كانت مكافحة الحرائق ذات طابع عشوائي طوال قرون، إذ اعتمدت على فِرق يشكلها أفراد المجتمع لاستخدام الدلاء، فكيف تحول الوضع إلى عمل نحو مليون رجل إطفاء اليوم في الولايات المتحدة وحدها موزّعين على أكثر من 29 ألف إدارة إطفاء؟

واصلت فرق الدلاء أداءها البدائي حتى تسارعت وتيرة ازدهار المدن في القرن السابع عشر، سادت حينها الأبنية المشيّدة بمواد سريعة الاشتعال كالقشّ والخشب، وعند اندلاع الحرائق تظهر فرق الدلاء في اصطفاف الأهالي وتناقل الدلاء الممتلئة بالماء من يدٍ إلى يد لإخماد النيران بأسرع ما يمكن.

لكن حريق لندن الكبير في عام 1666 أشعل شرارة التحول ودفع نحو تطوير المضخات، وأدى إلى تأسيس أولى شركات التأمين ضد الحرائق. وزّعت الشركات علامات الحريق على أصحاب العقارات المؤمَّن عليها لتُعلّق على الواجهات، لكن فرق الإطفاء كانت غالبًا ما تترك المباني تحترق حتى تصل الفرقة التابعة لشركة التأمين المعنية.

اتبعت كبرى مدن شرق وشمال شرق الولايات المتحدة نهجًا مشابهًا، حتى بادر بنجامين فرانكلين عام 1736 إلى تنظيم شركة الاتحاد للإطفاء، وهي فرقة تطوّعية في فيلادلفيا هدفت إلى حماية جميع السكان دون تمييز تأميني. وفي عام 1824 أطلقت إدنبرة من اسكتلندا أول فرقة إطفاء بلدية في العالم، وتبعتها مدينة سينسيناتي الأمريكية عام 1853 بإنشاء أول فرقة إطفاء مهنية.

تطوّر المضخات والشاحنات والملابس والتدريب

ابتكر المخترع الإنجليزي ريتشارد نيوشام في عامي 1721 و1725 تصميمًا لمحرك مائي لإطفاء الحرائق، وحصل على براءتي اختراع لهذا الابتكار الذي ضمّ خزانًا يسع 170 جالونًا من الماء.

واستخدمت فرق الإطفاء مضخاته اليدوية المثبّتة على عجلات تُسحب يدويًا، وكانت المعيار الصناعي طوال القرن الثامن عشر.

ولم يظهر أول نموذج لعربة إطفاء تعمل بالبخار إلا في عام 1829، لكنها جاءت بمحركات ثقيلة مهمتها تشغيل المضخات. وفي عام 1832 لجأت شركة موشوال هوك أند لادلر الأولى في إلى شراء حصان لجرّ عربتها، وسرعان ما سارت على خطاها إدارات إطفاء أخرى في البلاد. ورافقت الخيول كلاب دالميشن التي تولّت حمايتها وتنبيهها عند سماع جرس الإنذار.

وبحلول عام 1925، استبدلت إدارات الإطفاء عربات الإطفاء التي تجرها الخيول والمزوّدة بمضخات بخارية بشاحنات تعمل بالبنزين. ومع ارتفاع المباني وتوسّع المدن، جهّزت تلك الشاحنات بسلالم دوّارة تُعرف باسم سلالم هايز (نسبة إلى مخترعها دانيال د. هايز عام 1868).

تنوّعت شاحنات الإطفاء في عصرنا الراهن بأشكالها وأحجامها، وبلغت تكلفة بعضها نحو مليون دولار. وارتدى رجال الإطفاء تجهيزات متطورة تفوق ما توفّر لهم في أي وقت مضى، فاستعانوا بخوذٍ متقدمة (ابتكر جاكوبوس تورك أول نموذج لها عام 1731)، واستخدموا أجهزة تنفّس مستقلة وملابس مقاومة للنيران.

واعتمدت فرق الإنقاذ كاميرات التصوير الحراري في تتبّع مصادر النيران وإنقاذ العالقين. واستعانت السلطات أيضًا بطائرات ومروحيات مخصّصة لإخماد الحرائق، تلقي الماء أو الرغوة على البؤر المشتعلة للسيطرة عليها.

تفاوت الحرائق

شهدت مكافحة الحرائق تحسنًا ملحوظًا، وأصبحت أكثر أمانًا مما كانت عليه في السابق. يؤكد مارتن مولن، قائد كتيبة في إدارة إطفاء لوس أنجلوس، أن انتشار المعدات الحديثة، إلى جانب تغيّرات طرأت على طريقة بناء المنازل، ساعد على تسهيل السيطرة على حرائق المباني. في المقابل، ظهرت تحديات جديدة أمام فرق الإطفاء بسبب المنازل الجديدة، التي تتوسع باستمرار وتُشيّد بكثافة عالية وتُملأ بمواد قابلة للاشتعال كالبلاستيك.

أصدر مجلس بلدية بوسطن عام 1630 قرارًا بمنع بناء المداخن من الخشب أو تغطية المنازل بالقش، ومنذ ذلك الحين، فرضت السلطات طبقات متعاقبة من لوائح السلامة للحد من خطر الحرائق.

لكن كثيرين لم يبدأوا بتطبيق هذه القوانين الكثيرة إلا بعد أن تلقوا دروسًا مؤلمة.

ففي عام 1903، اندلع حريق في مسرح الإيروكواس بمدينة شيكاغو، أودى بحياة أكثر من 600 شخص. وأدى هذا الحريق إلى اعتماد ابتكارات أصبحت لاحقًا معيارًا عالميًا، مثل قضبان الهروب السريع على مخارج الطوارئ، والإضاءة الخاصة بعلامات الخروج.

وفي عام 1937، تسبب تسرّب غاز غير مُكتشف في انفجار مدرسة بمدينة نيو لندن في تكساس، ما دفع السلطات إلى إضافة مركّبات هيدروكربونية ذات رائحة مميزة إلى الغاز الطبيعي عديم الرائحة.

أما في عام 1985، فقد اجتاح حريق هائل مدرجات نادي برادفورد سيتي الإنجليزي لكرة القدم، وشكّل هذا الحدث حافزًا لإحداث تغييرات جذرية في تصميم الملاعب الرياضية داخل المملكة المتحدة، أبرزها حظر استخدام المدرجات الخشبية.

يرى ستيفن باين، أستاذ في جامعة ولاية أريزونا ومؤلف كتاب (الحرائق: تاريخ مختصر)، أن رجل الإطفاء من القرن التاسع عشر يمكنه التأقلم سريعًا مع العمل ضمن فرقة إطفاء حديثة. لكنه يوضح أن طبيعة الحرائق نفسها أخذت تتغيّر في جوانب عدّة.

عرض التاريخ مشاهد مروّعة لمدن كاملة تلتهمها النيران: لندن عام 1666، وشيكاغو عام 1871، وسان فرانسيسكو عام 1906.

ويشير باين إلى أن مزيجًا من أنظمة البناء الحديثة، ولوائح الحماية من الحرائق، والتطور المستمر في المعدات والتقنيات، ساهم في الحد من هذه الكوارث، حتى وقع حريق أوكلاند الهائل عام 1991، معلنًا بداية حقبة جديدة.

شهدت لوس أنجلوس عام 2025 مشاهد شبيهة بما وقع في ماوي عام 2023 وجاسبر في مقاطعة ألبرتا عام 2024. وأوضح باين أن القاسم المشترك بين هذه الكوارث هو اندلاع حرائق غابات قبل أن تلتهم مناطق حضرية امتدت إلى المناطق البرية، ما طمس الخط الفاصل بين المدينة والريف.

أشار باين إلى أهمية هذا التغيّر، إذ يختلف التعامل مع حرائق الغابات عن حرائق المباني. فبينما تهدف الأولى إلى الإخماد الفوري، تتطلب الثانية استراتيجيات أكثر تعقيدًا، تتضمّن أحيانًا إشعال حرائق مدروسة لإزالة المواد القابلة للاشتعال مسبقًا.

وحتى مع فعالية هذه المقاربة، التحضّر المتزايد للمناطق الريفية يجعل تنفيذها أصعب. وقد قلّص تغيّر المناخ عدد الأيام المناسبة لإجراء تلك الحرائق الوقائية، وزاد في الوقت نفسه من حرارة الأجواء وجفافها ما سهّل اندلاع النيران وانتشارها بسرعة أكبر وعلى نطاق أوسع.

لهذا السبب، يرى مولن أننا نواجه اليوم عددًا من الحرائق يفوق أي وقت مضى مع كل التطوير الذي شهدته القوانين وتحسين أساليب الإطفاء في القرون الماضية.

ما تزال النار التي كانت أداة بيد الإنسان وعدوًا له طوال التاريخ كابوسًا مروعًا، وتبقى شجاعة رجال الإطفاء المهنيين خط الدفاع الأول في وجهها.

اقرأ أيضًا:

لم يكن البركان الكارثة الوحيدة التي دمرت بومبي!

الدائرة الضيقة المعقدة لكليوباترا: الأشقاء والخلفاء والعشاق

ترجمة: أميمة الهلو

تدقيق: مؤمن محمد حلمي

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر