تقنية كريسبر هي آلية بسيطة لكنها فعّالة للتعديل الجيني، تُمكّن الباحثين من تعديل سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين بسهولة وتغيير عمل المورثات. وتضم تطبيقاتها العديدة تصحيح العيوب الوراثية وعلاج الأمراض والوقاية من انتشارها وتحسين الإنتاج. لكن ترافقها اعتبارات ومحاذير أخلاقية.

حسب المصطلح الشائع، كريسبر (CRISPER) هو اختصار لكريسبر كاس9 (CRISPER- Cas9). وكريسبر هو شريط محدد من الحمض النووي. والبروتين كاس9 المرتبط بكريسبر هو إنزيم يعمل مثل زوج من المقصات الجزيئية قادر على اقتطاع شرائط الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين.

أُخِذَت تقنية كريسبر من آليات الدفاع الطبيعية للجراثيم وبدائيات الخلية. تستخدم هذه العضيات الحمض النووي الريبي المشتق بآلية كريسبر وبروتينات كاس -ومنها كاس9- لتعطيل هجمات الفيروسات والأجسام الأجنبية الأخرى، وذلك بقطع الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين المعتدي. وبنقل هذه العناصر إلى عضيات أخرى أعقد فإنها تسهّل التلاعب بالجينات أو تعديلها.

حتى عام 2017 لم يعرف أحد ماهية هذه العملية، ففي ورقة بحثية نشرت سنة 2017 بمجلة (Nature Communication) أوضح فريق من الباحثين بقيادة ميكيرو شيباتا من جامعة كانازاوا وهيروشي نيشيماتو من جامعة طوكيو آلية عمل تقنية كريسبر للمرة الأولى.

كريسبر- كاس9: العوامل الرئيسية:

المعقدات متتالية المسافات المنتظمة بين المتسلسلات القصيرة، اختصارًا «كريسبر»، هي منطقة محددة من سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين، لها سمتان بارزتان: وجود متتاليات النيكليوتيد، والمسافات القصيرة.

تتوزع تسلسلات النيكليوتيد المتكررة -وحدات بناء الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين- على منطقة كريسبر. والمسافات القصيرة هي قطع من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين موزعة على هذه التسلسلات المتكررة. تؤخَذ هذه الفواصل عند الجراثيم من فيروسات هاجمت العضية سابقًا، فتؤدي دور بنك للذكريات، تمكّن الجرثومة من التعرف على الفيروس وصد الهجمات المستقبلية.

أثبت ذلك تجريبيًا للمرة الأولى رودولف برانغو وفريق من الباحثين في دانيسكو. وفي بحث نُشِر في مجلة (Science) استخدم الباحثون جرثومة العقدية أليفة الحرارة التي توجد عادةً في اللبن ومشتقاته، ولاحظوا أن بعد هجمة الفيروس انضمت فواصل جديدة إلى منطقة كريسبر. وكانت سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين في هذه الفواصل مطابقة لأجزاء من مُجين الفيروس. تلاعبوا أيضًا بالفواصل بحذفها أو إدخال متواليات فيروسية جديدة من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين. وهكذا استطاعوا تطوير بكتيريا مقاومة لهجوم فيروس محدد. وأكد الباحثون أن آلية كريسبر تؤدي دورًا في تنظيم مناعة الجرثوم.

كريسبر الحمض النووي الريبي (crRNA):

حين يُضاف فاصل ويهاجم الفيروس، يُنسخ بروتين من كريسبر ويُبرمَج إلى كريسبر الحمض النووي الريبي.

تعمل سلسلة النيكليوتيد في كريسبر صفيحةً لإنتاج سلسلة متممة لشريط الحمض النووي الريبي الوحيد. ويشتمل كل كريسبر على متتالية نيكليوتيدية ومجموعة من الفواصل. وذلك وفقًا لمقال جينيفر دودنا وإيمانويل كاربنتر عام 2014 في مجلة (Science).

