بناء الأساس لنظرية عامة عن الشبكات العصبونية – عندما نبني ناطحة سحاب، فإننا نبنيها لتؤدي عملها ضمن مواصفات معينة كأن تحتمل وزنًا معينًا وتقاوم الزلازل حتى درجة معينة. ولكننا نبني عمليًا -في إحدى أهم التقنيات الحديثة- بطريقة عمياء. نغير في الإعدادات والأفكار والتصاميم، ولكن في النهاية لا نعرف ما الذي يمكن للنظام فعله وفيما إذا كان سيفشل أو أين سيفشل إلى أن نضعه تحت الاختبار.

هذه التقنية هي الشبكات العصبونية ( شبكة عصبونية )، والتي تعتبر الأساس في معظم تقنيات الذكاء الصناعي المتقدمة. فاليوم، وبشكل متصاعد، يزداد أثر الشبكات العصبونية في المجالات الرئيسية للمجتمع، فهي تحدد ما نراه من خلال نظم الاقتراح في شبكات التواصل الاجتماعي، تساعد الأطباء في تشخيص الأمراض، وحتى تحديد فيما إذا كان مجرم ما سيمضي وقتًا في السجن أم لا.

يقول بوريس هانين، باحث في جامعة أي أند أم في تكساس (Texas A&M University) وعالم في مركز أبحاث فيسبوك للذكاء الاصطناعي: «بالرغم من هذا، فإن أفضل وصف لما نعرفه عن آلية عمل هذه الشبكات أو ماهية النظرية التي سوف نشرحها هو أننا لا نعرف شيئًا». يشبه بوريس هذا بتطور تقنية ثورية أخرى، وهي المحرك البخاري. في البداية، لم تكن المحركات البخارية مفيدةً في أكثر من ضخ الماء. ثم بدأت تُستخدم في القطارات، وهو ما يشبه مستوى التطور التي وصلت له الشبكات العصبونية. بعدها طور العلماء النظرية الثيرموديناميكية، ما أدى لفهم ما كان يحدث بداخل هذه المحركات بشكل كامل. وفي النهاية، أوصلتنا هذه المعرفة إلى القمر.

يقول هانين: «أولًا، كان لدينا مهندسون رائعون وقطارات جيدة، ثم احتجنا لفهم نظري معمق للوصول للمركبات الفضائية».

ضمن مجتمع علم الآلة الواسع، هناك عدد قليل من الباحثين الذين اتخذوا المنحى الرياضي لفهم الشبكات العصبونية والذين يحاولون بناء نظرية لهذه الشبكات تستطيع شرح آلية عملها وضمان أنه إذا صُممت الشبكة بطريقة تصفها النظرية حسب المهمة المرادة فإن هذه الشبكة ستؤدي هذه المهام.

لا يزال هذا العمل في مراحله المبكرة، ولكن في العام الماضي، نشر الباحثون عدة أوراق توضح العلاقة بين الشكل والوظيفة في الشبكات العصبية.
الوصفة لأفضل دماغ:

تحاول الشبكات العصبية محاكاة الدماغ البشري، وإحدى طرق وصف آلية عمل الدماغ هي أنه يعمل عن طريق دمج التجريدات الصغيرة في تجريدات أكبر. ومن هذا المنطلق، يتم قياس مدى تعقيد فكرة ما من خلال عدد الأفكار التجريدية الصغيرة التي تعتمد عليها، وعدد المرات التي يمكنك فيها الدمج بين التجريدات الصغيرة في التجريدات كبيرة.

تقول مايثرا راغو، طالبة دكتوراه في جامعة كورنيل وعضو في غوغل برين: «بالنسبة للإنسان، إذا كنت تتعلم كيف تتعرف على كلب فإنك تتعلم التعرف على صفات أبسط مثل عدد الأرجل، حجم الكلب، ……». تضيف راغو: «نرغب في أن تقوم شبكاتنا العصبية بنفس هذه العمليات».

يحدث التجريد بشكل طبيعي في الدماغ البشري، بينما يجب على الشبكات العصبونية أن تتدرب من أجله. وكما في الدماغ، فإن الشبكات العصبونية تتكون من وحدات بناء تسمى “العصبونات” تكون مرتبطةً بطرق مختلفة. (العصبونات في الشبكة العصبونية مستوحاة من الخلايا العصبية في الدماغ ولكنها لا تقلدها مباشرة). قد يمثل كل عصبون سمةً، أو مجموعةً من السمات، تراها الشبكة.

يصبح لدى المهندسين العديد من الخيارات عند دمج هذه العصبونات معًا، عليهم أن يقرروا عدد طبقات العصبونات التي يجب أن تمتلكها الشبكة (أو مدى “عمق” الشبكة). لتكون لدينا -على سبيل المثال- شبكة عصبونية مهمتها التعرف على الأشياء في الصور. تدخل الصورة النظام في الطبقة الأولى، في الطبقة التالية، قد تحتوي الشبكة على عصبونات تكشف ببساطة الخطوط في الصورة، تجمع الطبقة التالية الخطوط لتحديد الانحناءات في الصورة، ثم تجمع الطبقة التالية الانحناءات لتحديد الأشكال والملمس، والطبقة النهائية تعالج الأشكال والملمس للوصول إلى استنتاج حول ما تبحث عنه.

