ما مستوى الدعم العالمي لحرية التعبير؟ وما أبرز التفاوتات الإقليمية والديموغرافية في هذا الدعم؟
كيف تغيّر دعم حرية التعبير بين عامي 2021 و2024؟ وما العوامل التي أثّرت في هذا التغير؟
ما العلاقة بين الديمقراطية والنمو الاقتصادي من جهة، ودعم حرية التعبير من جهة أخرى؟
كيف تؤثر القضايا الحساسة والمنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي في مواقف الناس من حرية التعبير؟
غالبًا ما يُحتفى بحرية التعبير كونها حجر الأساس للمجتمعات الديمقراطية، لكن الدعم الذي يحظى به حقٌ أساسي كهذا ليس موحدًا في جميع أنحاء العالم. في مارس 2025، أصدر مركز «مستقبل حرية التعبير» -مركز أبحاث مستقل مقره جامعة فاندربيلت- تقريرًا شاملًا بعنوان «من يدعم حرية التعبير حول العالم؟»، يُفصّل المواقف العامة تجاه حرية التعبير حول العالم. تستند الدراسة إلى استطلاعات أجرتها يوجوف (YouGov) وشركاؤها الدوليون في أكتوبر 2024، وتبحث الدعم العام لحرية التعبير والآراء العامة تجاه قضايا محددة تتعلق بحرية التعبير، كاشفةً عن أنماط إقليمية مفاجئة، وانقسامات ديموغرافية، وتذبذب متزايد تجاه المنصات الرقمية غير المنظمة والذكاء الاصطناعي.
يجمع التقرير نتائج استطلاعات 33 بلدًا من مناطق مختلفة حول العالم، ويهدف إلى قياس مستوى دعم حرية التعبير لدى الشعوب التي تواجه أصنافًا ومستويات مختلفة من قيود التعبير، والقضايا التي يرى الناس أنه يُفترض السماح بنقاشها أو نقدها بحرية. أُجريت تلك الاستطلاعات في أكتوبر 2024، وتُعد استكمالًا لمجموعة سابقة من الاستطلاعات نُشر تقرير عنها في 2021. يقارن التقرير الحالي أيضًا نتائج الاستطلاعات الحالية بالماضية، ويشمل التقرير نتائج محدثة عن الأسئلة التالية التي تتعلق بحرية التعبير:
- 3 أسئلة عن رفض فرض الرقابة على التعبير الفردي والإعلام والإنترنت.
- 5 أسئلة عن مدى تقبل السماح بأنواع حساسة من التصريحات التي تنتقد الحكومة أو تسيء إلى الدين أو تسيء إلى الأقليات أو تدعم العلاقات المثلية أو تهين العلم الوطني.
- سؤالين عن تفضيل حرية التعبير مقابل الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي.
يشمل التقرير أيضًا نتائج تستند إلى أسئلة استطلاعية جديدة تتعلق باستخدام الذكاء الاصطناعي المولد وتنظيمه.
نظرة عامة:
أعرب غالبية المشاركين في جميع الدول الـ 33 التي شملها الاستطلاع عن دعمها العام لحرية التعبير. في المتوسط، أكد 71% من الناس أنه ينبغي أن يتمتع الأفراد بحرية الكلام دون رقابة. مع ذلك، فإن التباين بين الدول يثير الدهشة، إذ تراوح دعم حرية التعبير من نسب منخفضة بلغت 54% في الأردن وماليزيا إلى نسب مرتفعة بلغت نحو 88% في النرويج. جديرٌ بالذكر أن الدول الخمس الأولى في مؤشر مستقبل حرية التعبير هي النرويج (87.9%) والدنمارك (87.0%) والمجر (85.5%) والسويد (82.6%) وفنزويلا (81.8%). يكشف الترتيب المرتفع للمجر وفنزويلا، وهما دولتان تعانيان تدهور مؤسساتهما الديمقراطية، عن وجود فجوة مذهلة بين الرأي العام والواقع السياسي. على النقيض من ذلك، تقع العديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة -مثل الأردن وماليزيا وباكستان وتركيا- والعديد من دول الجنوب العالمي -مثل نيجيريا وكينيا والهند وجنوب إفريقيا- في الطرف الأدنى من الطيف، مع أن نسب الدعم لا تزال أعلى من 50% في المتوسط.
