هي إحدى أكبر الشركات وأكثرها هيمنة، ظهرت قبل عمالقة التكنولوجيا من مثل آبل وغوغل وأمازون. تأسست شركة الهند الشرقية الإنكليزية بموجب ميثاق ملكي في الحادي والثلاثين من سبتمبر عام 1600 واستمرت بالعمل كشركة تجارة بالتجزئة واستخدمت القوميات العابرة للدول لتجني أرباحاً هائلة من وراء البحار من الهند والصين وبلاد فارس واندونيسيا لأكثر من قرنين.

وفّرت تجارة هذه الشركة لإنكلترا الشاي بسعر معقول والمنسوجات القطنية والتوابل وعادت على المستثمرين الإنكليز بأرباح سخيّة بنسبة ثلاثين بالمئة.

تقول إيملي إيريكسون، أستاذة علم الاجتماع في جامعة ييل وكاتبة: «كانت شركة الهند الشرقيّة في ذروتها أكبر شركة من نوعها إلى حدٍّ بعيدٍ. بين الاحتكار والتجارة الحرة، كانت شركة الهند الشرقية أيضًا أكبر من عدة دول. كانت في الأساس الإمبراطور الفعلي لأجزاء كبيرة من الهند، التي كان اقتصادها أحد أكثر الاقتصادات إنتاجية في العالم في تلك المرحلة».

ولكن عندما ضعفت قبضة شركة الهند الشرقية على التجارة في أواخر القرن الثامن عشر، وجدت لنفسها مهنة جديدة كبانية للإمبراطوريات. ففي مرحلة معينة، قادت هذه الشركة العملاقة جيشًا خاصًا بها مكونًا من 260.000 جندي وهو ما يعادل ضعف حجم الجيش البريطاني آنذاك. كان هذا النوع من القوى البشرية أكثر من كافٍ لإخافة الشركات المنافسة الأخرى، واحتلال المناطق، واجبار الحكام الهنود على عقد صفقات من طرف واحد حققت لهذه الشركة سلطة ضريبيّة مربحة.

من دون شركة الهند الشرقية، لم تكن هناك سيادة للسلطة البريطانية في الهند في القرنين التاسع عشر والعشرين. وقد ساهم النجاح الهائل لأول شركة متعددة الجنسيات في العالم في تشكيل صورة الاقتصاد العالمي الحديث سواء للأفضل أو الأسوأ.

شركة الهند الشرقية - الدور الذي كانت تلعبه شركة الهند الشرقية في توفير الشاي والمنسوجات القطنية والتوابل لإنكلترا - شركة هندية عملاقة

تأسيس شركة الهند الشرقية في عهد الملكة إليزابيث الأولى

في المئة يوم الأخيرة من عام 1600، منحت الملكة إليزابيث الأولى ميثاقًا لمجموعة من تجار لندن تمنحهم فيه حقوقًا لاحتكار تجارة ما وراء البحار مع الهند الشرقيّة وهي مساحة هائلة من العالم تمتد من رأس الرجاء الصالح في أفريقيا إلى رأس هورن في أمريكا الجنوبية. كانت شركة الهند الشرقية الإنكليزية محتكرة؛ بمعنى أنه لم يعد متاحًا لأي من الشركات البريطانية الأخرى التجارة قانونيًّا في هذه المنطقة، ولكنها واجهت منافسة شرسة من الإسبان والبرتغاليين، الذين كانت لديهم مراكز تجارية في الهند، بالإضافة إلى تأسس شركة الهند الشرقية الهولندية عام 1902. كانت إنكلترا مثل باقي دول الغرب الأوروبي نهمة للسلع الشرقيّة الغربية مثل التوابل والمنسوجات والمجوهرات.

لكن الرحلات إلى الهند الشرقية كانت مشاريع محفوفة بالمخاطر مثل الاشتباكات المسلحة مع التجار المنافسين والأمراض المميتة مثل الأسقربوط. كان معدل الوفيات للعاملين في شركة الهند الشرقية مروعًا بلغ 30%. تقول إيريكسون: «كان الاحتكار الممنوح بموجب الميثاق الملكي يحمي التجار في لندن من المنافسة المحلية على الأقل وفي الوقت ذاته يضمن رشوة للتاج الملكي، الذي كان في أمسّ الحاجة إلى الأموال».

لأول مرة، وُضعت العديد من السمات للشركات الحديثة وجرى تعميمها لشركة الهند الشرقيّة، على سبيل المثال، كانت هذه الشركة أكبر شركة مساهمة وأكثرها ديمومةً في عصرها، ما جعلها تنمي رأس المال وتجمعه عبر بيع الأسهم للعامة.

كان لهذه الشركة مديرٌ عام وبالمقابل هيئة رقابية أو «مجلس رقابة».

