الجزء الثاني: ظاهرة التولد Emergence

نأتي الآن إلى إحدى صفات قوانين الطبيعة الأساسية التي لا يمكن من دونها فهم ظواهر الوجود المعقدة، ألا وهي ظاهرة التولد أو الانبثاق. توجد أمثلة كثيرة على هذه الظاهرة؛ تظهر في جميع المستويات التي من الممكن أن نصف بها الواقع. أوضح الأمثلة عليها علم الكيمياء بصفته علمًا منبثقًا من الفيزياء، والبيولوجيا بصفتها علمًا منبثقًا من قوانين الكيمياء والفيزياء. سأتوسع بعد قليل في هذه الفكرة العامة، وأعرضها على نحو يحوي شيئًا من التفصيل. سأركز هنا بالذات في توجهي لهذه المسألة، لأنها من أكثر الأفكار إثارة للنقاش في العقود الأخيرة. قبل الولوج إلى ذلك، نبدأ بمثالين عن هذه الظاهرة، الأول من عالم الفيزياء والآخر من عالم الأحياء.

تعالوا نفكر في صفة فيزيائية للهواء في غرفة ما؛ الحرارة مثلًا. نعرف ماذا يعني أن تكون الحرارة في الغرفة مرتفعة أو منخفضة. نحس الأمر مباشرةً عند دخولنا إلى الغرفة، ونستطيع أن نقيس هذه الحرارة باستخدام «ميزان حرارة» صُمم تحديدًا لهذه الوظيفة. لهذا تُعد الحرارة قيمة فيزيائية واضحة لنا لأننا نحس تأثيرها فينا مباشرةً. لكن الغاز في الغرفة مكون من ذرات وجزيئات صغيرة جدًا (نيتروجين وأكسجين والقليل من ثاني أكسيد الكربون)، هل يعني هذا أن لكل ذرة من هذه الذرات درجة حرارة معينة؟ بالطبع لا، إذ لا يوجد معنًى فيزيائي لحرارة ذرة واحدة، وذلك لأن الذرة في الفيزياء الكلاسيكية تملك صفات داخلية معينة، ولها كتلة وسرعة، ولا معنًى لمفهوم الحرارة لها. لهذا من الواضح أن مفهوم الحرارة يحمل معنًى فقط عندما نتحدث عن مجموعات كبيرة جدًا من الذرات. إذن، الحرارة هي خاصية منبثقة من قوانين الفيزياء الأساسية التي تحكم المجموعات الكبيرة من الذرات، لكنها تظهر لنا بطريقة مختلفة تمامًا عن تلك القوانين.

في الحقيقة كان هذا أكبر الموضوعات البحثية في فيزياء القرن التاسع عشر، حين اكتشف العلماء العلاقة بين الفيزياء الحرارية، وبين قوانين الفيزياء الأساسية التي تحكم حركة الذرات والجسيمات الصغيرة. لهذا، صفات فيزيائية مثل الحرارة، والضغط، والكثافة، والرطوبة، والمسامية، واللزوجة، والقساوة، وإلى ما ذلك، هي أمثلة واضحة لصفات متولدة أو منبثقة في الفيزياء. ذلك لغياب المعنى لهذه الصفات على المستوى الميكروسكوبي Microscopic Level، أي على مستوى الذرات، التي هي مكونات المادة الأساسية، بل تكتسب هذه المقادير معناها فقط على المستوى الماكروسكوبي Macroscopic Level، أو المستوى العياني، الذي يصف مجموعات كبيرة من الذرات والجزيئات.

يأتي المثال الثاني الذي أود ذكره من عالم الأحياء، ويتعلق بمفهوم الإدراك. نعرف اليوم أن الإدراك ليس حصريًا على البشر، بل توجد الكثير من الكائنات الحية التي تتحلى بما نستطيع أن نسميه إدراكًا. منها الكثير من الثدييات، كالفيلة والقرود والدلافين والحيتان والكلاب والقطط، لكن أيضًا منها الطيور، كالغربان والببغاوات. كذلك -وربما يكون هذا فجائيًا للبعض- توجد كائنات حية بحريّة تمتلك إدراكًا، مثل الأخطبوطات، التي لا يقل إدراكها تطورًا عن الكلاب. هنا أيضًا نستطيع أن نجزم أن الإدراك هو صفة متولدة، لأن الخلايا الحية التي تركّب هذه المخلوقات ليس لها إدراك منفرد، وإنما ينتج إدراكها عن تجمّع معين وخاص لعدد كبير من الخلايا، التي ينتج عنها تنظيم وظيفي وأدائي مركب لدرجة أنه يقفز بالكائن الحي الذي يملكه قفزةً نوعيةً. في الحقيقة، أغلب أنواع الكائنات الحية، سواء أكانت مركبةً أم بسيطةً، مثل النباتات ووحيدات الخلية، لا تملك إدراكًا. إذن، الإدراك هو صفة متولدة، لأنها تنبثق عن اصطفاف وتنظيم وظيفي معين عياني (ماكروسكوبي، أي على أبعاد كبيرة) للخلايا التي تكون أجسام الكائنات الحية التي ذكرتها وأدمغتها، بالذات الخلايا العصبية.

نستطيع أن نلخص أن التولد ظاهرة تحدث على مستوى طبقات الواقع المركبة (مثل الغازات، والكيمياء، والحياة، والإدراك، والعقل، والمجتمعات، إلخ)، التي تملك خصائص وصفات وبُنى جديدة خاصة بها ومختلفة عن خصائص شرائح الواقع الأعمق الذي تنبثق منه. كذلك يصعب عادةً أن نتوقع أو نتنبأ سلفًا بصفات هذه الشرائح المعقدة من الواقع، والقوانين التي تحكمها، من مجرد معرفتنا للمكونات الأساسية التي تسود القوانين الأساسية في الطبيعة والعلاقات بينها. تجدر الإشارة إلى أن طبقات الواقع العميقة كثيرًا ما تكون أبسط من الظواهر المتولدة، مثل بساطة قوانين الفيزياء نسبة إلى تعقيد قوانين علم الأحياء. لكن هذا ليس صحيحًا دائمًا، فمثلًا، قوانين نيوتن للحركة تُعد قوانين متولدة، لكنها أبسط بكثير من قوانين نظرية الكم التي تحكم شريحة الواقع الأعمق.

مقال للبروفيسور د. سليم زاروبي

تدقيق: عون حداد

اقرأ أيضًا:

هل الحياة ناتجة عن الإنتروبيا؟ فكرة غريبة لكنها جذابة

دليل جديد ل النظرية البديلة حول كيفية نشوء الحياة