يبدو أن خطة ترامب في فرض رسوم جمركية غير معقولة على شركائه التجاريين حول العالم لم تسر كما كان يأمل، فقد اضطر إلى التراجع عنها لاحقًا. لكن هذا لم يمنع وجود استثناء واحد في هذا التراجع، وبالطبع كان يتعلق بالصين، فقد استمر فرض الرسوم الجمركية ضد الصين فيما يمثل شرارة اندلاع حرب تجارية جديدة أمريكية – صينية.

توجد مهلة تمتد 90 يومًا لدى دول العالم تستطيع فيها فرض رسوم جمركية مضادة للرسوم الأمريكية التي تبلغ 10% التي فُرضت على جميع شركاء أمريكا التجاريين. لكن الأمر ليس مماثلًا للصين التي تعاني ضغوطًا كبيرة، في 9 أبريل 2025 رفع ترامب الرسوم الجمركية على السلع الصينية إلى 125% ليصل إجمالي الرسوم الجمركية الأمريكية على بعض الواردات الصينية إلى 145%.

يزعم ترامب أن «عدم احترام الصين للأسواق العالمية» هو الدافع لاتخاذه تلك الإجراءات، لكن في الحقيقة يشعر ترامب باستفزاز عميق بسبب استعداد الصين لمواجهة الرسوم الأمريكية مباشرةً.

فضلت معظم الدول التعامل مع القضية بحذر نتيجة خوف دفين من قوة الولايات المتحدة وهيمنتها، لكن الأمر كان مختلفًا مع التنين الصيني، إذ ردت بكين بإجراءات مضادة وسريعة، بدءًا من وصف قرار ترامب بأنه «مزحة» وفق تصريح صدر في السابع من أبريل، ثم رفع تعريفاتها الجمركية على الولايات المتحدة بنسبة 125%.

يخوض الاقتصادان الآن حربًا تجارية لا تظهر الصين فيها أي بوادر للتراجع، ولا يتوقع المحللون تراجعها أبدًا، ففي الحرب التجارية الأولى بين البلدين التي دارت خلال فترة رئاسة ترامب الأولى 2017 – 2021 أظهرت الصين رغبةً في التفاوض بغية إنهاء الصراع، أما الآن فقد انقلبت الطاولة وباتت الصين هي صاحبة اليد العليا.

تدرك الصين أنها الآن قادرة على إلحاق الضرر بالولايات المتحدة بالقدر ذاته التي يمكن للأخيرة إلحاقه بها، وتطمح الصين في الوقت نفسه لتطوير مركزها العالمي.

الصين تغير حساباتها:

تمثل الرسوم الجمركية الأمريكية ضربة موجعة للشركات الصينية عمومًا، وتلك التي تنتج سلعًا مخصصة للتصدير، وتحديدًا الشركات التي تنتج الأثاث والملابس والدمى والأجهزة المنزلية المخصصة لتصل إلى المستهلكين الأمريكيين. لكن منذ فرض ترامب زيادة الرسوم الجمركية على الصين للمرة الأولى عام 2018، أدت مجموعة من العوامل الاقتصادية الأساسية إلى تغيير حسابات بكين.

تراجع دور السوق الأمريكي وجهةً رئيسية للصادرات الصينية، في 2018 مع بداية الحرب التجارية الأولى بين البلدين، كانت الصادرات المتجهة إلى الولايات المتحدة 19.8% من إجمالي صادرات الصين، عام 2023 انخفضت هذه النسبة لتصبح 12.8%. قد تدفع الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة الصين إلى تسريع تنفيذها لاستراتيجية «توسيع الطلب المحلي»، ما يُطلق العنان للقدرة الشرائية لمستهلكيها ويعزز اقتصادها المحلي.

في حين دخلت الصين الحرب التجارية عام 2018 وهي في مرحلة نمو اقتصادي قوي، فإن الوضع الحالي ليس مماثلًا. الركود الذي أصاب أسواق العقارات وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج وعمليات «فك الارتباط» في عدة دول ضمن المعسكر الغربي، التي تعني إضعاف الروابط الاقتصادية مع الصين، كلها أسباب أدت بالاقتصاد الصيني إلى حالة من التباطؤ المستمر.

لكن على عكس المتوقع، جعل هذا التباطؤ الاقتصادي طويل الأمد الاقتصاد الصيني أكثر مرونة في مواجهة الصدمات، فقد دفعت هذه الحالة الشركات وصناع السياسات الاقتصادية إلى مراعاة الواقع الاقتصادي القاسي، حتى قبل ظهور تأثير رسوم ترامب الجمركية.

ربما تستغل بكين سياسة التعريفات الجمركية الأمريكية وسيلةً لحشد المشاعر العامة وإلهاء الناس عن التباطؤ الاقتصادي وتحويل أنظارهم إلى التحرش الأمريكي الخارجي، في سياسة كلاسيكية تسمى تصدير الأزمة.

تدرك الصين أن الولايات المتحدة لا تستطيع بسهولة تعويض اعتمادها الكبير الواضح على السلع الصينية، عبر سلاسل التوريد الخاصة بها. رغم انخفاض الواردات الأمريكية المباشرة من الصين لا تزال العديد من السلع المستوردة من دول أخرى تعتمد على مكونات أو مواد خام صينية المنشأ.

في دليل واضح على التفوق الصيني، كانت الولايات المتحدة منذ عام 2022 تعتمد على الصين في 532 فئة رئيسية من المنتجات، أي 4 أضعاف بيانات عام 2000، في حين انخفض اعتماد الصين على المنتجات الأميركية إلى النصف في الفترة ذاتها.

