استعمل العلماء خوارزميةً معتمدة على أنماط انتشار العفن الغروي لإنشاء نموذج للشبكة المكونة من الغاز والمادة المظلمة المُشكِّلة لنسيج الكون، المستحيلة رؤيتها بالعين، إذ يُعَد العفن الغروي أحد أغرب صور الحياة على كوكب الأرض، لكن علينا ألا نقلل من شأن هذا الكائن عديم الدماغ، إذ يمتلك -رغم مظهره المتواضع- طريقةً فريدة في النمو في شبكات متفرعة من محلاقات العفن، قادرة على حل معضلات مكانية من وجهة نظر حسابية.

توصلت النماذج المعتمدة على الوحل متعدد الرؤوس سابقًا إلى حلول للمتاهات، وتعرفت على أقصر مسار بين عدة نقاط، وأعادت إنشاء شبكة قطارات طوكيو، لكن إلى أي مدى قد يبلغ طموح هذا النموذج في الانتشار وحَلّ المشكلات؟ في بحث جديد قاده الفلكي جو بارشت من جامعة كاليفورنيا سانتا كروز، وجد العلماء أن غريزة الاستكشاف لدى الوحل متعدد الرؤوس قد تساعدنا على حل إحدى أكثر المشكلات الفيزيائية غموضًا.

خريطة لنموذج ثلاثي الأبعاد للوحل متعدد الرؤوس محاكيًا خيوط الشبكة الكونية، إذ تظهر المجرات باللون الأصفر والخيوط المُولدة خوارزميًا باللون البنفسجي

خريطة لنموذج ثلاثي الأبعاد للوحل متعدد الرؤوس محاكيًا خيوط الشبكة الكونية، إذ تظهر المجرات باللون الأصفر والخيوط المُولدة خوارزميًا باللون البنفسجي

كتب مؤلفو الدراسة في ورقتهم البحثية: «يتنبأ علم الفلك الحديث بأن المادة في كوننا المعروف اليوم قد تجمعت في شبكة عملاقة من البُنى الخيطية، المتعارف على تسميتها بمصطلح الشبكة الكونية، ولأن هذه المادة إما غير مرئية كهرومغناطيسيًا (مادة مظلمة) أو مشتتة جدًا إلى درجة استحالة تصويرها إشعاعيًا، فإن قدرتنا على اختبار النموذج الشبكي للكون محدودة جدًا».

بعبارة أخرى، كيف يتسنى لنا تصور هذا النسيج الكوني الهائل غير المرئي الذي يُعَد بمثابة عماد الكون، مع صعوبة رصد خيوط الغاز والمادة المظلمة التي يتشكل منها هذا النسيج؟ لم يكن تصور ذلك مشكلة للعفن الغروي حتى اليوم.

استلهم الباحث أوسكار إليك من فريق سانتا كروز أفكاره من الفنان الألماني ساجا جينسون، الذي صمم محاكاةً فنية اعتمادًا على سلوك الوحل متعدد الرؤوس في أثناء بحثه عن غذائه، إذ أعاد الباحثون إنشاء النموذج الثنائي لجينسون في صورة ثلاثية الأبعاد مع تعديلات إضافية، وزودوا الخوارزمية بمجموعة بيانات لإحداثيات 37 ألف مجرة في النطاق المعروف بالكون المحلي، ثم أنجز نموذج العفن الغروي عمله، لكن على نطاق كوني هذه المرة، وهو ما أعطانا بناءً افتراضيًا لما قد يكون عليه شكل الشبكة الكونية.

شاهد الفيديو

جاء في الورقة البحثية: «تعمل المجرات بفعالية بوصفها مصادر غذاء لسرب افتراضي من عناصر العفن الغروي، يتحرك على نموذج ثلاثي الأبعاد للكون، حيث تُمثًّل كل مجرة بإحداثيات كونية، ويتحرك السرب باستمرار حتى يصل في النهاية إلى حالة استقرار، وهو ما يشبه شبكة مواصلات من مجرة إلى أخرى».

بالتأكيد لا تُعَد هذه الخريطة ثلاثية الأبعاد التي يولدها النموذج دليلًا مؤكدًا على خريطة المادة المظلمة وخطوط الغاز في الكون، لكنها تقدم أفضل مقاربة مدعومة ببعض الأدلة، ففي حين يستحيل تقريبًا رصد الشبكة الكونية، تُبين مقارنة النقاط في نموذج العفن الغروي مع بيانات تلسكوب هابل التي تصور مواضع الهيدروجين مدى دقة هذه الخوارزمية.

العلماء يستخدمون العفن الغروي لإعادة تشكيل الشبكة الخفية للكون - الغاز والمادة المظلمة المشكلة لنسيج الكون - أغرب صور الحياة على كوكب الأرض - الشبكة الكونية

قال بارشت: «بفضل العفن الغروي، نعرف أماكن خيوط الغاز وأشكالها، لذلك نستطيع البحث عن آثار الغاز في النجوم الزائفة التي تجوب الفضاء، التي يمكن الحصول عليها من بيانات تلسكوب هابل، وحيث نرى خيطًا في نموذجنا، نر أثرًا للغاز في بيانات هابل، وتزداد قوة الأثر أو الإشارة باتجاه منتصف الخيط، حيث تزداد كثافة الغاز».

هل من المدهش أن شيئًا بسيطًا مثل العفن الغروي قد ساعدنا على إيجاد شكل الشبكة الكونية التي حيرت العلماء؟ وفقًا للباحثين فإن الأجابة هي نعم ولا معًا.

قال بارشت: «يُنشئ العفن الغروي شبكة مواصلات فعالة بإيجاد أكثر المسارات كفاءة في الوصول إلى مصادر الغذاء، وكذلك الحال في الشبكة الكونية، إذ ينتج عن تطور بنية النسيج شبكات عالية الكفاءة، ورغم اختلاف العمليات التي تنتج عنها تلك الشبكات، تتشابه الهياكل الرياضية الناتجة».

عمومًا قد تمدنا النتائج بطريقة جديدة لفهم بنية الشبكة الكونية، ويرجع الفضل في ذلك إلى العفن الغروي الذي يذكرنا بالأرض، ويحملنا في ذات الوقت إلى عنان السماء.

قال بارشت: «للمرة الأولى، يمكننا تحديد كثافة الوسط بين المجري، من الحدود البعيدة لخيوط الشبكة الكونية إلى العناقيد الداخلية الساخنة للمجرات. لا تقتصر أهمية هذه النتائج على تأكيد بنية الشبكة الكونية التي توقعتها النماذج، بل تُعَد طريقةً لتطوير فهمنا لنشأة المجرات وتطورها، بربطها بمصادر الغاز التي تتشكل منها تلك المجرات».

اقرأ أيضًا:

ما هو شكل الكون؟

ما هو شكل الكون ؟ و إلى ماذا يتوسع ؟

ترجمة: أحمد جمال

تدقيق: عبد الله كريم

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر