حين كانت الأرض مكانًا لا يصلح للحياة. منذ قرابة 4.5 مليار عام والأرض في طور تكوينها، وُجِد «ثيا» جرم سماوي بحجم المريخ تقريبًا، يتحرك باندفاع شديد في الفضاء، وانتهى به المطاف مُصطدمًا بكوكب حديث النشوء يسمى «كوكب الأرض».

سَبَّبَ الاصطدام الكبير رفع درجة حرارة الأرض إلى آلاف الدرجات المئوية، وانفصال أجزاء كبيرة منها، لتسافر في رحلة مجهولة الوجهة عبر الفضاء.

بعد مُضي نصف مليون عام من ذلك الحدث، أي قبل قرابة 4 مليار عام من وقتنا هذا، كان النظام الشمسي يمر بمرحلة زمنية يطلق عليها «مرحلة القصف الشديد المتأخر»، وهي فترة زمنية امتدت فيما قبل 4.1 وحتى 3.8 مليار عام تكوَّن حينها عدد كبير من الفوهات الصدمية على القمر وعطارد والزهرة والأرض والمريخ نتيجة ارتطام الكويكبات والأجرام السماوية الشاردة بكواكب المجموعة الشمسية الداخلية.

بفعل هذا الوابل من الاصطدامات، حافظت الأرض على درجة حرارة مرتفعة وعلى باطن صخري منصهر.

هل كان القمر جرمًا بلا هدف أم درعًا يحمي مناخ الأرض من الشمس - ارتطام الكويكبات والأجرام السماوية الشاردة بكواكب المجموعة الشمسية الداخلية - القمر والأرض

الشمس في طور الطفولة

الفترة المبكرة من حياة الشمس كانت مرعبةً؛ لأن الشمس أمطرت الفضاء بالتوهجات الشمسية القوية، والكواكب حولها برياح شمسية عنيفة جدًا، وبأعجوبة تمكنت الأرض من الاحتفاظ بما يكفي من غلافها الجوي لتصبح كوكبًا صالحًا للحياة.

لذا يجب علينا شكر «ثيا»؛ لأنه كان سببًا خفيًا وراء تشكل القمر جار الأرض القريب ودرعها الواقي؛ فقد أظهرت دراسة حديثة أن المجال المغناطيسي للقمر عمل بمثابة درعٍ واقٍ للأرض خلال مرحلة التوهج الشمسي العنيف.

يقول مؤلف الدراسة الرئيسي -عالم الفيزياء الفلكية في وكالة ناسا- جون غرين: «يبدو أن القمر ضحّى بنفسه ليكون درعًا حاميًا للأرض في مواجهة هذه الرياح الشمسية العاتية، وهذا الموقف البطولي من القمر ضروري لحماية المناخ الأرضي ليكون جاهزًا لنشوء الحياة عليه فيما بعد».

القمر درعنا الواقي

لقد ساد الاعتقاد أن القمر قطعة من الصخور لا حياة فيها، وجرم صغير الحجم لا يمكنه المحافظة على الحركة الديناميكية اللازمة لخلق مجال مغناطيسي قوي يحميه مما يحدث حوله في الكون.

في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان التنافس على أشدّه بين الدول للهبوط بالبشر على سطح القمر، نجحت بعض هذه الرحلات البشرية في الحصول على صخور من تربته، وعادت بها إلى الأرض لدراستها وتحليلها لفهم طبيعة سطحه.

أظهرت نتائج تحليل هذه الصخور وجود مجال مغناطيسي ضعيف على القمر، ما يفسر وجود مجال مغناطيسي للقمر يشبه مجال الأرض المغناطيسي كثيرًا.

يعد المجال المغناطيسي للأرض دليلًا على وجود الطاقة اللازمة للحركة والدوران، هذه الطاقة تنبع من الحديد المنصهر الكامن في باطن الأرض والذي يحول الطاقة الحركية إلى طاقة مغناطيسية، تخلق مجالًا مغناطيسيًا يغلف الكوكب بأكمله.

تؤكد الأدلة العلمية أن القمر في مراحله الأولى كان دافئًا أيضًا، وذا باطن مليء بالمعادن المنصهرة مثل الحديد وغيره، أوجد الباطن المنصهر هذا مجالًا مغناطيسيًا ظل القمر محتفظًا به قرابة 1 إلى 2.5 مليار عام مضت، حينما بدأ باطنه الحديدي يتجمد.

العلاقة الوطيدة التي ربطت بين الأرض وجارها القريب كانت أقرب مما هي عليه اليوم، فمنذ قرابة 4 مليارات عام كان القمر على بُعد 130 ألف كيلومتر فقط، أي نحو ثلث المسافة الحالية التي تبلغ 400 384 كيلومتر، وكانت الأرض تدور بسرعة لتنهي دورتها حول نفسها كل خمس ساعات فقط، فمع تباطؤ معدل دوران الأرض تباعد القمر باستمرار بمعدل 1.5 بوصة سنويًا.

المحاكاة التي كشفت السر

صمم العالم غرين وفريقه نموذج محاكاة عبر الكمبيوتر للتعرف على كيفية تفاعل المجالات المغناطيسية بين القمر والأرض وتأثيرها على غلافها الجوي.

وجد الفريقُ مجاليهما المغناطيسيين مرتبطين عند أقطابهما الشمالية والجنوبية، تسبّب ترابط المجالين المغناطيسيين في حماية مناخ الأرض من التأثر بالرياح الشمسية ومن ألسنتها القوية الحارقة.

دُهش الفريق حينما استنتجت هذه المحاكاة وجود نوع من التبادل المناخي الذي حدث بين الجرمين السماويين، إذ أُثبت أن للقمر مناخًا خاصًا به نتج عن النشاط البركاني العنيف الذي شهده سطح القمر في مراحل نشوئه المبكرة.

تبادل المناخ والغازات

أصبح لغز وجود النيتروجين في تربة القمر يلمع في أذهان الفريق، لأن اكتشاف النيتروجين في الثرى القمري سبب في حيرة العلماء منذ سنوات لعدم معرفة المصدر الذي جاء منه هذا الغاز إلى القمر.

أشارت المحاكاة إلى أن الأرض والقمر ربما تبادلا غازات غلافيهما الجويين، وهو ما وُضع حلًا مبدئيًا للغز تواجد النيتروجين بهذه الكثافة في تربة القمر.

استنتجت المحاكاة أن المجالين المغناطيسيين للقمر والأرض بقيا مرتبطين قرابة 3.5 مليار عام، وهي فترة أقرب إلى الصحة لتوافقها مع توقيت فقدان القمر لغلافه، وأن ذروة قوة مجاله المغناطيسي كانت منذ 4 مليار عام فقط.

آمال بحثية تنادي برحلات بشرية مستقبلية نحو القمر

يأمل فريق البحث إرسال رحلاتٍ أخرى إلى القمر، واستهدافها قطبي القمر الشمالي والجنوبي؛ لجمع المزيد من العينات من تربة القمر في هذه المناطق الغنية بغاز النيتروجين، فربما يُكتشَف غاز الأكسجين أيضًا في تلك الأماكن التي يساهم بُعد هذه الغازات عن الشمس في الحفاظ على وجودها بعيدًا عن العواصف الشمسية المدمرة لبقاياها في مناطق أخرى.

هذا يعيد تفسيرنا للأسباب الضرورية اللازمة لوجود الحياة على كوكب آخر، فلم تعتمد الأسباب فقط على الطبيعة الصخرية للكوكب، أو على وجوده في مسافة معينة من شمسه، بل تقترح الأبحاث أن وجود عملاق غازي ذي جاذبية قوية أحد الأسباب الرئيسية لوجود الحياة في أي نظام شمسي آخر.

وأوصى ديفيد درابر عالم الفلك بوكالة ناسا بضرورة دراسة تاريخ القمر والوقوف على أسباب فقدانه لمجاله المغناطيسي، لأن هذه الدراسات سوف تسمح لنا بفهم مناخ الكون في تلك الفترة وكيف تطور باطن القمر بمرور الزمن، وهذه قطعة مهمة في أحجية فهم الباطن الصخري للقمر.

اقرأ أيضًا:

كوكب الأرض يتسبب في تغيير معالم سطح القمر

وجد العلماء طريقة لاستخراج المعلومات من حبة واحدة من الغبار القمري

مفاجأة: القمر والأرض ليسا مصنوعين من المواد الخام ذاتها!

ترجمة: هبة الحارس

تدقيق: تسبيح علي

المصدر