كاس9:

بروتين كاس9 هو إنزيم يشطر الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين للعضيات الغريبة. ويرتبط نموذجيًا مع جزيئين من الحمض النووي الريبي: كريسبر الحمض النووي الريبي، وما وراء تنشيط كريسبر الحمض النووي الريبي (tracrRNA). يقود الجزيئان كاس9 إلى موقع الهدف حيث سيقوم بالشطر. هذا التوسع في الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين يتمم شريط كريسبر الحمض النووي الريبي المكون من 20 نيكليوتيدة. يشطر كاس9 شريط الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين بمساعدة موقعين منفصلين في بنيته، صانعًا بذلك ما يُسمى الفرجة ثنائية الطاق.

يكفل صمام أمان دقة عمل كاس9 فلا يشطر عشوائيًا في المُجين. تؤدي سلاسل الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين القصيرة التي تُعرَف بعناصر الالتصاق الجزيئي (PAMs) دور لصاقات على سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين المستهدفة. فإذا لم يتعرف معقد كاس9 على معقد عناصر الالتصاق الجزيئي على سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين المستهدفة فإنه لن يشطرها. ولهذا لا يهاجم كاس9 موقع كريسبر في البكتيريا، وفقًا لدراسة نُشرت عام 2014 في مجلة (Nature Biotechnology).

كريسبر-كاس9 وسيلةً للتعديل الجيني:

يرمّز مُجين العديد من العضيات سلسلة من الرسائل والأوامر في سلسلتها من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين. ويشتمل تعديل المجين على تغيير السلاسل ومن ثم تغيير الرسائل، وذلك بشطر الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين أو قطعه، ما يخدع آليات الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين بالخلية الطبيعية.

نُشرت عام 2012 ورقتان بحثيتان رئيسيتان في مجلتي (Science) و(PNAS) ساعدتا على تحويل كريسبر كاس9 الجرثومي إلى أداة تعديل جيني بسيطة قابلة للبرمجة.

تولت مجموعات منفصلة الدراسات، واستنتجت إمكانية توجيه كاس9 إلى شطر أي منطقة من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين. وهذا قد يحدث ببساطة بتغيير سلسلة كريسبر الحمض النووي الريبي، التي تندمج بالهدف من سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين المتممة.

وفقًا لمقابلة نُشرت بمجلة العلوم عام 2012، بسّط مارتن جينيك وزملاؤه التقنية بدمج كريسبر الحمض النووي الريبي وما وراء تنشيط كريسبر الحمض النووي الريبي، لتصنيع حمض نووي ريبي مرجعي. وهكذا يحتاج التعديل الجيني إلى عنصرين فقط: الحمض النووي الريبي المرجعي وبروتين كاس9.

قال جورج تشيرش أستاذ علم الوراثة في كلية الطب بجامعة هارفارد: «عمليًّا، نصمم شريطًا من 20 أسًا زوجيًا نيكليوتيديًا مطابقًا لجين يُرغب بتعديله». وأكد تشيرش أهمية وجود سلسلة وحيدة في الجين المستهدف، لا في أي مكان أخر من المجين، وأضاف: «يشطر معقد الحمض النووي الريبي وبروتين كاس9 -مثل زوج من المقصات- سلسلة الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين في الموقع المحدد، لا في أي موقع آخر».

حين يُشطَر الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين، تبدأ الآليات الطبيعية لإصلاح الخلية بالعمل، لاستحداث طفرات أو تغييرات أخرى في المجين. ويحدث ذلك بطريقتين، تشمل إحدى آليات الإصلاح لصق نهايتي الشطر معًا مجددًا، وتميل هذه الآلية التي تُعرَف بربط النهايات غير المتجانس (NHEJ) لارتكاب أخطاء، فقد تُضاف نيكليوتيدات أو تُزال بالخطأ ما يؤدي إلى طفرات تخلّ بالمورثة. أما الآلية الثانية فتصلح الفجوة بملئها بسلسلة من النيكليوتيدات، ولذلك على الخلية استخدام شريط قصير من الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين صفيحةً يمكن تجهيزها حسب الحاجة.

فوائد التقنية ومساوئها:

اشتهرت تقنية كريسبر كاس9 في السنوات الأخيرة. يشير تشيرش إلى أن الآلية سهلة التطبيق وأكثر فعالية من أفضل الوسائل السابقة للتعديل الجيني التي تُسمى (TALENS).

