المذهب النقدي : طباعة النقود لكبح التضخم – تصور أنك تستضيف بعض الاقتصاديين في حفل عشاء، وتوجد مدرستان متنافستان تقدمان أفكارًا حول ما يجب فعله لإضفاء بعض المرح على الحفل.

الاقتصاديون الكينزيون Keynesianينصحونك بأن تقاطع ألعاب الحفل ووجباته، وأن تطلب من الحضور ممارسة لعبة التويستر المثيرة. في حين يقترح ميلتون فريدمان Milton Friedman ورفاقه النقديون monetarist حلًّا مختلفًا، وهو أن تهتم بالمشروبات وتدع الحفل يعتني بنفسه.

بالطبع فإن الاقتصاد أكثر تعقيدًا من مجرد حفل سيئ، لكن يظل السؤال الرئيسي هو: هل من الأفضل التدخل عندما تسوء الأمور، أم أن تسعى لمنع المشاكل من البداية؟

هذا المقال يستكشف المذهب النقدي للسيطرة على التضخم inflation، ونجاحات هذا المذهب وإخفاقاته.

أسس المذهب النقدي

المذهب النقدي Monetarism هو نظرية في الاقتصاد الكُلي، وُلدت من رحم الانتقادات الموجهة للاقتصاد الكينزي، ويرجع الاسم إلى تركيزه على دور النقود في الاقتصاد، وهو في ذلك يختلف بشدة مع النظرية الكينزية للاقتصاد، التي تركز على تأثير الدولة في الاقتصاد من طريق الإنفاق الحكومي، ولا تركز على دور السياسة النقدية.

حساسية الأسعار: كيف يؤثر سعر المنتج على شراء المستهلكين له؟

وفقًا للنقديين (أتباع المذهب النقدي)، من الأفضل للاقتصاد مراقبة المعروض النقدي وترك الأسواق تهتم بنفسها، إذ تعتمد النظرية على أن الأسواق أكفأ في التعامل مع مشاكل التضخم والبطالة.

ميلتون فريدمان، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، كان من أنصار المذهب الكينزي سابقًا، ثم أصبح من أوائل المنشقين عنه. في كتابه (التاريخ النقدي للولايات المتحدة 1867- 1960)، الصادر عام 1971 بالتعاون مع زميلته الاقتصادية آنا شوارتز Anna Schwartz، احتج فريدمان بكون السياسات النقدية الضعيفة التي مارسها الاحتياطي الفيدرالي Federal Reserveكانت السبب الرئيسي للكساد الكبير the Great Depression، وليست المشاكل المتعلقة بالادخار والنظام البنكي.
يرى فريدمان أن الأسواق تتحرك تلقائيًّا نحو نقاط التوازن، وأن الخلل في المعروض النقدي money supply هو ما يؤدي إلى تصرف الأسواق بعشوائية.

بانهيار اتفاقية بريتون وودز Bretton Woodsفي أوائل السبعينيات، وما تلا ذلك من تزايد معدلات البطالة والتضخم، تحولت الحكومات إلى المذهب النقدي، لتبدأ شهرة أفكار هذه المدرسة الاقتصادية.

في المذهب النقدي عدد من المبادئ الرئيسية:

  • مفتاح توقعات الأعمال ومكافحة التضخم هو السيطرة على المعروض النقدي.
  • توقعات الأسواق حول التضخم تؤثر على أسعار الفائدة.
  • عادةً يأتي التضخم متأخرًا عن آثار التغير في الإنتاج.
  • نسبة البطالة الطبيعية موجودة بالضرورة، وأي محاولة لتخفيض تلك النسبة تسبب التضخم.

النظرية الكمّية للنقود Quantity Theory of Money
وفقًا للاقتصاديين التقليديين، تتحدد كمية النقود المتاحة في الأسواق وفقًا لمعادلة التبادل equation of exchange:
M×V=P×T
M: تشير إلى كمية النقود المتداولة في الأسواق في فترة زمنية معينة.
V: تشير إلى معدل تداول النقود في هذه الفترة (متوسط مرات تداول العملة).
P: تشير إلى مستوى متوسط الأسعار.
T: تشير إلى مؤشر حجم الإنفاق الحقيقي.

