قسّم فرويد النفس البشرية إلى ثلاثة أقسام وظيفية هي: الهو، والأنا، والأنا العليا. الهو: المكون الغامض المنيع غير العقلاني من النفس، الذي يسعى نحو اللذة، أما الأنا العليا فهي الضمير الأخلاقي الناتج من التربية، ومطالبه متشددة ومطلقة، ويتعارض بذلك مع الهو المتقلّب. بذلك تصبح وظيفة الأنا معالجة هذا الصراع الداخلي، حتى يتمكن الهو من إشباع رغباته بطريقة مقبولة أخلاقيًّا واجتماعيًّا. للقيام بهذا الدور يجب على الأنا أن يبقى مدركًا للواقع المحيط.

الجدير بالذكر أن فرويد بدأ عمله اختصاصيًّا في طب الأعصاب، شغوفًا بإثبات مقاربته الديناميكية النفسية من طريق معرفته بطريقة عمل الدماغ، لكنه لم يحقق هدفه للأسف، إذ خصص الجزء الأكبر من وقته في البحث السريري لتطوير نظريته في التحليل النفسي. أصبح التحليل الوظيفي للنفس البشرية فيما يتعلق بالدماغ ممكنًا أكثر من ذي قبل، مع التطور السريع في ميدان علم النفس العصبي، بمساعدة تقنيات كالتصوير بالرنين المغناطيسي.

يهدف هذا المقال إلى اقتراح مناطق من الدماغ تتوافق مع الركائز الثلاث لنظرية فرويد، بواسطة إيجاد وظائف محددة تقوم بها مناطق معينة من الدماغ، تتوافق مع وظائف الهو والأنا والأنا العليا، استنادًا إلى دراسة صور الرنين المغناطيسي والمناطق الدماغية المتضررة والتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة.

اللوزة هي الهو

يقول فرويد في كتابه (ما فوق مبدأ اللذة): نعد في نظرية التحليل النفسي أن كون مسار العمليات العقلية منظَّمًا تلقائيًّا وفق مبدأ اللذة هو أمر مسلم به، ونعتقد أن أي عملية ممكنة تبدأ من حالة التوتر المزعجة، وبناءً على ذلك تجد هذه العملية العقلية لنفسها طريقًا يهدف أساسًا إلى إزالة هذا التوتر، كتجنب الألم أو خلق اللذة.

يتوافق الوصف المختصر السابق لمبدأ اللذة لفرويد مع وظيفة منطقة تحت قشرية (أي لا واعية) من الدماغ تُسمى اللوزة. ترتبط هذه المنطقة بالاستجابة للأخطار المحيطة، وتشمل هذه الاستجابة إرسال إشارات إلى المحور الوطائي النخامي الكظري لزيادة النشاط القلبي التنفسي ونشاط الجهاز العصبي المحيطي (الودّي) لتهيئة الجسم لاستجابة (الهروب أو القتال)، تتوافق هذه الاستجابة التلقائية اللاواعية للخطر مع وظيفة الهو لدى فرويد في تجنب الألم.

يشير بحث جديد آخر إلى أن وظيفة اللوزة تتجاوز تحويل إشارات التنبيهات المنفرة إلى تحويل الإشارات الترغيبية، ما يوضح الدور الوسيط للوزة في السلوك الترغيبي والتنفيري عبر عمليات فسيولوجية مختلفة.

علم الأعصاب يؤكد نظرية فرويد عن النفس البشرية - الأنا العليا هي الضمير الأخلاقي الناتج من التربية - المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية

وفقًا لفرويد: «تهدف الغرائز كلها إلى استرجاع حالة سابقة»، فالدافع في حالة اللذة هو تكرار تجارب سابقة سببت اللذة، وبناء على ذلك فإن دور اللوزة يتوافق مع فكرة فرويد. افتُرض سابقًا أن اللوزة تعمل مثل جهاز تخزين للذكريات، فهي تربط التنبهات المحايدة مع التنبيهات المحركة للدوافع ذات الصلة كالطعام والجنس والخطر، واستنادًا إليها يسبب استجابة لتلك التنبهات وفق نظام الثواب والعقاب، وهذا لا يتوافق مع مبدأ فرويد للذة المتأصل في الهو فقط، بل يُعَد اختصارًا لطبيعته.

