جسم مختبئ في ضباب الفجر الغامض للكون قد شكّل لعلماء الفلك مفاجأة كبيرة. كشفت الملاحظات التي جمعت بواسطة تلسكوب جيمس ويب الفضائي عن ثقب أسود ضخم نشط كتلته تعادل 9 ملايين مرة كتلة الشمس، ينمو نشاطيًا بينما يبتلع المادة من الفضاء من حوله.

بعمر 570 مليون عام فقط بعد الانفجار الكبير، يُعد هذا أقدم ثقب أسود نشط فائق الحجم اكتشف حتى الآن، على الرغم من أن العلماء يأملون ألا يظل حاملاً لهذا الرقم القياسي لفترة طويلة.

عُثر على الثقب الأسود داخل إحدى أقدم المجرات التي اكتُشفت على الإطلاق، والمعروفة سابقًا باسم EGSY8p7 وتم تسميتها بعد ذلك بـ CEERS 1019.

يمكن أن يساعد اكتشاف ثقب أسود مثل هذا على حل أحد أكبر الألغاز في الكون المبكر: كيف نمت الثقوب السوداء في الفجر الكوني لتصل إلى حجم كبير جدًا في وقت قصير جدًا.

نُشرت ورقة تفصيلية تصف الاكتشاف بقيادة عالمة الفلك ريبيكا لارسون من جامعة تكساس في أوستن في مجلة الفيزياء الفلكية.

قالت لارسون لموقع ScienceAlert: «لقد وجدنا أقدم ثقب أسود يُعد نواة المجرة الأكثر نشاطًا والأكثر بعدًا».

كانت لارسون في البداية تبحث في CEERS 1019 جزءًا من عملها في التحقيق في الضوء الناتج عن تشكل النجوم في الكون المبكر جدًا.

يعتقد أن هذا الضوء، المعروف باسم انبعاث لايمان-ألفا (Lyman-alpha emission)، يتولّد بواسطة تأيين الهيدروجين المحايد عن طريق نشاط تكوين النجوم.

كان الكون المبكر مليئًا بضباب الهيدروجين المحايد، الذي عرقل انتشار الضوء. لم يكن الضوء يستطيع التوجه بحرية إلا بعد أن تأين هذا الهيدروجين وأصبح الضوء قادرًا على التدفق بحرية.

هذه الفترة الزمنية المعروفة بـ “عصر التأيين” لم تُفهم تمامًا بعد. نعلم أنها وقعت في السنوات الأولى بعد الانفجار الكبير قبل 13.8 مليار سنة، ولكن رؤية الكون المبكر بهذا القدر الكبير صعب حقًا.

تُعد CEERS 1019 وعدد قليل من المجرات المبكرة جدًا أهدافًا ممتازة لهذا البحث لأنها مشرقة نسبيًا.

حُدّدت المجرة في بيانات هابل في عام 2015، وفي ذلك الوقت كانت المجرة الأقدم والأبعد المرصودة.

أكدت الملاحظات التالية وجودها، ولكن المعلومات المفصلة كانت مستعصية لأن أقرب ضوء في الكون قد انتقل إلى منطقة الأشعة تحت الحمراء بفعل تمدد الكون، وبالتالي يكون من الضروري استخدام جهاز استشعار قوي ومخصص للأشعة تحت الحمراء مثل تلسكوب جيمس ويب لاستكشافها.

لذلك، بعد إطلاق تلسكوب جيمس ويب (JWST)، أصبحت CEERS 1019 -أكثر مجرات هابل إشراقًا- هدفًا واضحًا. واستمر التلسكوب في التحديق في المجرة مدة ساعة واحدة فقط، باستخدام جميع أربعة أجهزته، وزوّدنا بكمية كبيرة من البيانات.

قالت لارسون لـ ScienceAlert: «في تلك اللحظة، قلت: واو، انظروا إلى كل ما يمكننا رؤيته بواسطة جيمس ويب JWST، لقد رأينا هذا الجزء الكامل من الطيف لهذه المجرة -وأي مجرات في وقت مبكر في الكون- لم نرها من قبل. كنت متحمسة جدًا لكمية المعلومات».

بعد ذلك لاحظت لارسون شيئًا لم تكن تتوقعه تمامًا. فإضافةً إلى ضوء تكوين النجوم، كانت هناك ميزة انبعاث واسعة ترتبط عادة بنشاطات أنوية المجرات النشطة active galactic nucleus AGN. عندما ذكرت الأمر لبعض الباحثين في مجال AGN، بدأت الأمور تأخذ منحى مثيرًا.

عادةً ما تصدر مجرة في الكون المبكر إما ضوءًا من نوى مجرية نشطة أو ضوءًا من تكوين النجوم. كان من غير المتوقع رؤية كليهما في نفس المجرة.

قالت لارسون: «تفاجأت تمامًا مثل الجميع. تجادلنا لأسابيع حول ذلك، بشأن ما الذي يجب أن يكون، يجب أن يكون هذا أو ذاك. وتبين أن الأمر ينطبق على كليهما. هناك بعض التأثيرات التي يحدثها ثقب أسود على خطوط الانبعاث التي نراها، ولكن معظم الضوء الذي نراه في صورنا ما يزال يهيمن عليه جزء تكوين النجوم في المجرة».

إن وجود ثقب أسود فائق الضخامة قد حدث قبل أكثر من 13.2 مليار سنة، ويُرى وهو ينمو، ليس مفاجئًا بقدر ما نعتقد.

اكتُشفت ثقوب سوداء أكبر بكثير في الكون المبكر. فمثلاً، اكتُشفت مجرة الكوازار J1342+0928، التي اكتشفت بعد 690 مليون سنة من الانفجار الكبير، وتحتوي على ثقب أسود فائق الضخامة يعادل 800 مليون شمس. وتم قياس الثقب الأسود في المجرة J0313-1806، التي يعود تشكلها إلى 670 مليون سنة من الانفجار الكبير، بنحو 1.6 مليار شمس.

كلا المجرتين الكوازار تتميزان بالانبعاثات الناجمة عن AGN. وتعتقد لارسون وزملاؤها أن CEERS 1019 يمثل خطوة وسيطة: نقطة بين المجرات الكبيرة التي تسيطر عليها أنوية نشطة AGN في مراحل لاحقة، وكيف بدأت تلك المجرات وثقوبها السوداء في التشكل في الأصل.

قالت لارسون: «لم نكن نعلم -وما نزال- كيف نمت الثقوب السوداء في تلك المجرات لتصبح ضخمة جدًا في مراحل مبكرة من الكون. لذلك، ما وجدناه هو ما نعتقد أنه يمكن أن يكون السلف أو الشيء الذي نما في مجرات الكوازار المذهلة بشكل لا يصدق».

بالنظر إلى الثقب الأسود فائق الضخامة في CEERS 1019، يعتقد الباحثون أنه تكون نتيجة انهيار جسم ضخم، مثل إحدى أولى النجوم في الكون. كانت هذه النجوم أكبر بكثير من النجوم الموجودة اليوم، لذا فثقب أسود ناتج عن مثل هذا الانهيار سيكون فائق الضخامة.

سيحتاج أي ثقب أسود إلى بعض التعزيز ليصل إلى تلك الضخامة. يمكن أن يأتي ذلك على شكل امتصاص فائق إدينجتون بشكل دوري. الحد الأقصى للإدينجتون هو أعلى معدل مستدام يمكن للثقوب السوداء أن تنمو به. تدور المادة حول الثقب الأسود في قرص وتتغذى في الثقب الأسود مثل الماء المتدفق في البالوعة.

عند تجاوز الحد الأقصى للإدينجتون، تتحرك المادة بسرعة عالية لدرجة أنها لا تواصل الدوران حول الثقب الأسود، بل تنفصل وتنطلق إلى الفضاء. الامتصاص الفائق للإدينجتون ممكن فقط لفترات قصيرة؛ ولكن وفقًا لتحليلات الفريق، يمكن أن يكون ذلك ممكنًا في انفجارات تساعد في نمو الثقب الأسود في قلب CEERS 1019.

تقول جيهان كارتالتيبي، إحدى أعضاء فريق CEERS وعالمة الفلك في معهد روتشستر للتكنولوجيا في نيويورك: «لسنا معتادين على رؤية هذا القدر من التفاصيل في الصور في مثل هذه المسافات. اندماج المجرات قد يكون المسؤول جزئيًا عن تغذية النشاط في الثقب الأسود في هذه المجرة، وهذا قد يؤدي أيضًا إلى زيادة تكوين النجوم».

وتضيف أن أفضل طريقة لمعرفة المزيد عنها هي العثور على المزيد من المجرات الوسطى، ويبدو أن هذا أمر ممكن للغاية.

تشير لارسون إلى أن النتائج جاءت من ساعة واحدة فقط من الملاحظات. ومن المتوقع أن تكشف الملاحظات العميقة حقًا المزيد من المجرات الأبعد، وحتى المجرات الأضعف التي ستساعدنا أخيرًا في فهم تشكل الكون ونموه.

تقول لارسون: «لا أعتقد أن سجلي سيدوم طويلاً. وآمل ألا يدوم، لأنني أعتقد أن ذلك أكثر إثارة، أننا بدأنا في الإجابة على هذه الأسئلة».

اقرأ أيضًا:

اكتشاف ثقب اسود ضخم « متشرد » يسبح وحيدا في الفضاء

للمرة الأولى: رصد ثقب اسود خامل داخل عنقود نجمي

ترجمة :حمداش رانية

تدقيق: هاجر القفراشي

المصدر