أكدت الدراسات على الأمراض البشرية في المختبر وعلى الحيوانات، أن آلية كريسبر فعّالة في تصحيح العيوب الجينية، مثل أمراض التليف الكيسي والساد وفقر دم فانموني، وذلك وفقًا لمراجعة نشرت سنة 2016 في (Nature Biotechnology). ومهّدت هذه الدراسات الطريق أمام التطبيقات العلاجية للآلية على البشر.

يقول نيفل سانجانا من مركز الأمراض الوراثية في نيويورك: «ركزت وجهة النظر العامة لكريسبر على فكرة استخدام التعديل الجيني سريريًا لشفاء الأمراض».

طُبقت تقنية كريسبر في الصناعات الغذائية والزراعية لإنتاج محاصيل حيوية وتحصين المنتجات -مثل اللبن- ضد الفيروسات. استُخدِمت أيضًا على المحاصيل لتحسين الإنتاج وتحمّل القحط.

من التطبيقات المحتملة الأخرى إحداث محرضات جينية، وهي أنظمة جينية تزيد من فرص انتقال سمة محددة من أحد الوالدين إلى الذرية، ثم تنتشر السمة إلى الأجيال التالية. تساعد محرضات الجينات على التحكم في انتشار الأمراض مثل الملاريا، وذلك بزيادة العقم بين الناقلين الحيويين، أنثى بعوضة الأنوفيليس في هذه الحالة.

وفقًا لمقال نُشِر في مجلة (Nature Biotechnology) سنة 2016، تُستخدم محرضات الجين أيضًا لاجتثاث الفصائل الغازية والحد من المبيدات الحشرية ومبيدات الأعشاب، وذلك وفقًا لمقال كتبه كينيث أوي وزملاؤه عام 2014 في مجلة (Science).

لكن لتقنية كريسبر كاس9 بعض العيوب. قال تشيرش: «العائق الأكبر أمام تقنية كريسبر هو عدم فاعليتها بنسبة 100%». إضافةً إلى تفاوت فعالية التعديل الجيني، وفقًا لمقالة دودنا وكاربنتر في مجلة (Science) حول دراسة أجريَت على الأرز، حدث التعديل الجيني في 50% من الخلايا التي تلقت معقد الحمض النووي الريبي-كاس9، في حين أظهر التحليل أن فاعلية التعديل -اعتمادًا على الهدف- قد تتجاوز 80%.

أشار تشيرش إلى أنه حتى لو حدث الشطر في موقع الهدف، فيوجد احتمال عدم التوصل إلى تعديل دقيق، أو ما يُسمى «تخريب المُجين».

قيود التقنية:

تثير التطبيقات المتعددة لكريسبر أسئلة حول التبعات الأخلاقية وعواقب التلاعب بالمورثات. يشير أوي وزملاؤه في مقالهم إلى الأثر البيئي المحتمل لاستخدام محرضات الجينات، فقد تنتشر الخاصية المنقولة أبعد من العينة المستهدفة إلى عضيات أخرى بواسطة التهجين. وتقلل محرضات الجينات من التنوع الوراثي للعينة المستهدفة.

تُعرَف التعديلات الوراثية على الجنين البشري والخلايا الجنسية مثل النطاف والبيوض بالتعديل الانتاشي (Germline Editing).

ولما كانت تغيرات هذه الخلايا قد تنتقل إلى أجيال لاحقة، فإن آثار استخدام تقنية كريسبر لها العديد من الاعتبارات الأخلاقية.

الفاعلية المتغيرة والآثار الجانبية للهدف والتعديل غير الدقيق كلها تطرح تساؤلات حول مدى أمان تقنية كريسبر. إضافةً إلى أن المجتمع العلمي ما زال يجهل عنها الكثير.

يرفع التعديل الانتاشي احتمالية العواقب غير المرغوبة في الأجيال اللاحقة. فهل علينا إجراء تعديلات قد تؤثر أساسًا في الأجيال المستقبلية دون موافقتهم؟ وماذا لو انحرف التعديل الانتاشي عن استخدامه العلاجي إلى وسيلة تحسينية للصفات البشرية؟

اقرأ أيضًا:

أخلاقيات التعديل الجيني

التعديل الجيني على الفئران بينما لا تزال في الرحم

ترجمة: سِوار قوجه

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر