التعديل الجيني مفتاح لمنع الإصابة بالأمراض الوراثية المُضنية والعلاج منها، يمنح الأمل لملايين الناس حول العالم. إلا أن هذه التكنولوجيا تُمهد الطريق لـ«تصميم» أطفالنا في المستقبل وتعزيز جينومهم وانتقاء السمات المرغوبة كالطول ولون العين ومستوى الذكاء.

استخدم التعديل الجيني في التجارب المخبرية على الخلايا الفردية وفي الدراسات على الحيوانات لعقود من الزمن، أما التقرير الأول عن الأجنة البشرية المعدلة فقد ظهر عام 2015.

يبلغ عدد الدراسات المنشورة حتى الآن ثماني دراسات. بحثت أحدثها في تأثير أحد الجينات على التطور المبكر للجنين وكيفية إصلاح الخلل الوراثي الذي يسبب اضطرابًا دمويًا. إن إمكانية إجراء التعديل الجيني على الأجنة البشرية فتحت «صندوق باندورا» الذي تملؤه القضايا الأخلاقية.

فمن يؤيد التعديل الجيني؟ وهل ينظر علماء الوراثة نظرة مختلفة إلى هذه المسألة؟ وهل يمكن أن تُستخدم تكنولوجيا التعديل الجيني في الطب في وقت قريب؟

ما هو التعديل الجيني ؟

التعديل الجيني هو تعديل تسلسل الحمض النووي في الخلايا الحية؛ ما يعطي إمكانية إضافة الطفرات أو استبدال الجينات في الخلايا أو الكائنات الحية.

ليس هذا المفهوم جديدًا، لكنه تقدم تقدمًا حقيقيًا منذ 5 سنوات، حين عرف العلماء الإمكانيات التي تتيحها تقنية جديدة لتعديل الجينوم البشري تسمى (كريسبر/كاس9 – CRISPR/Cas9).

تتيح هذه التقنية استهداف مواقع محددة من الجينوم بدقة تفوق التقنيات السابقة بشكل واضح، وتسمح باستبدال الجين المعيب بنسخة سليمة؛ ما يجعلها تقنية واعدة للباحثين في علاجات الأمراض الوراثية.

ليست هذه التكنولوجيا مضمونة، فقد جرب العلماء تعديل الجينات عقودًا من الزمن، ووجدوا أن هناك دائمًا حاجة لإجراء المفاضلة بين الخيارات؛ لذلك يجب تطوير تقنية مضمونة بنسبة 100% ولا تؤدي إلى حدوث طفرات غير مرغوبة وخارجة عن السيطرة في مواقع أخرى من الجينوم.

لا تؤدي التأثيرات غير المرغوبة إلى نتائج كارثية في التجارب المخبرية، ولكن حين يتعلق الأمر بالتعديل الجيني على البشر فإن هذا يشكل حجر عثرة رئيسيًا.

وهنا ينطلق النقاش الأخلاقي حول التعديل الجيني.

عند استخدام التعديل الجيني على الأجنة أو على الحيوانات المنوية أو البيضة التي تحمل طفرات معيبة في فترة أبكر، يُطلق عليه التعديل الجيني للخط البذري. القضية الكبيرة هنا هي تأثيره على الفرد الذي يتلقى العلاج وذريته في المستقبل.

هذا يعني أننا قد نكون قادرين على تغيير التركيبة الجينية للأجيال اللاحقة بأكملها بشكل دائم.

أخلاقيات التعديل الجيني التطور المبكر للجنين إصلاح الخلل الوراثي التعديل الجيني مفتاح لمنع الإصابة بالأمراض الوراثية المُضنية والعلاج منها

من يؤيد التعديل الجيني؟

أجرى أستاذ الاتصال العلمي ديترام شيوفيل Dietram Scheufele في جامعة ويسكونسن ماديسون وزملاؤه مسحًا على 1600 فردٍ من العامة لاستبيان مواقفهم حول التعديل الجيني. كشفت النتائج أن 65% منهم يعتقدون أن التعديل الجيني للخط البذري لأغراض علاجية أمر مقبول.

أما فيما يتعلق بالتحسين قال 26% فقط إن ذلك مقبول، وبيّن 51% أن هذا غير مقبول. ومن المثير للاهتمام ارتباط المواقف بالمعتقدات الدينية ومستوى دراية الشخص بالتعديل الجيني.