اختبر الاقتصاديون هذه المعادلة، ووجدوا أن سرعة التداول تظل ثابتةً نسبيًّا في مدة معينة، لأن زيادة المعروض النقدي تؤدي إلى زيادة الأسعار، أي أنها تؤدي حتمًا إلى التضخم، الذي يضر بالاقتصاد برفعه لأسعار السلع والحد من الإنفاق الإنتاجي والاستهلاكي، أو كما قال فريدمان: «يظل التضخم دومًا وفي كل مكان ظاهرةً نقدية».

لا يأخذ الاقتصاديون الكينزيون في الحسبان دور المعروض النقدي وأثره على الناتج المحلي gross domestic product (GDP)، إذ يرون أن الأسواق سوف تأخذ وقتًا أطول في التعامل مع التغيرات، أما النقديون فيرون أن الأسواق تتأهب بسهولة للتأقلم مع رؤوس الأموال المتاحة.

المعروض النقدي والتضخم وقاعدة النسبة (K)
وفقًا لفريدمان والنقديين، يجب أن يقتصر دور البنك المركزي على الحد من المعروض النقدي أو زيادته.

يشير مصطلح المعروض النقدي إلى كمية النقود المتاحة في الاقتصاد، لكن تعريف فريدمان للنقود يتسع ليشمل حسابات الادخار والحسابات تحت الطلب on-demand accounts.

إذا زاد المعروض النقدي سريعًا، سيرتفع معدل التضخم وأسعار المنتجات، ما يشكل ضغطًا على الاقتصاد يسبب ركودًا أو انكماشًا اقتصاديًّا، وقد يزيد البنك المركزي الوضع سوءًا إذا لم يضخ كميةً كافية من النقود. وإذا كانت البنوك والمؤسسات المالية غير راغبة في منح ائتمان لأطراف أخرى، فإن النتيجة ستكون أزمة ائتمانية credit crunch، أي ببساطة عدم وجود نقود كافية لاستثمارات أو وظائف جديدة.

وفقًا للنقديين، فإن ضخ المزيد من النقود في الاقتصاد يُمكِّن البنك المركزي من تحفيز الاستثمار، وتعزيز الثقة داخل مجتمع المستثمرين.

اقترح فريدمان أن يضع البنك المركزي أهدافًا للتضخم، ولضمان الوصول إلى هذه الأهداف، فعليه أن يزيد من المعروض النقدي بنسبة محددة سنويًّا، دون النظر إلى وضع الاقتصاد بالنسبة لدورة الأعمال، أي ما يُعرف بالنسبة (K)، وهو ما يسبب الآثار التالية:
أولًا: يُحجِّم قدرة البنك المركزي على تغيير معدل إضافة النقود للمعروض النقدي.
ثانيًا: يمنح قطاع الأعمال فرصة للتنبؤ بإجراءات البنك المركزي، ما يؤثر بفعالية على التغيرات المحدودة لسرعة دوران النقود، فتكون الزيادة السنوية للمعروض النقدي متناسبةً مع النمو الطبيعي للناتج الإجمالي المحلي.

التوقعات

يستخدم الاقتصاديون منحنى فيليبسPhillips curve لشرح العلاقة بين البطالة والتضخم، إذ يُتوقَع زيادة التضخم (في صورة زيادة الرواتب) عند انخفاض معدل البطالة. وفقًا للاقتصاد الكينزي، تستطيع الحكومات خفض معدل البطالة برفع معدل التضخم، لكن هذا المبدأ قد تعرض لأزمة في أوائل السبعينيات، عندما ارتفع معدلا البطالة والتضخم معًا.

