بعد أن ضرب الجفاف العراق، انحسرت مياه خزان سد الموصل فظهرت مدينة قديمة مترامية الأطراف عمرها 3400 سنة؛ وقد أجرى التنقيبات في هذه المستوطنة الواقعة على ضفاف نهر دجلة في إقليم كردستان العراق آثاريون أكراد وألمان إبان شهري يناير وفبراير 2022 م. وكان مشروع التنقيب هذا بشراكة مع دائرة الآثار والتراث بمحافظة دهوك (شمالي العراق) للحفاظ على تراث المنطقة الثقافي وإيصاله للأجيال القادمة.

يُعتقد أن الموقع الأثري «كمونا» هو نفسه «زاخيكو»؛ وهي مدينة قديمة ازدهرت إبان العصر البرونزي وكانت مركزًا مهمًا من مراكز الإمبراطورية الميتانية التي ظهرت بين عامي 1550 و1350 ق.م، وامتدت سيطرتها من سواحل البحر المتوسط إلى شمال العراق، حسب قول إيفانا بولجز؛ إحدى مديرات المشروع والأستاذة المساعدة في قسم آثار الشرق الأدنى وعلم الآشوريات في جامعة فرايبورغ في بريسغاو (ألمانيا).

سباق مع الزمن للكشف عن مدينة قديمة

كانت زاخيكو مغمورةً تحت الماء بعد أن أقامت الحكومة العراقية سد الموصل في ثمانينيات القرن الماضي، ولم ترَ ضوء الشمس منذئذ، تقريبًا. لما سمعت بولجز بظهور المدينة مجددًا، أسرع فريقها إلى التنقيب في الموقع الأثري خوفًا من ارتفاع مستوى المياه الذي لا يُعرف له موعد.

تصف بولجز الوضع بقولها: «بسبب ضغط الوقت الهائل، عملنا في درجات حرارة تقترب من درجة التجمد وعملنا تحت الثلوج والبَرَد والمطر وحتى العواصف، إضافةً إلى الأيام المشمسة العرضية، ونحن نجهل موعد ارتفاع مستويات المياه مجددًا وكم من الوقت تبقى لنا». أما الآن، فقد غُمرت المدينة بالماء من جديد، لكن بعد أن استطاع الباحثون فهرسة العديد من الآثار التي وجدوها في الموقع.

لا تظهر مدينة قديمة من تحت المياه كل يوم، لكن زاخيكو ظهرت لفترة وجيزة عام 2018 م فاكتُشف فيها قصر ووثِّق، أما الآن فقد كُشف عن مبانٍ عديدة منها حصن كامل بأبراجه وأسواره، ومخزن مكون من عدة طوابق. وبُنيَت معظم المباني بالطوب المصنوع من الطين المجفف بالشمس، الذي -حسب الباحثين- لا يتحمل الغمر بالمياه عادةً، لكن زلزالًا ضرب زاخيكو نحو 1350 ق.م تسبب في انهيار أقسام من الجدران العلوية لتغطي البنايات.

الحفاظ على ماضي مدينة قديمة

لا يُعرف سوى القليل عن الشعب الميتاني القديم الذي أقام هذه المدينة، لعدم تمكن الباحثين من التعرف على عاصمة الإمبراطورية أو اكتشاف سجلاتها، حسب بولجز. لكن يوجد بعض الأدوات التي اكتُشفت في عمليات التنقيب الأخيرة والتي قد تلقي بعض الضوء على شعب تلك المملكة القديمة.

عثر علماء الآثار على خمس أوانٍ فخارية تحتوي على أكثر من 100 لوح طيني منقوش بالكتابة المسمارية يرجع تاريخها إلى ما بعد وقوع الزلزال بقليل، أي -غالبًا- إلى الحقبة الآشورية الوسطى التي امتدت في الفترة بين 1350 و1100 ق.م، والعثور على ألواح طينية مسمارية في مدينة قديمة قد يلقي بعض الضوء على تاريخ تلك المدينة.

ربما تكشف لنا هذه الألواح الطينية عن سقوط زاخيكو وصعود الآشوريين في المنطقة، حسبما نقلت الأخبار، وقد وصف أستاذ آثار الشرق الأدنى بجامعة توبنغن «بيتر فالزنر»، وهو أحد مدراء البعثة التنقيبية، العثور على الألواح بقوله: «نجاة هذه الألواح المسمارية؛ المصنوعة من طين غير مفخور، بعد غمرها بالمياه لعقود عديدة هو أمر أقرب إلى المعجزة».

لم تُفك شفرة هذه الألواح بعد، لكن بولجز ترى أنها تعود إلى أرشيف خاص، وتضيف قائلةً: «أنا متشوقة لرؤية ما ستكشفه لنا دراسة هذه النصوص المسمارية عن مصير المدينة وسكانها بعد الزلزال المدمر». ويُحتفظ بكل ما عُثر عليه من قطع أثرية، يشمل الألواح، في متحف دهوك الوطني.

قبل أن تختفي المدينة تحت المياه مجددًا، غطى الباحثون الآثار بأغطية بلاستيكية، وقد غطوها بإحكام وثبتوها بالحجارة والحصى، وتأمل بولجز أن يحمي هذا الإجراء الموقع القديم من الحت المائي ويمنعه من الاندثار، إذ لا تظهر مدينة قديمة من تحت المياه كل يوم.

اقرأ أيضًا:

العصر البرونزي: نقطة تحول في التاريخ البشري

بلاد الرافدين أو ميسوبوتاميا: منبع الثقافة والعلوم

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: نور عباس

مراجعة: آية فحماوي

المصدر