يوضح البروفيسور شوفيلي قائلًا: «بين أولئك الذين يصرحون عن تدني قوة التوجه الديني، تعبر غالبية كبيرة (75%) عن بعض الدعم للتطبيقات العلاجية على الأقل، وتعبر نسبة كبيرة (45%) عن بعض الدعم لتطبيقات التحسين».

ويضيف: «على النقيض، الذين يبلغون عن مستوى مرتفع نسبيًا من التوجه الديني في حياتهم اليومية، يدعمون التعديل الجيني بشكل أقل 50% يبدون الدعم للتطبيقات العلاجية، و28% يدعمون التحسين».

أما بين الأفراد الذين لديهم مستويات عالية من الفهم التقني لعملية التعديل الجيني، فقد أظهر 76% على الأقل بعض الدعم للتعديل الجيني العلاجي، ودعم 41% التعديل الجيني بغرض التحسين.

ولكن هل تتوافق آراء العامة مع آراء العاملين في مجال الوراثة؟
قامت أليسا أرمسبي Alyssa Armsby وأستاذة علم الوراثة كيلي إ.أورموند Kelly E. Ormond -وكلاهما من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا- باستطلاع رأي 500 عضو من عشر جمعيات وراثية حول العالم لاكتشاف ذلك.

ما رأي أصحاب المهنة؟

تقول أرمسبي: «هناك حاجة لإجراء محادثة دولية متواصلة حول تعديل الجينوم، إذ يتوفر القليل جدًا من البيانات حول كيفية رؤية الأشخاص المدربين على علم الوراثة لهذه التكنولوجيا، فهم الأشخاص الذين يقومون بالبحث والعمل مع المرضى والأسر، وهم مجموعة هامة من أصحاب المهنة».

في المجموع كان 31.9% من المجيبين على الاستطلاع مؤيدًا للبحوث في التعديل الجيني للخط البذري باستخدام الأجنة القابلة للحياة. كان هذا التوجه أكثر وضوحًا عند المجيبين الذين تقل أعمارهم عن 40 عامًا، وأولئك الذين تقل خبرتهم المهنية عن 10 أعوام، والذين وصفوا أنفسهم بأنهم أقل تدينًا.

وكشفت نتائج الاستطلاع أن 77.8% من المجيبين يدعمون الاستخدام الافتراضي للتعديل الجيني للخط البذري لأغراض علاجية للمشاكل التي تنشأ في الطفولة أو المراهقة، أيّد 73.5% استخدام هذه التكنولوجيا في هذه الحالة، وأيّد 78.2% التعديل للخط البذري في الحالات التي يكون فيها المرض قاتلًا في الطفولة.

أما فيما يتعلق بموضوع استخدام التعديل الجيني لغرض التحسين فقد أيّد 8.6% فقط من المتخصصين في علم الوراثة هذا الأمر.

قالت الأستاذة أورموند: «لقد كنت مندهشةً للغاية شخصيًا لأن قرابة ثلث المشاركين في الاستطلاع مهتمون ببدء البحث السريري حول تعديل الجينوم للخط البذري (إجراء البحث ومحاولة الحمل دون المضي قدمًا وولادة طفل حي)».

وأضافت أن هذا الاستنتاج يتناقض بشكل صارخ مع بيان السياسة الذي نشرته الجمعية الأمريكية للوراثة البشرية في وقت سابق من هذا العام.

تحث المنظمات المتخصصة على الحذر وفقًا للبيان، فالتعديل الجيني للخط البذري يطرح قائمة بالقضايا الأخلاقية التي يجب أخذها في الاعتبار.

تشكل إمكانية إدخال طفرات غير مرغوبة أو تلف الحمض النووي خطرًا محتملًا واضحًا، ولا يمكن التنبؤ بالآثار الجانبية غير المرغوبة أو التحكم بها في الوقت الحالي.

يشرح المؤلفون أيضًا: «يشير مصطلح تحسين النسل إلى انتقاء الصفات الإيجابية (تحسين النسل الإيجابي) وإزالة الأمراض أو السمات التي يُنظر إليها بشكل سلبي (تحسين النسل السلبي). إن تحسين النسل في كلا الشكلين أمر مقلق لإمكانية استخدامه لتعزيز التحيز وتضييق تعريفات الحياة الطبيعية في مجتمعاتنا».