وعلى المهندسين أيضًا أن يقرروا “عرض” كل طبقة، وهو ما يمثل عدد السمات المختلفة التي تفكر فيها الشبكة في كل مستوى من مستويات التجريد. في حالة التعرف على الصور، سيكون عرض الطبقات هو عدد أنواع الخطوط أو المنحنيات أو الأشكال التي تراها في كل مستوى.
كما أنه بالإضافة إلى عمق وعرض الشبكة، هناك خيارات حول كيفية توصيل العصبونات داخل الطبقات وبين الطبقات، ومقدار التثقيل الذي يجب أن يُمنح لكل اتصال.

إذًا، إذا كانت لديك مهمة ما، كيف تعرف أي شبكة عصبونية ستنجزها بشكلٍ أفضل؟ هناك بعض القواعد العامة؛ بالنسبة للمهام المتعلقة بالصور، يستخدم المهندسون عادةً شبكات عصبونية “تلافيفية”، والتي تتميز بأن نمط التشبيك فيها يتكرر بين الطبقات. يفضل المهندسون الشبكات العصبونية “المتكررة” من أجل معالجة اللغات الطبيعية -مثل التعرف على الكلام أو توليد اللغة- والتي يمكن فيها وصل العصبونات التابعة لطبقات غير متجاورة.

رسم تخطيطي لشبكة عصبونية تلافيفية:

رسم تخطيطي لشبكة عصبونية متكررة:

يتعين على المهندسين الاعتماد بشكل كبير على الأدلة التجريبية فيما عدا تلك المبادئ العامة، إذ يختبرون 1000 شبكة عصبية مختلفة، ويلاحظون ببساطة أي واحدة ستنجز المهمة.

يقول هانين: «غالبًا ما تُتخذ هذه الاختيارات عن طريق التجربة والخطأ في الممارسة؛ هذا صعب لأن هناك العديد من الخيارات بلا حدود ولا أحد يعرف حقًا ما هو الأفضل».

إن نهجًا أفضل من ذلك سيكون بالتقليل من الاعتماد على التجربة والخطأ وزيادة الاعتماد على الفهم لما قد تؤديه هندسة معينة للشبكة العصبونية. وقد نقلت بعض الأوراق البحثية التي نُشرت مؤخرًا المجال في هذا الاتجاه.

يقول رولنيك، رياضي في جامعة بنسلفانيا: «يحاول هذا العمل تطوير مثال لكتاب الطبخ بالنسبة للشبكات العصبونية، إذا علمت ما تريده من الشبكة، ستكون لديك الوصفة لصناعتها».

جاءت إحدى أقدم الاستنتاجات النظرية الهامة حول بنية الشبكة العصبية قبل ثلاثة عقود في عام 1989. عندما أثبت علماء الكمبيوتر أنه إذا كانت للشبكة العصبية طبقة حسابية واحدة فقط -علمًا أنه يمكن أن يكون لهذه الطبقة عددًا غير محدود من العصبونات، مع وجود اتصالات غير محدودة بينهما- ستكون الشبكة قادرةً على القيام بأية مهمة.

تبين فيما بعد أن هذه الحقيقة بديهية إلى حد ما وغير مفيدة؛ إذ يشبه الأمر أن تقول أنه إذا تمكنت من تحديد عدد غير محدود من الخطوط في صورة ما، يمكنك التمييز بين جميع الكائنات باستخدام طبقة واحدة فقط. قد يكون ذلك صحيحًا من حيث المبدأ، لكن الصعوبة هي تطبيقه عمليًا. يصف الباحثون اليوم هذه الشبكات الواسعة المسطحة بأنها “معبرة”، بمعنى أنها قادرة نظريًا على التوصل لمجموعة كبيرة من الترابطات بين مجموعة المدخلات الممكنة كصورة، والمخرجات كوصف الصورة. ومع ذلك، يصعب للغاية تدريب هذه الشبكات، ما يعني أنه من المستحيل تقريبًا تعليمها كيفية إنتاج تلك المخرجات فعليًا. كما أنها متطلبة حاسوبيًا بشكل هائل.

مؤخرًا، حاول الباحثون فهم المدى الذي يمكنهم فيه دفع الشبكات العصبية في الاتجاه الآخر؛ عن طريق جعلها أضيق -مع عدد أقل من الخلايا العصبية في كل طبقة- وأعمق -مع طبقات أكثر بشكل عام. ربما تحتاج فقط إلى التعرف على 100 سطر مختلف، ولكن مع وصلات لتحويل تلك الخطوط المئة إلى 50 منحنى، والتي يمكنك دمجها في 10 أشكال مختلفة، وتمنحك جميع وحدات البناء التي تحتاج إليها للتعرف على معظم الأشياء.

في بحث أُنجز العام الماضي، أثبت رولنيك وماكس تيجمارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أنه من خلال زيادة العمق وتقليل العرض، يمكنك القيام بنفس الوظائف مع عدد أقل من العصبونات، إذ أظهروا أنه إذا كان الوضع الذي تقوم بنمذجته يحتوي على 100 متغير إدخال، فيمكنك الحصول على نفس الموثوقية باستخدام 2100 خلية عصبية في طبقة واحدة، أو 210 خلية عصبية موزعة على طبقتين. ووجدوا أن هناك قوةً في أخذ أجزاء صغيرة ودمجها عند مستويات أعلى من التجريد بدلًا من محاولة التقاط جميع مستويات التجريد دفعة واحدة. وقال رولنيك: «إن فكرة العمق في الشبكة العصبية مشابهة لفكرة أنه يمكنك التعبير عن شيء معقد من خلال القيام بأشياء بسيطة كثيرة بالتسلسل؛ إنها مثل خط التجميع».

أثبت رولنيك وتيجمارك فائدة العمق عن طريق مطالبة الشبكات العصبونية بأداء مهمة بسيطة: ضرب التوابع متعددة الحدود -وهي مجرد معادلات تحتوي على متغيرات مرفوعة إلى الأسس ذات رقم طبيعي- مثل (Y= X^3 + 1). لقد دربوا الشبكات من خلال عرض أمثلة على المعادلات ومنتجاتها، ثم طلبوا من الشبكات حساب منتجات معادلات لم يشاهدوها من قبل. تعلمت الشبكات العصبية العميقة المهمة باستخدام عصبونات أقل بكثير من الشبكات الضحلة.

وقد قام باحثون آخرون بالبحث عن الحد الأدنى للعرض المطلوب. و في نهاية شهر سبتمبر، أثبت جيسي جونسون -وهو عالم رياضيات سابق في جامعة ولاية أوكلاهوما والآن باحث في شركة الأدوية Sanofi- أنه في نقطة معينة، لا يمكن لأي قدر من العمق أن يعوض عن نقص العرض.
لفهم ما توصلنا إليه، تخيل أن لديك خرافًا في حقل، وقد صبغ كل خروف بلون معين؛ مهمة الشبكة العصبونية هي رسم حد حول مجموعة من الخراف حسب لونها، وهو يشبه مهمة التعرف على الأشياء في الصورة.

أثبت جونسون أن الشبكة العصبية ستفشل في هذه المهمة عندما يكون عرض الطبقات أقل من أو يساوي عدد المدخلات. أي بالنسبة لمثالنا، يمكن وصف كل خروف بإدخالين: إحداثي x و y لتحديد موقعه في الحقل، ثم تقوم الشبكة العصبونية بتسمية كل خروف بلون وتضع حدودًا حول الأغنام من نفس اللون. في هذه الحالة، ستحتاج إلى ثلاثة أو أكثر من الخلايا العصبية لكل طبقة لحل المشكلة.

بشكل أكثر تحديدًا، أظهر جونسون أنه إذا كانت نسبة العرض إلى عد المتغيرات غير مناسبة، فلن تتمكن الشبكة العصبية من رسم حلقات مغلقة -نوع الحلقات التي ستحتاج الشبكة إلى رسمها إذًا- على سبيل المثال، تُجمع كل الأغنام الحمراء معًا في منتصف المرعى. وقال جونسون: «إذا لم تكن أية من الطبقات أكثر سمكًا من عدد أبعاد الإدخال، فهناك أشكال معينة لن تتمكن الشبكة أبدًا من إنتاجها، بغض النظر عن عدد الطبقات التي تضيفها».

إن الأبحاث مثل بحث جونسون تبدأ ببناء مبادئ نظرية الشبكات العصبية. في الوقت الحالي، يمكن للباحثين تقديم فرضيات أساسية فقط حول العلاقة بين العمارة والوظيفة، وحجم الفرضيات لا يتناسب مع عدد المهام الهائل التي تتولاها الشبكات العصبية. وعلى الرغم من أن نظرية الشبكات العصبونية لن تغير الطريقة التي تُبنى بها الأنظمة في الوقت القريب، فإن المخططات تُصاغ لنظرية جديدة عن كيفية تعلم أجهزة الكمبيوتر، وهي نظرية سوف تأخذ البشرية في رحلة لها تداعيات أكبر من رحلة إلى القمر.

اقرأ أيضًا
شركة كوالكوم تخطط لصنع رقاقات مخصصة للهواتف الذكية والروبوتات مستوحاة من الدماغ وشبكاته العصبية
الشبكات العصبونية قادرة على تعلم كيفية حماية الاتصالات اسال اليس و بوب و ايف عن ذلك

المصدر

ترجمة مهران يوسف – تدقيق بدر الفراك