خلافًا لاجتماعات مجالس إدارة الشركات القوية نسبيًا في أيامنا هذه، كانت اجتماعات شركة الهند الشرقيّة صاخبة يحضرها مئات المساهمين.

بينما منح ميثاق شركة الهند الشرقية احتكارًا ظاهريًا للتجار في الهند، فقد سمح لموظفي الشركة بالمشاركة في تجارتهم الخاصة. في البداية، لم يكن لدى الشركة الكثير من المال لدفع رواتب موظفيها بما يناسب خطورة هذا العمل، لذلك كانت بحاجة إلى تقديم حوافز أخرى. «وكان هذا الحافز هو التجارة من أجل مصلحتهم الخاصة في الخارج» تقول إيريكسون: «تاجر موظفو الشركة ضمن القواعد التي وضعها العقد وخارجها، كانت هناك العديد من الوسائل للمراوغة والغش والتهريب، فكر في المجوهرات الصغيرة والغالية جدًا وفكر بسهولة إخفائها لديك».

تجارة شركة الهند الشرقية وتغذيتها لثقافة المستهلك

قبل شركة الهند الشرقية، كانت معظم الملابس في إنجلترا تُصنع من الصوف وتُصمم من أجل المتانة لا الموضة، لكن ذلك بدأ يتغير مع إغراق الأسواق البريطانية بمنسوجات قطنية غير مكلفة ومنسوجة بشكل جميل من الهند، إذ تنتج كل منطقة من البلاد القماش بألوان ونقشات مختلفة. عندما وصلت النقشات الجديدة، اكتسحت فجأة كل شوارع لندن. «أصبحت هناك إمكانية أن تكون على الموضة التي لم تكن موجودة سابقًا». تقول إيريكسون: «يعتقد العديد من المؤرخين أن هذا كان بداية ثقافة الاستهلاك في إنكلترا. بمجرد جلب السلع القطنية الجديدة، أصبح هناك تبدّل لما كان سائدًا».

مزيجٌ من التجارة والسياسة في الهند

عندما وصلت تجارة الإنكليز والأوربيين الآخرين إلى الهند، كان عليهم كسب ودّ الملوك والحكام المحليين بما في ذلك ملوك المغول الذين امتدّت دولتهم إلى الهند.

مع أن شركة الهند الشرقية كانت من الناحية التقنيّة مشروعًا خاصًا، فقد أعطاها ميثاقها الملكي وموظفوها الجاهزون للمعركة وزنًا سياسيًا. استدعى الحكام الهنود مديري الشركات التجاريّة المحليّة إلى المحاكم، وأرغموهم على دفع رشاوٍ، وجنّدوا قوّة الشركة في الحروب الإقليميّة وأحيانًا ضدّ شركات التجارة الفرنسيّة أو الهولنديّة.

ركزت إمبراطورية المغول قوتها في المناطق الداخلية من الهند، تاركة المدن الساحلية أكثر انفتاحًا على النفوذ الأجنبي. كان أحد أهم أسباب حاجة الشركة الهنديّة الشرقيّة إلى رأس مال كبير مجمع من المساهمين بداية هو الاستيلاء وبناء مراكز تجاريّة محصنّة في مدن الموانئ مثل بومباي ومدراس وكلكتا.

عندما انهارت الإمبراطوريّة المغوليّة في القرن الثامن عشر، اندلعت الحروب في الداخل ما دفع المزيد من التجار الهنود إلى الاتجاه للممالك الصغيرة الساحليّة التي تديرها الشركة.

كانت المشكلة هي كيف لشركة الهند الأوروبيّة أن تحكم هذه المناطق واعتمادّا على أيّ أسس؟ قال تريثينكر روي، أستاذ التاريخ الاقتصادي في كلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب شركة الهند الشرقيّة، أقوى شركة في العالم : «الشركة ليست دولة، شركة تحكم باسم التاج الملكي لا يمكن أن تحكم دون موافقة التاج. أصبحت السيادة مشكلة كبيرة. باسم من ستسن الشركة القوانين؟».

كان الجواب في معظم الحالات لدى مسؤول الفرع المحلي لشركة الهند الشرقيّة. لم يهتم مكتب شركة الهند الشرقيّة في لندن بالسياسة الهنديّة. يقول روي: «طالما كانت التجارة مستمرة كان المجلس راضيًا ولم يتدخّل». ونظراً لقلّة التواصل بين لندن والمكاتب الفرعيّة (تستغرق الرسالة ثلاثة أشهر في كل اتجاه)، تَرك أمر كتابة القوانين للمدن المحكومة من قبل الشركة لمسؤول الفرع مثل مدن بومباي ومدراس وكلكتا. وتًرك للمسؤول أيضًا إنشاء قوات شرطيّة وأنظمة القضاء.

كان ذلك معادلاً للتنقيب عن النفط لشركة إكسون موبيل في ساحل المكسيك، حين جرى الاستيلاء على مدينة مكسيكية كبرى باستخدام حراس مسلحين خاصين، ثم انتخاب مدير للشركة كرئيس للبلدية وقاضٍ وجلاد.

من شركة تجاريّة إلى بناء إمبراطوريّة

كانت نقطة التحول الرئيسية في تحول شركة الهند الشرقية من شركة تجارية مربحة إلى إمبراطورية كاملة هي معركة بلاسي عام 1757. حرّضت المعركة خمسين ألف جندي هندي تحت قيادة النواب البنغاليين ضد ثلاثة آلاف رجل فقط من الشركة. كان النواب غاضبين بسبب التفاف الشركة على الضرائب. لكن ما لم يكن النواب يعرفه هو أن روبرت كليف، القائد العسكري لشركة الهند الشرقية في البنغال، أبرم صفقة سرية مع المصرفيين الهنود فرفض معظم الجيش الهندي القتال في بلاسي.

منح انتصار كلايف شركة الهند الشرقية سلطات ضريبية واسعة في البنغال، التي كانت آنذاك إحدى أغنى المقاطعات في الهند. نهب كلايف كنز النواب وأبحر به عائدًا إلى لندن (احتفظ بالكثير لنفسه بالطبع). يرى إريكسون في تصرفات شركة الهند الشرقية في البنغال تحولًا انقلابيًّا في مهمة الشركة.

يقول إريكسون: «هذا يغير تمامًا نموذج أعمال الشركة من نموذج كان يركز على التجارة المربحة إلى نموذج يركز على تحصيل الضرائب وعندها أصبحت مؤسسةً مدمرةً حقًا، في رأيي».

في 1784 أقرّ البرلمان البريطاني «قانون الهند» لرئيس الوزراء وليم بيت، الذي يُشرك الحكومة البريطانية في حكم الأراضي المسيطر عليها من قبل شركة الهند الشرقيّة.

يقول روي: «عندما بدأ هذا الفعل، توقفت الشركة عن كونها قوّة تجاريّة هامة أو قوة حاكمة في الهند وترسخت الإمبراطورية البريطانيّة بشكلها المناسب».

حرب الأفيون ونهاية شركة الهند الشرقية

لم تنته مآثر شركة الهند الشرقيّة عند الهند، ففي واحدة من أحلك فصولها قامت الشركة بتهريب الأفيون إلى الصين ومقايضته بأثمن بضائع هذا البلد، الشاي.

كانت الصين تقايض الشاي على الفضة فقط وعندما كان صعبًا الحصول عليها في إنكلترا، انتهكت الشركة حظر الأفيون الصيني من خلال السوق السوداء لمزارعي الأفيون الهنود والمهربين. كوّن المستثمرون ثروة هائلة مع تدفق الشاي إلى لندن، ووقع ملايين الرجال الصينيين ضحيّة الأفيون. عندما شنت الصين إجراءات صارمة على تجارة الأفيون، أرسلت الحكومة البريطانية سفنًا حربية، ما أدى إلى اندلاع حرب الأفيون عام 1840.

اشتعلت حرب الأفيون عام 1840 وأدّت الهزيمة الصينية المهينة إلى السيطرة البريطانية على هونج كونج، لكن الصراع ألقى مزيدًا من الضوء على التعاملات السيئة لشركة الهند الشرقية باسم الربح.

مع أن حل شركة الهند الشرقيّة حدث منذ أكثر من قرن، فقد شكّل تأثيرها كشركة رائدة قاسية الطريقة التي تدار بها الشركات الحديثة في الاقتصاد العالمي.

يقول إريكسون: «من الصعب فهم الهيكل السياسي العالمي دون فهم دور هذه الشركة، لا أظن أنه سيكون لدينا نظام اقتصادي رأسمالي عالمي يبدو كما هو عليه الآن لو لم تصبح إنجلترا قوية بشكل فريد في هذه المرحلة من التاريخ. لقد تحولت إلى قوة صناعية حديثة وصدّرت رؤيتها للإنتاج والحكم إلى بقية العالم، بما في ذلك أمريكا الشمالية. كان ذلك حجر الزاوية للنظام السياسي الليبرالي العالمي الحديث».

اقرأ أيضًا:

ما هي السمات الأساسية للرأسمالية؟

شراء الأسهم بدلًا عن السندات: الإيجابيات والسلبيات

ترجمة: وراد الحماده

تدقيق: مازن النفوري

مراجعة: تسنيم المنجد

المصدر