أيضًا تشير تقديرات للرأي العام الداخلي في الولايات المتحدة إلى أنه من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الرسوم الجمركية إلى ارتفاع عام للأسعار، ما سيثير استياء المستهلكين الأمريكيين، خاصةً الناخبين من الفئات العاملة محدودة الدخل. تعتقد بكين أن رسوم ترامب الجمركية تهدد بدفع الاقتصاد الأمريكي القوي سابقًا نحو الركود.

أدوات قوية للانتقام:

إضافةً إلى ما سبق، تحمل الصين في جعبتها عددًا من الأدوات الإستراتيجية للرد على الاستفزازات الأمريكية.

تهيمن الصين على سلسلة التوريد العالمية للمعادن النادرة، التي تُعد حيويةً للصناعات العسكرية والتكنولوجية المتقدمة، وتُعد الصين مصدر 72% من واردات الولايات المتحدة من هذه المعادن وفقًا لبعض التقديرات. في مارس أدرجت الصين 15 كيانًا أمريكيًا على قائمة تقييد الصادرات، تلاها 12 كيانًا آخر في أبريل، كان العديد منها شركات دفاع أمريكية أو شركات تكنولوجية متقدمة تعتمد على هذه المعادن في منتجاتها.

تحتفظ الصين بالقدرة على التأثير في قطاع الصادرات الزراعية الأمريكية الرئيسية، مثل الدواجن وفول الصويا، وهي صناعات تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الطلب الصيني وتتركز في الولايات ذات الميول الجمهورية. تمثل الصين نحو نصف صادرات فول الصويا الأمريكية، وقرابة 10% من صادرات الدواجن الأمريكية. في مارس ألغت بكين موافقات الاستيراد لثلاثة من كبار مُصدّري فول الصويا الأمريكيين.

على صعيد القطاع التكنولوجي ما زالت العديد من الشركات الأمريكية مثل آبل وتيسلا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالصناعة الصينية، وتهدد الرسوم الجمركية بتقليص هوامش أرباحها بدرجة كبيرة وهو أمر تعتقد بكين أنه يمكن استخدامه وسيلةً للضغط على إدارة ترامب، وتشير التقارير إلى أن بكين تخطط بالفعل للرد بواسطة عمليات ضغط منظمة على الشركات الأمريكية العاملة في الصين، فالكثير من الشركات الأمريكية العاملة في قطاع التكنولوجيا توجد مصانعها الأساسية في الصين.

هل تنتهج الصين الانفتاح الإستراتيجي؟

تؤمن الصين أنها قادرة على مقارعة الولايات المتحدة في المبارزة الاقتصادية التي تسمى الحرب التجارية الثانية بين الدولتين. لكن الصين ترى فرصة استراتيجية أبعد، فحملة الرسوم الجمركية الشعواء التي يشنها ترامب على الكثير من شركاء أمريكا التجاريين قد تؤدي على المدى البعيد إلى تأليب حلفاء أمريكا ضدها، ما يصب بالتأكيد في مصلحة الصين.

على صعيد جيرانها الأسيويين، قد يعيد هذا التحول تشكيل المشهد الجيوسياسي لشرق آسيا. بعد أن رفع ترامب الرسوم الجمركية على بكين، عقدت الصين واليابان وكوريا الجنوبية أول حوار اقتصادي لها منذ خمس سنوات، وتعهدت بالمضي قدمًا في اتفاقية تجارة حرة ثلاثية.

كانت هذه الخطوة لافتة للنظر، خصوصًا بالنظر إلى حرص الولايات المتحدة على تعزيز علاقاتها مع حلفائها اليابان وكوريا الجنوبية خلال حكم بايدن، جزءًا من إستراتيجيتها لمواجهة النفوذ الإقليمي الصيني. من وجهة نظر بكين، تتيح تصرفات ترامب التي تزعزع بوضوح علاقة الولايات المتحدة بحلفائها التاريخيين فرصة لتقويض نفوذ الولايات المتحدة مباشرةً، خصوصًا في منطقة المحيطين الهندي والهادي.

على نحو مماثل، فإن الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها ترامب على دول جنوب شرق آسيا، التي كانت أيضًا تمثل أولوية إقليمية وإستراتيجية رئيسية خلال فترة بايدن، قد تدفع هذه الدول إلى التقارب مع الصين إجراءً مضادًا.

في سياق متصل، أعلنت وسائل الإعلام الرسمية الصينية أن الرئيس شي جين بينغ سيجري زيارات رسمية إلى فيتنام وماليزيا وكمبوديا في الفترة المقبلة، بهدف تعميق التعاون مع دول الجوار. الجدير بالذكر أن الدول الثلاث هي الأخرى استُهدفت برسوم جمركية من إدارة ترامب، بنسبة 49% على البضائع الكمبودية و46% على الفيتنامية و24% على الماليزية.

بعيدًا عن البيت الآسيوي، تكمن فرصة إستراتيجية واعدة أكثر، فقد دفعت إستراتيجية ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية الصين ومسؤولي الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في تعزيز علاقاتهم التجارية المتوترة سابقًا، وهو أمر قد يضعف التحالف الأطلسي الذي كان لا يهتم سابقًا بالتقارب مع الصين.

اقرأ أيضًا:

كيف ستؤثر رئاسة ترامب في الأسواق؟

كيف تنشئ بيئة عمل جذابة تحث على الإبداع؟

ترجمة: محمد ياسر الجزماتي

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: ميرڤت الضاهر

المصدر