بالمقارنة مع البيانات التي جُمعت في دراسة مشابهة أُجريت عام 2021، بلغ عدد الدول التي شهدت انخفاضًا في دعم حرية التعبير أكثر من ضعف عدد الدول التي شهدت زيادات (12 دولة مقابل 6). تظهر أشد الانخفاضات في اليابان (-10.6 نقطة)، وإسرائيل (-5.7)، والولايات المتحدة (-3.2). يُعزى تراجع الدعم في اليابان جزئيًا إلى النقاشات الدائرة حول الأمن القومي وتنظيم خطاب الكراهية. أما في إسرائيل، يتداخل هذا التراجع مع تصاعد التوترات الإسرائيلية-الفلسطينية عقب هجوم حماس في أكتوبر 2023. يعكس تراجع الولايات المتحدة تعمق الاستقطاب العاطفي، إذ يتبادل المواطنون من مختلف الأطياف السياسية الاتهامات، بين من يُتهم بـ «اليقظوية» (Wokeism) ومن يُتهم بـ «التعصب» (Bigotry). من ناحية أخرى، تظهر أكبر المكاسب في باكستان (+5.5)، وإندونيسيا (+4.4)، وماليزيا (+3.8)، مع أن مستويات الدعم المطلقة لا تزال منخفضة نسبيًا.
الديمقراطية وحرية التعبير:
كما هو متوقع، تميل الدول ذات المؤسسات الديمقراطية القوية إلى إظهار دعم شعبي أكبر لحرية التعبير. يجد التقرير ارتباطًا إيجابيًا معتدلًا (r ≈ 0.60) بين درجة الديمقراطية في دولة ما -كما يقيسها معهد أبحاث تنويعات الديمقراطية (V-Dem Institute)- ومؤشر حرية التعبير فيها. مع ذلك، تبين استثناءات مثل المجر وفنزويلا أن الطلب الشعبي على حرية التعبير قد يستمر حتى في ظل التراجع الديمقراطي.
بالمثل، يرتبط النمو الاقتصادي ارتباطًا وثيقًا (r ≈ 0.77) بدعم حرية التعبير، فالدول الأكثر ثراءً تبدي قبولًا أكبر تجاه وجهات النظر المتنوعة عمومًا. قد يعكس هذا تحولات ثقافية أوسع نطاقًا نحو القيم التحررية: الاستقلالية والتسامح والتعددية، التي غالبًا ما تصاحب ارتفاع مستويات الدخل والتعليم. مع ذلك، فإن هذه العلاقة معقدة، فالتعرض المتزايد للمعايير التحررية قد يثير أيضًا ردود فعل عكسية، ما يغذي الدعم لسياسات التعبير الصارمة أو القومية.
حين يتجاوز الطلب العام الواقع السياسي:
يُقارن التقرير بين الطلب (الدعم الشعبي) والعرض (الحماية الفعلية). مع أن الارتباط بين هذه القياسات معتدل (r ≈ 0.31)، توجد تفاوتات ملحوظة. إذ تُظهر كل من الهند والمجر وفنزويلا دعمًا شعبيًا قويًا لحرية التعبير، لكن الضمانات المؤسسية ضعيفة. يُعرب المواطنون في هذه الحالات عن رغبتهم في نقاش ونقد مفتوح، غير أن القمع، سواء القانوني أو غير القانوني، ما زال سائدًا. في المقابل، تتمتع الأرجنتين وإسبانيا بدعم شعبي كبير وحماية دستورية قوية لحرية التعبير.
البعد الرقمي: الشكوك تجاه المنصات غير المنظمة والذكاء الاصطناعي
لم يعد بالإمكان فصل حرية التعبير في القرن الحادي والعشرين عن وسائل الإعلام الإلكترونية والتقنيات الناشئة. يستكشف الاستطلاع الجديد للتقرير المواقف الشعبية تجاه الذكاء الاصطناعي المُولِّد، خاصةً تقنيات التزييف العميق وإساءة الاستخدام. يبدي معظم المشاركين ارتيابًا واضحًا تجاه أدوات الذكاء الاصطناعي غير المنظمة، إذ يخشى معظم المُستجيبين أن يُولِّد الذكاء الاصطناعي محتوى مُضلِّلًا أو ضارًا، خاصةً عمليات التزييف العميق ذي الحساسية السياسية. جديرٌ بالذكر وجود دعم شعبي قوي للتنظيم المزدوج، بإشراف كلٍّ من الحكومات وشركات التقنية، لإنتاج محتوى الذكاء الاصطناعي. في حين يتناقض ذلك مع المواقف تجاه منصات التواصل الاجتماعي، إذ يُفضِّل الكثيرون التنظيم الذاتي من قِبَل شركات التقنية ذاتها بدلًا من التوجيهات الحكومية.