البطانة الإنسية للقشرة الجبهية الأمامية هي الأنا العليا

ربطت العديد من الدراسات الحكم الأخلاقي بمنطقة من الدماغ تُسمى البطانة الإنسية للقشرة الجبهية الأمامية، تملك هذه المنطقة اتصالات عصبية متبادلة مع اللوزة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالضبط الانفعالي، وبناء على ذلك فهي تمثل مصدرًا للصراع مع اللوزة (الهو). أثبتت الدراسات السريرية دورًا مهمًّا للبطانة الإنسية للقشرة الجبهية الدماغية في المعالجة العاطفية المتعلقة بالشعور بالذنب، ما يؤكد صحة اعتبار هذه المنطقة من الدماغ ركيزةً للأنا العليا.

وفقًا لدراسة أخرى، تلعب مناطق أخرى من الدماغ دورًا في عملية اتخاذ القرارات الأخلاقية، في حالة المعضلات الأخلاقية الصعبة التي تتضمن التضحية الشخصية، وترتبط بالتفكير التجريدي وإعادة التقييم المعرفي، منها المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية. قُدم للمشاركين في هذه الدراسة سيناريو حربي، حيث كان بكاء رضيع يعرِّض حياة العديد من الأشخاص المختبئين للخطر، إذ سيكشف مكانهم للعدو، طُلب من الأشخاص -في أثناء مراقبة أدمغتهم بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي- أن يقرروا كون خنق الطفل في هذا الموقف يُعَد فعلًا أخلاقيًّا.

كان لدى الأشخاص الذين قرروا أن هذا الفعل مقبول نشاط أكبر في المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية من أولئك الذين قرروا أن قتل الطفل أمر غير ملائم بصرف النظر عن النتائج. يعكس الرافضون للفعل أفكارًا أخلاقية مطلقة شبيهة بالأنا العليا لفرويد.

يشير ازدياد النشاط في هذه المنطقة من الدماغ لدى المشاركين الذين عدوا قتل الطفل أمرًا مقبولًا إلى تعديل أو إعادة تقييم الرفض الكلي لهذا الفعل الذي قام به نشاط الأنا العليا في منطقة البطانة الإنسية للقشرة الجبهية الأمامية من الدماغ. يدعم هذا فكرة الميل الفطري لهذه المنطقة إلى النظرة المطلقة للأخلاق في ما يشبه للأنا العليا الفرويدي، إلا إذا خضعت للتخفيف من الأنا في المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبيهية الأمامية.

حظيت هذه الفرضية بتأكيد إضافي من دراسة أخرى، استُخدم فيها سيناريو الطفل الباكي نفسه لكن مع تعطيل الجانب الأيمن للمنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية للأشخاص المشاركين بواسطة تحفيز مغناطيسي متكرر للجمجمة، أثار هذا التعطيل استجابة لا نفعية مدمرة للذات لدى المشاركين، وهي ترك الجميع للموت بمن فيهم الطفل نفسه.

تأتي عدة تأكيدات أخرى لهذه الفرضية من دراسات أخرى أظهرت دور المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية في اتخاذ قرارات أخلاقية أكثر مرونة. في إحداها قيم المشاركون سيناريوهات عديدة كان 40 منها أخلاقيًّا و20 غير أخلاقي (مجموعة التحكم) ليقرروا إذا كان الفعل المعروض في السيناريو صائبًا أخلاقيًّا أم لا، وإذا كانوا سيتخذون القرار ذاته -بمعرفة المنافع والأضرار الممكنة- في حياتهم الواقعية، رغم اعتقادهم أنه فعل خاطئ.

