلاقة الدقيقة بين موجات الدماغ الكهربائية والوعي لا تزال قيد المناقشة.

يسمِّي فرايز مفهومه «التواصل من خلال الترابط». بالنسبة له، كل شيء يعود لتزامن الخلايا العصبية. التزامن -باعتباره يتشارك معدلات التذبذب الكهربائي ذاتها- يسمح بالاتصال السلس بين الخلايا العصبية ومجموعات الخلايا العصبية.

دون هذا النوع من الترابط المتزامن، تصل المدخلات في مراحل عشوائية لدورة استثارة الخلايا العصبية وتكون غير فعالة، أو على الأقل أقل فاعلية بكثير.

نظرية الرنين للوعي

إن هذه النظرية مبنية على عمل فرايز وآخرون عديدون، ولكنها ذات نهج أوسع يمكن أن يساعد على تفسير الوعي البشري ووعي الثدييات، وأيضًا الوعي على نطاق أوسع.

استنادًا إلى السلوك المرصود للكيانات التي تحيط بنا من الإلكترونات إلى الذرات إلى الجزيئات، إلى البكتيريا إلى الفئران والخفافيش وغيرها، فإننا نقترح أن كل الأشياء يمكن النظر إليها على أنها واعية قليلًا.

هذا يبدو غريبًا في البداية، ولكن الفلسفة المعروفة باسم (الروحية الشاملة – panpsychism) -الرأي القائل بأن كل مادة تمتلك وعيًا- تزداد قبولًا أكثر فأكثر فيما يتعلق بطبيعة الوعي.

تقول فلسفة الروحية الشاملة إن الوعي لم يظهر في مرحلة ما خلال التطور. بدلًا من ذلك، فإنه يرتبط دائمًا بالمادة والعكس صحيح، وهما وجهان لعملة واحدة.

لكن الغالبية العظمى من العقول المرتبطة بمختلف أنواع المادة في كوننا بدائية للغاية، فعلى سبيل المثال، يتمتع الإلكترون، بقدر ضئيل من الوعي، لكن كلما أصبحت المادة أغنى وأكثر ترابطًا، كذلك يكون العقل، وفقًا لطريقة التفكير هذه.

يمكن للكائنات البيولوجية أن تتبادل المعلومات بسرعة من خلال مسارات بيوفيزيائية مختلفة، سواء كهربائية أو كهروكيميائية، بينما يمكن للبُنى غير البيولوجية أن تتبادل المعلومات داخليًا فقط باستخدام المسارات الحرارية، وهذا أبطأ بكثير وأقل غنى بالمعلومات بالمقارنة.

وبفضل هذا التدفق السريع للمعلومات، فإن الكائنات الحية تمتلك وعيًا أوسع نطاقًا ممّا تملكه الأشياء غير الحية ذات الحجم المماثل، مثل الصخور أو أكوام الرمل. إن مستوى الاتصال الداخلي أكبر بكثير، وبالتالي هناك العديد من العمليات التي تجري ضمنها بالمقارنة مع صخرة أو كومة من الرمال.

وفقًا لهذا النهج، تكون الصخور وأكوام الرمل «مجرد مجاميع»، أي مجرد مجموعات من كيانات واعية بدائية للغاية على المستوى الذري أو الجزيئي فقط.

وهذا يتناقض مع ما يحدث في أشكال الحياة البيولوجية، حيث تُنشئ مجموعات هذه الكيانات الواعية الصغيرة معًا كيانًا ذا مستوى عالٍ من الوعي. بالنسبة للباحثين، فإن عملية الدمج هذه هي السمة المميِّزة للحياة البيولوجية.

تتمثّل الأطروحة المركزية التي قدمها العالمان بالتالي: «الروابط التي تسمح بالوعي الواسع -مثل الذي يتمتع به البشر وغيرهم من الثدييات- ناتجة عن رنين مشترك بين العديد من المكونات الأصغر».

سرعة الموجات الرنّانة الموجودة هي العامل المحدِّد لحجم وعي كل كيان في كل لحظة.

ومع توسّع رنين مشترك معيّن ليشمل المزيد والمزيد من العناصر المكوِّنة، فإن الوعي الجديد للكيان والذي ينتج عن هذا الرنين ينمو بشكل أكبر وأكثر تعقيدًا.

لذا فإن الرنين المشترك في دماغ بشري ينجز تزامن غاما -على سبيل المثال- يتضمّن عددًا أكبر بكثير من العصبونات والوصلات العصبية مقارنة مع حالة إيقاعات بيتا أو ثيتا وحدها.

ماذا عن الرنين الأكبر بين الكائنات الحيّة مثل مجموعة من اليراعات أضواؤها متزامنة؟ يعتقد الباحثون أن رنينها الضوئي الحيوي ينشأ بسبب ذبذبات بيولوجية داخلية تؤدّي تلقائيًا إلى تزامن كل يراعة مع جيرانها.

هل هذه المجموعة من اليراعات تتمتع بمستوى من الوعي الجمعي أعلى من وعيها المفرد؟ ربما لا، لأننا نستطيع شرح الظاهرة دون الاستعانة بأي ذكاء أو وعي.

لكن في الُبنى البيولوجية ذات النوع الصحيح من مسارات المعلومات وقوة المعالجة، يمكن لهذه النزعات نحو التنظيم الذاتي أن تؤدّي في كثير من الأحيان إلى كيانات واعية واسعة النطاق.

تحاول نظرية الرنين للوعي توفير إطار موحّد يشمل علم الأعصاب، بالإضافة إلى العديد من الأسئلة الأساسية المتعلّقة بعلم الأعصاب البيولوجي والفيزياء الحيوية، وكذلك فلسفة العقل.

إنها تصل إلى قلب الاختلافات المتعلّقة بالوعي وتطوّر النظم الفيزيائية.

يتعلّق الأمر كلّه بالاهتزازات، ولكنه أيضًا يتعلّق بنوع الاهتزازات، والأهم من ذلك أنه يتعلّق بالاهتزازات المشتركة.


  • ترجمة: مهران يوسف
  • تدقيق: علي فرغلي
  • تحرير: صهيب الأغبري
  • المصدر