إذا نظرنا إلى ميكانيكا الكم على أنها واحدة من أنجح النظريات التي اقترحها الفيزيائيون، فماذا قد تخبرنا عن الواقع؟

غالبًا ما تكون نقطة البداية لأغلب فلاسفة الفيزياء هي ضرورة تقديم ميكانيكا الكم على أنها وصف للكون بطريقة ما، وبمعزل عن مستخدمي هذه النظرية.

أوضحت تلك النظرية إمكانية وجود عدد هائل من وجهات النظر التي قد تكون غير متوافقة مع رؤيتنا الشخصية للكون. فبعض الناس يؤمنون بأن المعنى الضمني لميكانيكا الكم يتجسد بوجود عدد هائل من العوالم المتوازية كما في عالم مارفل كوميكس، وآخرون يؤمنون بإمكانية وجود إشارات تنتقل أسرع من الضوء محطمةً كل قوانين آينشتاين. وهناك أيضًا من يؤمن بتأثير المستقبل في الماضي!

يشير اختصار QBism إلى (Quantum Bayesianism–بايزية الكم)، وهي مقاربة وضعها كريستوفر فوكس وروديجر سكاك. ووفقًا لهذه المقاربة، فإن نقطة الارتكاز الأساسية لميكانيكا الكم تتمثل في عدم صحة نقطة البداية الاعتيادية لأولئك الفلاسفة، فميكانيكا الكم بحد ذاتها لا تصف الواقع كما هو، بل هي أداة تُرشد (الوكلاء-Agents) الضليعين في التفكير بالكون عند قيامهم بإجراءات تخص أجزاءه الخارجية المرتبطة بهم.

يعود سبب استخدام لفظ وكلاء عوضًا عن لفظ (المراقبين-Observers) المتعارف عليه إلى أن ميكانيكا الكم هي أفعال تساهم في خلق الواقع، على عكس المراقبات التي وُجدت بصورة مستقلة عن أي وكيل.

في حقيقة الأمر، تشترك QBism ومرادفاتها في الحركة الفنية (التكعيبية-Cubism) التي تسعى لفهم فكرة أن الوكلاء ليس لهم منظور واحد مشترك. وعلى العكس من الحركة الفنية التكعيبية، فإن QBism لا تحاول تجسيد الواقع أو التوفيق بين وجهات نظر الوكلاء من وجهة نظر شخص ثالث، بل هي أساس رافض لفكرة التجسيد والشخص الأول.

إنقاذ الإرادة الحرة

وضعت الإرادة الحرة QBism في مواجهة مباشرة مع ركيزتي القرن التاسع عشر لمفهوم الكون الميكانيكي. فالأولى هي اعتبار الطبيعة مَقودة بالقوانين الفيزيائية مثل اللعبة الميكانيكية المَقودة بآليتها الميكانيكية، والثانية تمثل مبدأ احتمالية وجود نظرة موضوعية للكون من مشهد خارجي، أي من مرأى نظر الإله أو شخص ثالث.

لا تزال النظرة الميكانيكية تلك تتسلط بقوة على اعتقادات علماء القرن الواحد والعشرين، فمثلًا، ذكر ستيفن هوكينج وليوناردو ملودينو في كتابهما (التصميم العظيم) الصادر عام 2010: «من الصعب تخيل كيف ستبدو الإرادة الحرة لو حُددت سلوكياتنا بقانون فيزيائي، لذلك نحن لسنا أكثر من آلات بيولوجية، في حين تُعد الإرادة الحرة مجرد وهم». وعوضًا عن ذلك، تكون رؤية QBist رؤية للكون غير المنتهي، أو للكون الذي يسمح للإرادة الحرة الحقيقية حيث يكون للوكلاء أهمية وقدرة على البناء والمساهمة في واقعيته.

بناءً على هذا الحديث، تتجسد العشوائية باعتبارها أحد أهم الجوانب الرئيسية لميكانيكا الكم. فبدلًا من تقديم توقعات قوية، تهتم ميكانيكا الكم باحتمالات نتائج القياسات الممكنة. وعلى سبيل المقاربة، هناك عبارة مشهورة للفيزيائي إدوين جاينيس عن الارتباط الشرطي في فهم ميكانيكا الكم بفهم الاحتمالات أولًا.

بهذا الصدد، فإن نقطة بداية QBism تتمثل في مقاربة الشخصانية البايزية للاحتمالات، وهي أساسًا منهجية استدلال إحصائية تتمثل حاليًا باعتبارها نظرية متكاملة لصنع القرار تحت شرط عدم التأكد. وفي هذه المقاربة، تكون الاحتمالات خاضعة لدرجات الاعتقاد الخاصة بكل وكيل. فبدلًا من وصف الإحصاء لتجربة ما، تزود الاحتمالات دليلًا للوكيل بكيفية وجوب تصرفه. أو بتعبير آخر، تكون الاحتمالات هنا غير وصفية وإنما معيارية أي مماثلة لدليل التعليمات. وتبين إمكانية اشتقاق الاحتمالات المعيارية من مبدأ معياري يشترط وجوب اتفاق احتمالات الشخص بطريقة يتجنب بها خسائر مؤكدة لدى توظيفها في صنع القرارات.

تجلت القيمة العظيمة لمقاربة QBism في عدم تمايز الاحتمالات التي ظهرت في نطاق ميكانيكا الكم وعدم خضوعها لقانون فيزيائي -كما هي النظرة المعيارية- ولكنها تعبر عن درجة الاعتقادات الشخصية للوكيل بشأن العواقب المرتقبة لإجراءات القياس التي يفكر فيها.