أُجري تصوير بالرنين المغناطيسي للمشاركين، وأظهرت النتائج ازدياد نشاط المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية، وكذلك منطقة أخرى من القشرة المخية هي التقاطع الصدغي الجداري لدى الأشخاص الأكثر مرونةً في قراراتهم، تؤكد هذه التجربة مثل التجارب السابقة المذكورة الميل الفطري للبطانة الإنسية للقشرة الجبهة الأمامية إلى الصلابة المثالية في ما يشبه الأنا العليا لفرويد، حال لم تخضع لضبط المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية ومناطق أخرى.

المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية هي الأنا

يشبه نشاط إعادة التقييم السابق ذكره في المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية وظيفة الأنا لدى فرويد. ترتبط هذه المنطقة أيضًا بالاستدلال الاستقرائي الذي يشمل إجراء استنتاجات منطقية عن العالم الخارجي، فهي تلعب دورًا في وضع القواعد بناء على التجربة (كل الليمون حامض) وتطبيقها (تجنب تناول الليمون)، واستنادًا إلى ذلك فهي مرشح ملائم لوظيفة الأنا.

تمتاز هذه المنطقة بما فوق الإدراك (التفكير الخاص والنشاطات الإدراكية) التي تتطلب إدراك المرء لوجوده باعتباره ذاتًا.

ثبت أن هذه المنطقة تنشط عندما يحاول الأشخاص ممارسة ضبط النفس عند تناول الطعام غير الصحي، إذ ازداد نشاط المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية لدى الأشخاص القادرين على ضبط النفس بصورة كبيرة، وانخفض نشاط البطانة الإنسية للقشرة الجبهية الأمامية، الأمر الذي يثبت دور المنطقة الظهرانية الجانبية في التحكم الذاتي في التصرفات.

لا يجب إهمال دور مناطق الدماغ الأخرى في تقييد البطانة الإنسية للقشرة الجبهية الأمامية في اتخاذ القرارات الأخلاقية. إذ أظهرت بعض التجارب أن القشرة الحزامية الأمامية قد تلعب دورًا في تحديد الصراع الأخلاقي وضبطه، لذا فإن اعتبار المنطقة الظهرانية الجانبية ممثلةً للأنا دون النظر إلى دور الشبكات العصبية المتكاملة متعددة الوظائف في مناطق مختلفة من القشرة الدماغية يُعَد مبالغةً في التبسيط.

لكن يبدو أن المنطقة الظهرانية الجانبية تلعب دورًا رئيسيًّا في ضبط نشاط اتخاذ القرارت الأخلاقية الذي تقوم به البطانة الإنسية للقشرة الجبهية الأمامية وجعلها أكثر مرونة. من الممكن تفسير ذلك في نطاق نظرية فرويد بضبط علاقة الأنا العليا مع الهو بالتوافق مع العالم الخارجي.

الخلاصة

قد تَثبُت صحة التحليل المذكور هنا مع توفر المزيد من المعلومات أو لا، لكن اعتمادًا على الدراسات المذكورة سابقًا فإن نظرية فرويد للنفس البشرية وعلاقتها بمناطق الدماغ لافتة ومثيرة للاهتمام جدًّا. لم تُستكشف بعد نتائج هذا التحليل البدئي، لكن دور نظرية فرويد للديناميكية النفسية للنفس البشرية في التحليل النفسي وطرق العلاج النفسي الأخرى مهم جدًّا ولا يجب الاستخفاف بتطبيقاتها في العلاج.

فمثلًا قد توحي مشاكل قوة الأنا باضطرابات في نشاط المنطقة الظهرانية الجانبية للقشرة الجبهية الأمامية، أو البنى المرتبطة بها. وهذا ما قد يطرح حلولًا للعلاج الذي يستهدف هذه المناطق من الدماغ. قد تكون هذه المعلومات قيمة جدًّا في تطوير علاج للاضطرابات العقلية، مع تطور فهم آلية عمل هذه الشبكات العصبية.

اقرأ أيضًا:

سيجموند فرويد: أبو علم النفس وأفكاره المثيرة الجدل

ما هو التحليل النفسي وكيف يتم وهل يستحق الأهمية المعطاة له؟

ترجمة: ليلان عمر

تدقيق: نغم رابي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر