سائل فائق غريب يمكن أن يفسر نشأة الكون – في اللحظات الأولى من الكون، كان كل شيء ساخنًا وكثيفًا ومتوازنًا بشكل مثالي. لم تكن هناك أي جزيئات كما نفهمها الآن، ناهيك عن أي وجود لنجوم أو حتى الفراغ الذي يتخلل الفضاء حاليًا.

لقد كان هذا الأخير مليئًا بأشياء متجانسة ومضغوطة وعديمة الشكل. ثم حدث شيء ما أدى إلى تغيّر كل هذا الاستقرار الممل إلى غير استقرار.
فازت المادة على قريبتها المادة المضادة، وسيطرت على الفضاء كله. تشكلت الغيوم من تلك المادة وانهارت الأخيرة لتتحول إلى نجومٍ انتظمت بدورها في شكل مجرات. كل شيء نعرفه بدأ يظهر إلى الوجود.

إذن، ما الذي حدث وأدى إلى إخراج الكون من حالته عديمة الشكل هذه؟

ما يزال العلماء غير متأكدين. لكن، توصل الباحثون إلى طريقة جديدة لصياغة نموذج في المختبر عن نوع الخلل الذي كان يمكن أن يتسبب في عدم التوازن الكبير بعد نشأة الكون.

أظهر العلماء في بحث جديد نُشر في مجلة نيتشر أنهم يستطيعون استخدام الهيليوم فائق الحرارة ليقدموا نموذجًا عن اللحظات الأولى -على وجه التحديد- من الوجود لإعادة إنشاء مجموعة واحدة من الظروف التي قد وُجدت مباشرةً بعد الانفجار العظيم. وهذا أمر مهم؛ لأن الكون مليء بالتوازنات التي يطلق عليها الفيزيائيون «التناظرات». كمثال على ذلك؛ تعمل معادلات الفيزياء بنفس الطريقة إلى الأمام والخلف في الزمن. وهناك ما يكفي من الجسيمات المشحونة الموجبة في الكون لإلغاء جميع الجسيمات المشحونة السالبة.

لكن في بعض الأحيان تتنافر التناظرات، مثلًا؛ كرة مثالية متوازنة على طرف إبرة ستقع بطريقة أو بأخرى. جانبان متماثلان من مغناطيس سينفصلان إلى قطبين شمالي وجنوبي. تفوز المادة رغم المعوقات على المادة المضادة في نشأة الكون. تنشأ جسيمات أساسية محددة من عدمية شكل الكون المبكر وتتفاعل مع بعضها البعض عبر قوى منفصلة.

قال جيري ماكينين، الكاتب الرئيسي للدراسة وطالب الدكتوراه في جامعة آلتو في فنلندا، لـ لايف ساينس: «إذا أخذنا وجود الانفجار العظيم على هذا النحو، فإن الكون قد مرّ دون شك ببعض التحولات المتقطعة». تريد دليلًا؟ كل شيء من حولنا. كل طاولة وكرسي ومجرة وخلد ماء، كلها أدلة على أن شيئًا ما أخرج الكون المبكر من حالته الراكدة المبكرة إلى تعقيده الحالي. وها نحن هنا بدلًا من أن نكون مجرد قوى كامنة في فراغ موحد، لذا هناك شيء ما كسر هذا التناظر! يُسمّي الفيزيائيون بعض التقلبات العشوائية التي تكسر التماثل «العيوب الطوبولوجية».

تُعتبر العيوب الطوبولوجية في الجوهر مواضعًا يصبح فيها شيء ما مُختلًا في مجال موحد معاكس، ويتشكل اضطراب دون سابق إنذار. يمكن أن يحدث هذا بسبب تدخل خارجي، كما هو الحال في التجربة المعملية. أو يمكن أن يحدث بشكل عشوائي غامض، مثلما يظن العلماء أنه حدث في بدايات الكون. وبمجرد تشكل عيب طوبولوجي، يمكن أن يتموقع في منتصف حقل موحد، مثل صخرة تخلق تموجات في تيار سلس.

يعتقد بعض الباحثين أن أنواعًا معينة من العيوب الطوبولوجية في المادة عديمة الشكل التي تكوّن منها الكون المبكر قد لعبت دورًا في هذه المراحل الأولى من كسر التناظر. وقد تكون تلك العيوب قد شملت بنى تسمى الدوامات النصف كمية (أنماط من الطاقة والمادة تشبه إلى حد ما الدوامات)، وجدران محاطة بأوتار (هياكل مغناطيسية مصنوعة من جدران ثنائية الأبعاد يحدها من الجانبين وتران ذوا بعد واحد).

تؤثر تلك الهياكل الناشئة من تلقاء نفسها على تدفق المادة في أنظمة متماثلة من نواحٍ أخرى، ويشك بعض الباحثين في أن هذه الهياكل لعبت دورًا في تجميع الكون في النجوم والمجرات التي نراها اليوم. وقد سبق للباحثين أن أنشؤوا هذه الأنواع من العيوب في المجالات المغناطيسية للغازات فائقة التبريد والموصلات الفائقة في المختبرات، لكن العيوب ظهرت بشكل فردي. تنطوي معظم النظريات التي تستخدم العيوب الطوبولوجية لشرح أصل الكون الحديث على عيوب مركبة. قال ماكينين: «الكثير من العيوب تعمل بشكل متناسق».

أجرى ماكينين وشركاؤه تجربة تشمل تبريد الهيليوم السائل إلى أجزاء من درجة أعلى من الصفر المطلق وضغطه في غرف متناهية الصغر. في ظلام تلك الصناديق الصغيرة، ظهرت دوامات نصف كمية في الهيليوم الفائق البرودة. ثم غيّر الباحثون حالات الهيليوم، ما أدى إلى مروره بسلسلة من التحولات الطورية بين نوعين مختلفين من السوائل الفائقة أو السوائل غير اللزجة. تشبه هذه التحولات الطورية تحول الماء من مادة صلبة إلى سائل أو غاز، ولكن تحت ظروف أكثر شدة.

تتسبب التحولات الطورية في كسر التماثل. على سبيل المثال، الماء السائل مليء بالجزيئات التي يمكن توجيهها في العديد من الاتجاهات المختلفة. لكن تجميد ذلك الماء، سيجعل الجزيئات تثبت في أماكن معينة. تحدث انكسارات مماثلة في التناظر مع التحولات الطورية فائقة السرعة في التجارب.

ومع ذلك، بعد مرور الهيليوم شديد الميوعة بالتحولات الطورية، بقيت الدوامات محمية بجدران تحدها أوتار. معًا، شكلت الدوامات والجدران عيوبًا طوبولوجية مركبة ونجت من التحولات الطورية في مرحلة كسر التماثل. وبهذه الطريقة، كتب الباحثون في الصحيفة إن هذه الأشياء تعكس عيوبًا تشبه بعض النظريات في الكون المبكر أو في الفترة الأولى التي تلت نشأة الكون.

هل هذا يعني أن ماكينين وشركاءه قد اكتشفوا كيف انكسر التماثل في بدايات الكون؟ بالطبع لا. لقد أظهر نموذجهم فقط أنه يمكن تكرار بعض جوانب النظريات الموحدة الكبرى في المختبر لكيفية التشكل المبكر للكون. تحديدًا، أجزاء تلك النظريات التي تتضمن العيوب الطوبولوجية.
لا يقبل الفيزيائيون أيًا من هذه النظريات على نطاق واسع، وقد يؤدي هذا كله إلى طريق مسدود لنظرية كبيرة.

لكن، يفتح عمل ماكينين الباب أمام المزيد من التجارب للتحقيق في كيفية عمل هذه الأنواع من العيوب لتشكيل اللحظات بعد الانفجار العظيم.
وقال إن هذه الدراسات تعلِّم العلماء شيئًا جديدًا عن العالم الكمومي. يبقى السؤال المفتوح: هل سيقوم علماء الفيزياء في النهاية بربط هذه التفاصيل حول العالم الكمومي الصغير بسلوك الكون بأكمله؟

اقرأ أيضًا عن نشأة الكون والحساء البدائي
دراسة جديدة قد تنسف ما نعرفه عن بداية الكون: الزمن موجود قبل الانفجار العظيم
مصادم الهادرونات الكبير ينجح بانتاج الحساء البدائي (بلازما بداية الكون)
من أين جاء الكون وكيف بدأ ؟

المصدر

ترجمة عبدالله ايت اوشن – تدقيق حسام التهامي –