الجينات جزء من اللغز المعقّد الذي يميّز الإنسان عن الحيوان والبشر عن بعضهم البعض. تُعتبر جيناتنا -التي تتكون من الحمض النووي DNA الموروث من الوالدين- خرائط وكتيّبات التعليمات لأجسادنا. تُرشد الجينات آلياتنا الخلوية إلى الجزيئات الوظيفية التي يجب صُنعها، وبالتالي تؤمن المكونات التي تُشكّل عمليات الحياة. لون العين، الطول، الفِكر والذكاء، جميعها تتأثر بجيناتنا.

في إبريل من عام 2003، نشرت جمعية تسلسل الجينوم البشري الدولية International Human Genome Sequencing Consortium الجينوم البشري بالكامل، وشكّل ذلك لحظة محوريّة في قدرتنا على فهم آليات العمل الداخلية للكائن البشري.

وضّح فرانسيز كولينز Francis Collins، مدير المركز الوطني لأبحاث الجينوم البشري قائلًا عن الجينوم البشري: «إنّه كتاب تاريخ يحكي رحلة نوعنا عبر الزمن. إنّه دليل تجاري مع مخططات مفصلة إلى أبعد الحدود عن آلية بناء كل خلية بشرية. وهو دليل تعليميّ غيّر الطب بالكامل، يتضمن أفكارًا ستمنح مُقدمي الرعاية الصحية قدرة هائلة على التشخيص، العلاج والوقاية من الأمراض». وقد كان محقًّا.

قبل البدء بعملية تسلسل الجينوم البشري، اعتقد العلماء أن الإنسان العاقل Homo Sapien امتلك ما بين 50,000 إلى 140,000 جين. ثم تبين أنهم بالغوا في تقديرهم بشكل كبير، فالكائنات البشرية تملك حوالي 20,500 جين مطوية كلّها في الـ DNA، مُحتواة في كل واحدة من تريليونات الخلايا التي تجعل الكائن البشري على ما هو عليه.

إنها 20,500 مكانًا يُمكن فيه لآليات الحياة البشرية أن تتبدل! ويمكن للعديد من هذه التعديلات جعل الحياة حينها مستحيلة. في الواقع، لم تبدأ الحياة مع هذا العدد من الجينات، كما أنّ عدد جيناتنا يختلف بشكل جذري عن الأحياء الأخرى. فوفقًا لنظريّة السلف المشترك، نشأت جميع أشكال الحياة على الأرض من أصل مشترك عاش منذ حوالي 3.9 مليار سنة مضت.

في ذلك الوقت، أنتجت طفرات تدريجية في الـ DNA كل شيء تعرفه الآن، من نباتات المحيط البسيطة إلى الكائنات الحيوانية المعقردة كالكائنات البشرية. يؤكد هذا التاريخ المشترك أن الكائنات الأرضية تتشارك بعض التشابه في الـ DNA، إلا أن 3.9 مليار سنة هي في الواقع فترة طويلة جدًا.
يتضمن التنوع البيولوجي للكوكب كلًا من الكائنات وحيدة ومتعددة الخلايا، المتحركة بواسطة الأجنحةف أو الأقدام أو الزعانف، المُسلحة بحاسة شم قوية، أو سمع قوي أو حتى القدرة على تحديد الموقع بالصدى. إن بنية الـ DNA لدينا والجينات التي يضمها متنوعة على حد سواء.

يعتقد العلماء أن الإسفنج كان أول حيوان يتفرع من شجرة الحياة، مع أن الممشطيات كانت هي المعتبرة لفترة من الزمن، وكلما ابتعدت الكائنات عن جذور الشجرة، كان الاختلاف في الـ DNA لديها أكبر.

يحتوي جينوم الإسفنج على 18,000 جين، يتشابه العديد منها مع البشر. في الواقع، يتشارك البشر والإسفنج في حوالي 70% من الـ DNA لديهما.

سيصبح الأمر أكثر غرابة الآن مع الجينات

بما أن جميع الأحياء على الأرض لهم أصل مشترك، فالصلة والقواسم المشتركة ستغدو أبعد من مجرد تشابه مع الإسفنج، إذ يشترك البشر بنصف جيناتهم مع الموز! إننا جميعًا ندرك مع ذلك، أن البشر بعيدون كل البعد عن الموز، فنصف الآلاف والمزيد من الآلاف لا يزال مقدارًا كبيرًا، وخصوصًا عندما تأخذ بعين الاعتبار أن الجينات تُحدد شكلنا ووظائفنا كأحياء.

وما يزال هناك مجال كبير للتغيرات التي تجعلنا مختلفين جدًا عن أقربائنا النباتات، فاختلاف نسبته 30% كافٍ لجعلك بشرًا لا إسفنجًا.
عند مقارنة الإنسان العاقل مع الأحياء الأكثر تشابهًا، تتقلص الاختلافات الجينية بيننا بشكل كبير، إذ إننا نتشارك بحوالي 99% من الـ DNA الخاص بنا مع الشمبانزي.

وعلى الرغم من ذلك، ما يزال هناك العديد من الجينات التي تفصل بيننا، وهي صغيرة بما يكفي لجعلنا نفكر بكيفية تأثير هذه الجينات على سلوكياتنا. إن فك رموز الجينات المسؤولة عن كل سمة من سماتنا مهمةٌ كبيرة، وعلى الرغم من أننا بعيدون عن حل هذا اللغز، فقد بدأ العلماء في طرح الأسئلة.

هناك عامل آخر من عوامل التنوع الجيني، وهو العدد الهائل من الجينات التي يملكها الكائن الحي.

على الرغم من أنه أمرٌ قد يُفاجئ معظم الناس، فإن الكائنات البشرية ليست الكائنات الأكثر تعقيدًا جينيًا (وراثيًا). قد يكون لدينا 20,500 جينًا، إلا أن قشريًا صغيرًا جدًا يُعرف بـ برغوث الماء Daphnia يمتلك حوالي 31,000 جين.

أكثر من ثلث هذه الجينات فريدة من نوعها ولم تكن معروفة لدى العلماء، إلى حين القيام بعملية تسلسل جينوم برغوث الماء في عام 2001.
لماذا يحتاج مخلوق صغير وبسيط كهذا لهذا العدد من الجينات؟

حسنًا، الحجم عامل خادع، وبرغوث الماء بعيد كل البعد عن البساطة! إن بيئته المائية متغيرة بشكل كبير عن بيئتنا، وسيكون عليه التكيّف بسرعة إذا أراد النجاة. تتفق هذه الفرضية بشكل مناسب مع البيانات التي لدينا، كما أن معظم جيناته الفريدة في الواقع مُكرسة للتغير والتكيف مع العوامل البيئية.

يشرح قائد المشروع جون كولبورن قائلًا: «بما أنّ معظم الجينات المكررة وغير المعروفة حساسة للظروف البيئية، فإن تراكمها في الجينوم قد يفسر مرونة برغوث الماء في الاستجابة للتغيرات البيئية».

السبب الكامن في أحجية برغوث الماء هو علم التخلق Epigenetics، والذي يختص بدراسة أن التغيرات في الأحياء سببها التعديل في التعبير الجيني، لا التغير في رموز الجينات أو الكود الوراثي genetic code نفسه. فمجرد امتلاك الكائن الحي جينًا معينًا لا يعني بالضرورة استخدامه لهذا الجين، ومن أجل أن يكون للجين تأثير على الكائن الحي، يحتاج إلى أن يُفسّر من قبل الآليات الخلوية.

يمكن لأي عدد من العوامل البيئية أن يتحكم فيما إذا كان هذا الجين سينتظر أن يُفسّر أو يلتف بإحكام. لذا نجد أن الجينات ليست وحدها العنصر المهم هنا. يأخذ علم التخلق بعين الاعتبار العديد من الاختلافات بين الأشخاص. جينيًا، جميع الأشخاص في العالم هم نفس الشخص بنسبة 99.9%. ولو أن بعضًا مما يجعلنا مختلفين عن بعضنا سببه الجينات، فإن معظمه متعلق بالتخلق المتوالي.

الأمر الممتع في هذا الاكتشاف هو أن الطريقة التي تؤثر بها جيناتنا في جعلنا على ما نحن عليه هو عملية تراكمية، فما نفعله يؤثر على الجينات التي ستتفعل، أو الجينات التي ستدخل في السبات أو تبقى فيه. ولهذا، تصبح التوائم المتطابقة والتي تملك نفس الـ DNA أكثر اختلافًا عن بعضها بمرور الزمن.

اقرأ أيضًا:

عصرنا يشهد أبطأ سرعة لتغير جينات البشر عبر الطفرات الجينية
كيف تنتقل الجينات الوراثية ؟
وجدت دراسة ضخمة علاقة بين جينات الإنسان وميوله الجنسية

المصدر

ترجمة وائل المشنتف – تدقيق محمد وائل القسنطيني