تعقيدات التسامح: حين تكون حرية التعبير مثيرة للجدل
مع أن حرية التعبير تحظى بدعم كبير على المستوى النظري، فإن هذا الدعم يتراجع عند تناول قضايا مثيرة للجدل مثل:
- المحتوى المسيء أو البغيض: يؤيد عدد أقل من المشاركين الحق في التعبير عن تصريحات مسيئة للجماعات الدينية أو الأقليات أو الرموز الوطنية.
- المثلية الجنسية: لا تزال معدلات قبول الكلام الداعم لعلاقات مجتمع الميم متباينة، مع أنها ازدادت مقارنةً بعام 2021 في دول مثل الهند ولبنان وجنوب إفريقيا والمكسيك.
- الأمن القومي والاقتصاد: تراجعت الرغبة في مقايضة حرية التعبير بالأمن أو الاستقرار الاقتصادي في العديد من الدول -مثل ماليزيا وتونس وباكستان وكينيا وتايوان- ما يشير إلى مرونة في مواجهة مبررات الرقابة الواسعة على التعبير.
في معظم الدول، ظلت المواقف تجاه هذه الفئات الحساسة مستقرة منذ عام 2021، مع تحولات طفيفة فقط في كلا الاتجاهين.
الانقسامات الديمغرافية: الجنس والعمر ومستوى التعليم
يتباين دعم حرية التعبير أيضًا ضمن البلدان وفقًا للعوامل الآتية:
- الجنس: تُظهر النساء عمومًا تسامحًا أقل تجاه الكلام المسيء للأقليات أو الجماعات الدينية، لكنهن أكثر تقبلًا للتعبيرات المؤيدة للمثلية الجنسية.
- العمر: يميل كبار السن إلى دعم انتقاد سياسات الحكومة، لكنهم أقل تسامحًا مع إهانة الرموز الوطنية أو المخاطر الأمنية المحتملة.
- مستوى التعليم: غالبًا ما يُظهر خريجو الجامعات دعمًا أقوى لحرية التعبير، ما يعكس الصلة بين التعليم العالي والقيم التحررية.
يُسلط التقرير الضوء على الانخفاض الحاد لدعم حرية التعبير في الولايات المتحدة بين الرجال والشبان -بين 18 و29 عامًا- الحاصلين على تعليم جامعي، لا سيما فيما يتعلق بالتسامح مع محتوى مجتمع الميم وحرق الأعلام الوطنية.
استنتاجات وتوابع:
يُسلّط تقرير «من يدعم حرية التعبير حول العالم؟» الضوء على عدة ملاحظات ذات أهمية حيوية:
- تدعم الأغلبية العالمية حرية التعبير: مع وجود تباينات حادة بين الدول والقضايا المعنية.
- تتصدر المجتمعات الديمقراطية والثرية عمومًا دعم حرية التعبير: لكن الطلب الشعبي قد يتخطى أحيانًا الحماية المؤسسية، لا سيما في الدول التي تعاني تدهور الديمقراطية.
- تعقيدات المحتوى الرقمي: يُقدّر المواطنون حرية التعبير تقديرًا راسخًا، لكنهم يلتمسون أيضًا تدابير وقائية لمكافحة التضليل الإعلامي المُوجّه بالذكاء الاصطناعي، ويُفضّلون الرقابة المشتركة.
- أهمية السياق: يحظى الكلام المُسيء للدين أو الأقليات أو الرموز الوطنية بدعم أقل، ما يُشير إلى حساسيات ثقافية وتاريخية راسخة.
- تُسلّط الفروق الديموغرافية الدقيقة الضوء على التجارب والقيم المُتباينة داخل المجتمعات: ما يبرز أهمية تعزيز استراتيجيات التعليم والدفاع الموجه.
يجب على صانعي السياسات الموازنة بين مبدأ حرية التعبير المُعتزّ به والمخاوف المشروعة بشأن الضرر والأمن، بصياغة أطر عمل دقيقة تعكس دعم الأغلبية ومواطن ضعف الأقلية. في الوقت ذاته، يمكن للمدافعين عن حقوق الإنسان والمعلمين الاستفادة من هذه النتائج لتعزيز «روح التسامح» بين الشعوب، مُرددين مقولة ألبرت أينشتاين بأن الحماية القانونية وحدها لا تكفي دون ثقافة انفتاح أوسع.
في نهاية المطاف، يتوقف مستقبل حرية التعبير على سد الفجوات بين تطلعات المواطنين والواقع السياسي، وبين المُثل المُجردة والتحديات الملموسة، وبين الفئات الاجتماعية المُتنوعة. يُقدم هذا التقرير العالمي خارطة طريق لتعزيز حرية التعبير بتسليط الضوء على مواطن قوة دعم حرية التعبير ومواطن ضعفه.