في حديث مفصل، تكون قوانين ميكانيكا الكم QBism متمثلة في تزويد مبادئ معيارية بشأن كيفية توافق احتمالات الوكيل مع بعضها. فعوضًا عن تزويدها بتوصيف عن الكون، تكون قوانين ميكانيكا الكم امتدادًا لقواعد الاحتمالات القياسية في نظرية القرار الكلاسيكية غير الكمية. فهي تساعد الفيزيائيين على اتخاذ قراراتهم، مثل كيفية تصميم حاسوب كمي يهدف إلى تقليل احتمالية الخطأ، أو نوعية الذرات المستخدمة في الساعات الذرية بهدف زيادة دقة قياسات الوقت.

القياسات هي إجراءات

كما هو الحال لدى المراقب، فقد تُضلل كلمة قياسات؛ بسبب اشتراطها وجود خاصية مُعرفة مسبقًا تُفضح بوساطة القياسات. وبدلًا من ذلك، ينبغي اعتبار القياسات إجراءًا موظفًا لخدمة الوكيل؛ بغية الحصول على ردة فعل من الكون. وتكون القياسات إجراءات لخلق شيء جديد في الكون، ونتاجها مشترك بين الوكيل نفسه وعالمه الخارجي.

تُوسم ميكانيكا الكم بسمات عديدة منها الصعوبة وغرابة الأطوار، وفي كثير من الأحيان، يُنظر إليها على أنها مستحيلة الفهم. وبطبيعة الحال، تكون غرابة أطوارها قابعة وراء النظر إليها بطريقة خاطئة. ولكن عند أخذ الفكرتين الأساسيتين لنظرية ميكانيكا الكم وهما القوانين الكمية دليل إرشاد إجراءات القياسات، والقياسات برمتها لا تكشف الخصائص المعرفة مسبقًا، تتلاشى جميع التناقضات.

لنأخذ قطة شرودنجر مثالًا، يُوصف الحيوان غير المحظوظ بحالة كمية مجتزأة من الواقع، وهذا ما يعني ضمنًا أن القطة ستكون إما حية أو ميتة. ولكن على نقيض هذا الكلام، فإن QBist لا تحتسب الحالة الكمية كجزء من الواقع. فإن الحالة الكمية لوكيل QBist قد لا يترتب عليها فرض أي تأثير على حالتي موت والقطة وحياتها. ويقتضي هذا كله فيما لو أُخذت توقعات الوكيل عواقب الإجراءات المحتملة لحالتي القطة بعين الاعتبار. وعلى عكس معظم تفسيرات ميكانيكا الكم، فإن QBism تراعي الاستقلالية الأساسية للقطة.

وكمثال آخر، لدينا ظاهرة (Quantum Teleportation–الانتقال الآني الكمي). فوفقًا للطريقة المتعارف عليها في هذه العملية، تُوصف حالة الجسيمات الكمية كجزء لا يتجزأ من الواقع، فعند اختفائها في المكان (A)، تعاود بظروف غامضة الظهور في مكان آخر (B)، حرفيًا كما في مسلسل الخيال العلمي حرب النجوم.

أما QBist، فلا شيء حقيقي يُنقل من (A) إلى (B)، في حين يحدث كل هذا في ظاهرة الانتقال الآني الكمي. فبعد حدوثها يصبح اعتقاد الوكيل بشأن الجسيم في المكان (A) مطابقًا لاعتقاده في المكان (B). وهنا مبدأيًا تطابق الحالة الكمية لاعتقاد الوكيل عن الجسيم في المكان (A) رياضيًا الحالة الكمية للجسيم في المكان (B) بعد إجراء العملية. ويُشاد بالانتقال الآني الكمي؛ لاعتباره أداة قوية مستخدمة في عدة مجالات منها الحوسبة الكمية، ولكن في مفهوم QBism، لا يوجد ما هو غير بديهي أو غريب الأطوار بشأنه.

على الرغم من أن QBism مشروعًا قائمًا، فإنه يقدم تفسيرات واضحة لمعاني الأشياء الرياضية في النظرية. وبهذا يُرى بدوره على أنه تفسير مطور ومتكامل لميكانيكا الكم. وعلاوةً على حداثة عهده، فإنه يُعد برنامجًا ناجحًا لخلق فيزياء جديدة تقدم بشكل استباقي رؤى وتفسيرات عميقة لكثير من المفاهيم.

أسفر مفهوم QBism عن حوارات مثمرة مع المدارس الفلسفية القريبة من فكر البراجماتية والظاهراتية الفينومينولوجيا. وتُوصف رؤيتها للكون على اعتباره مكانًا يتمتع فيه الوكلاء بإرادتهم الحرة الكاملة وكذلك استقلاليتهم. وهو ما يُعتقد أنه المبرر وراء محاولات ميكانيكا الكم في نقل معلومات عن الواقع طوال هذه الوقت.

اقرأ أيضًا:

ميكانيكا الكم: هل يمكنن إيجاد أمثلة يومية عنها أم أن رؤيتها لا تتم خارج المختبر؟

هل يمكن تفسير ميكانيكا الكم باستعمال نظريات الوعي البشري؟

ترجمة: علي الذياب

تدقيق: جنى الغضبان

مراجعة: هادية أحمد زكي

المصدر