منحنى فيليبس: علاقة عكسية بين التضخم والبطالة

منحنى فيليبس: علاقة عكسية بين التضخم والبطالة

اختبر فريدمان والنقديون الدور الذي تلعبه التوقعات في معدل التضخم، خاصةً عندما يتوقع الأفراد زيادةً في الرواتب في حالات التضخم، فإذا حاولت الحكومة تقليص معدلات البطالة بزيادة الطلب بواسطة زيادة الإنفاق الحكومي، سيؤدي هذا إلى زيادة التضخم، ما يدفع الشركات إلى توظيف المزيد لاستيعاب صدمة الطلب المتنامي، وهو ما يحدث إذا تدخلت الحكومة لتخفيض البطالة دون مستوى معين، يُشار إليه عادةً بالمستوى الطبيعي للبطالة.

كان لإدراك هذا الأمر أثر مهم، فالنقديون يعلمون أن التغيرات قصيرة المدى في المعروض النقدي تسبب تغيرات في الطلب، لكن هذه التغيرات تتضاءل على المدى الطويل بسبب توقع الأفراد زيادة التضخم، أي إنه إذا توقعت الأسواق تضخمًا مستقبليًّا، فإن هذا يحافظ على مستويات أسعار فائدة مرتفعة في السوق المفتوحة.

تطبيق المذهب النقدي

اشتهر المذهب النقدي في حقبة السبعينيات، خاصةً في الولايات المتحدة، عندما ارتفع معدلا البطالة والتضخم، في حين لم ينمُ الاقتصاد بنسبة مماثلة. عُيّن بول فوكر Paul Volcker رئيسًا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي سنة 1979، وواجه مهمةً شاقة، تمثلت في كبح التضخم المتزايد نتيجة ارتفاع أسعار النفط وانهيار اتفاقية بريتون وودز. حد فوكر من نمو المعروض النقدي، متخليًا عن السياسة السابقة المتمثلة في استهداف أسعار الفائدة. نجح هذا التغيير في خفض معدل التضخم، لكنه سبب ركودًا اقتصاديًّا بسبب ارتفاع أسعار الفائدة.

منذ صعود المذهب النقدي في أواخر القرن العشرين، يوجد جانب واحد من المقاربة الكلاسيكية للمذهب النقدي لم يتطور، وهو التشريعات الصارمة لمتطلبات الاحتياط المصرفي reserve requirements. رأى فريدمان وجوب السيطرة الصارمة على احتياطات البنوك، لكن نُحيَت هذه الرؤية جانبًا بالتشريعات التي حدَّت من السيطرة على الأسواق المالية، وأصبحت ميزانيات الشركات أكثر تعقيدًا.

بما أن العلاقة بين التضخم والمعروض النقدي صارت مرنة، فإن البنوك المركزية كفت عن التركيز على الأهداف المالية الصارمة، واهتمت بدلًا من ذلك بأهداف التضخم. أشرف على هذا الدور آلان جرينسبان Alan Greenspan، الذي كان نقديًّا طوال فترة رئاسته للاحتياطي الفيدرالي، التي استمرت 20 عامًا.

نقد المذهب النقدي

كان أكثر منتقدي المذهب النقدي الاقتصاديون الكينزيون، خاصةً عقب السياسات المكافحة للتضخم في أوائل الثمانينيات، التي أدت إلى الركود الاقتصادي. أشار المنتقدون إلى فشل الاحتياطي الفيدرالي في احتواء الطلب على النقود، وهو ما أدى إلى انكماش رؤوس الأموال المتاحة.

السياسات الاقتصادية والنظريات الكامنة خلف فشل هذا المذهب ونجاحه عديدة، ربما تشرح إحدى المدراس ما يحدث في فترة زمنية معينة، في حين تفشل في المقارنات المستقبلية. ومع ذلك فإن للمذهب النقدي سجل إنجازات حافلًا، لكنه ما زال مدرسةً فكريةً جديدةً نسبيًّا، ومن المرجح أن تُصقَل مع مرور الوقت.

إقرأ ايضًا: حساسية الأسعار: كيف يؤثر سعر المنتج على شراء المستهلكين له؟

المصدر

ترجمة أحمد السقا – تدقيق عبدالله كريم – مراجعة أكرم محي الدين