ويضيفون: «يكون هذا صحيحًا بشكل خاص عندما تتوفر القدرة على إجراء التحسين الذي يتجاوز علاج الاضطرابات الطبية».

تسمح اختبارات قبل الولادة للآباء بإجهاض الأجنة التي تحمل سمات مرضية معينة في الكثير من الأماكن حول العالم، لكن التعديل الجيني يمكن أن يخلق التوقعات أن على الوالدين اختيار أفضل السمات لأطفالهم.

يأخذ المؤلفون الأمر أبعد من ذلك، ويتكهنون بتأثير ذلك على المجتمع ككل. «عدم المساواة في إمكانية الحصول على العلاج والاختلافات الثقافية التي تؤثر على التقبل. يمكن لهذه العوامل أن تخلق اختلافات كبيرة في نسب الإصابة بحالات معينة حسب المنطقة أو المجموعة العرقية أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي».

وحذروا من أن «المرض الوراثي الذي كان قاسمًا عالميًا مشتركًا يمكن أن يصبح بدلًا من ذلك شيئًا أثريًا متعلقًا بالطبقة والموقع الجغرافي والثقافة».

وخلُص بيان الجمعية الأمريكية للوراثة البشرية إلى أنه في الوقت الحالي من غير الأخلاقي إجراء التعديل الجيني للخط البذري الذي من شأنه أن يصل إلى ولادة فرد. لكن البحث في سلامة وفعالية تقنيات التعديل الجيني، وكذلك آثار التعديل الجيني يجب أن يستمر، مع التزام هذه الأبحاث بالقوانين والسياسات المحلية.

في أوروبا تكرر هذا من قبل لجنة من الخبراء الذين يحثون على تشكيل لجنة توجيهية أوروبية «لتقييم الفوائد والعيوب المحتملة لتعديل الجينوم».

وأكدوا على ضرورة «أن يكونوا سباقين لمنع اختطاف هذه التكنولوجيا من قبل أصحاب الآراء المتطرفة وتجنب التوقعات العامة المُضلّلة والوعود الفضفاضة».

هل يختلف تصور العامة عن تصور الباحثين في الخط الأمامي للبحث العلمي؟

العمل معًا لحماية المستقبل

تقول الأستاذة أورموند: «كثيرًا من الأمور متشابهة. ترى كلتا المجموعتين أن بعض أشكال التعديل الجيني مقبولة، وتختلفان على بعض الحالات الطبية والعلاجات التي ستكون مُحسنة، وكذلك بناء على الشدة الطبية».

وتتابع: «أعتقد أن هناك بعض الثغرات، لكن من الواضح أن مستوى التدين والمستوى المعرفي تؤثر على آراء العامة. نحن بحاجة إلى تثقيف المهنيين والعامة على حد سواء ليكون لديهم معرفة واقعية بما يمكن للتعديل الجيني القيام به وما لا يمكنه فعله. من الصعب قياس المواقف حين لا يفهم الناس التكنولوجيا».

قد تُقربنا التقنيات الجديدة مثل كريسبر/كاس9 إلى إمكانية إجراء التعديل الجيني خطوة واحدة، لكن الكثير من الأمراض والسمات تسببها التفاعلات الوراثية المعقدة. السمة التي تبدو بسيطة كلون العين تحكمها مجموعة من الجينات المختلفة.

يجب أن يعمل المهنيون العلميون والطبيون جنبًا إلى جنب مع العامة لتحديد الدور الذي ستلعبه عملية التعديل الجيني في مستقبلنا.

«في نهاية المطاف، ستقدم هذه المناقشات والانخراط الأطر اللازمة لتمكين الاستخدام الأخلاقي لهذه التكنولوجيا وحظر الاستخدامات غير الأخلاقية».

اقرأ أيضًا:

ما هي أخلاقيات التعديل الجيني للأطفال ؟

عالم من جامعة كاليفورنيا يشرح لماذا يعدّ التعديل الجيني على الأجنة أمرًا صادمًا أكثر مما نتخيل!

ترجمة: سارة الدنيا

تدقيق: الياس عباس

مراجعة: صهيب الأغبري

المصدر