أثارت أزمة البنوك في الولايات المتحدة مخاوف عن النظام البنكي العالمي في وقت سابق من هذه السنة، إذ انهارت ثلاثة بنوك متوسطة الحجم في الولايات المتحدة الواحد تلو الآخر، وهي بنك سيليكون فالي، وسيلفرغيت، وسيغناتشر، ما نتج عنه انخفاض أسعار أسهم البنوك حول العالم.

مكّن الاحتياطي الفيدرالي –البنك الأمريكي المركزي- هذه البنوك المفلسة من كميات هائلة من النقد وأحدث تسهيلات في الإقراض لمؤسسات أخرى تواجه صعوبات. هدأت هذه الإجراءات من روع المستثمرين وحالت دون انتشار الذعر، إذ انهار بنك أمريكي واحد فقط بعد أسابيع قليلة، وهو بنك «فيرست ريببليك».

لكن من غير الواضح هل انتهت الأزمة فعلًا أم لا؟ إذ يعود المتداولون من عطلتهم الصيفية في فترة ترتبط غالبًا باضطرابات في السوق، فكيف يُرجح أن تتطور الأمور؟

هوامش ربح قليلة وودائع تتضاءل:

واصلت البنوك المركزية رفع نسب الفائدة لمقاومة التضخم المستمر في الأشهر الأخيرة. خلال يوليو، رفع البنك المركزي نسبة الفائدة الرئيسية لتصل إلى 0.5%، وهي الأعلى في السنوات العشرين الماضية. وقد كانت النسبة تقارب الصفر في الماضي القريب، في فبراير 2022.

مع أن نسبة الزيادات تباطأت هذه السنة، فإن تغيرًا فجائيًا كهذا ربما يكون مضرًا بالبنوك، خاصةً بوصفه جزءًا من مسار تغير بدأ في الأزمة المالية العالمية 2007 – 2009، واتسم بانخفاض سريع تلاه ارتفاع سريع في نسب الفائدة.

تقلل الزيادة في نسب الفائدة من قيمة الأصول البنكية، وتزيد من المبلغ الذي تدفعه عندما تقترض، وتحد من ربحيتها ومن مناعتها أمام الأحداث السلبية عمومًا. في النصف الأول من العام 2023 اضطرت البنوك إلى مواجهة انخفاض نمو الاقتراض وارتفاع تكاليف الودائع، وهي نسبة التكلفة التي يجب على البنوك دفعها فائدةً على ودائع عملائها.

من أسباب ارتفاع التكلفة سحب الكثير من العملاء أموالهم وإيداعها في أماكن قد تجلب لهم فوائد أكبر، مثل تمويل الأسواق المالية، ما أجبر البنوك على الاقتراض من البنك الفيدرالي لتأمين قدر كاف من الأموال، واقترضوا بفوائد أعلى بكثير من العادة.

كان هذا أحد أسباب انهيار البنوك في الربيع، ما ضرب استقرارها في توقيت انخفضت فيه أيضًا قيمة الدين في جدول موازنتها انخفاضًا حادًا. دفع ذلك العملاء في البنوك الأخرى إلى سحب ودائعهم خوفًا من أن أموالهم لم تعد في أمان أيضًا. إجمالًا، شهدت البنوك في الولايات المتحدة انخفاضًا في الودائع بنسبة تقارب 4% بين يوليو 2022 ويونيو 2023. ذلك إضافةً إلى نسبة الفائدة المرتفعة، ما يُعد أمرًا سيئًا للقطاع المصرفي عمومًا.

تمكن رؤية تأثير ذلك في ربحية البنوك، بالنظر إلى إجمالي صافي هوامش الفائدة، وهو مقياس للفارق بين مداخيل البنوك من الفوائد ومدفوعاتها لأصحاب الودائع وغيرهم من الممولين.

التخفيضات في التقييم الائتماني:

أضافت وكالات التصنيف المزيد من الضغوطات، فقد خفضت وكالة فيتش في بداية أغسطس الترقيم السيادي لدين الولايات المتحدة من AAA إلى AA+. وذكرت الوكالة أن ثَمّ تدهور محتمل في الحالة المالية العامة للبلاد على مدى السنوات الثلاثة القادمة، وتحدثت عن التجاذبات السياسية حول سقف الدين، وهو أقصى مبلغ تستطيع الحكومة اقتراضه.

تعكس التخفيضات في الترقيم السيادي غالبًا مشكلات في الاقتصاد عمومًا. ما قد يضرب استقرار البنوك لأنه يجعلها أقل أحقية بالائتمان، ومن ثم تخفيض تصنيفها الائتماني أيضًا. قد يصعب ذلك عليها الاقتراض من الأسواق المالية أو من البنك الفيدرالي. قد يؤثر ذلك بشدة في البنوك إذ يخفض قدرتها على الإقراض وربحيتها عمومًا وأسعار أسهمها ومخزونها من رأس المال الذي يمكّنها من التعامل مع الديون السيئة.

بعد أسبوع من إعلان فيتش، خفضت موديز التصنيف الائتماني لبنوك الولايات المتحدة المتوسطة، وذكرت المخاطر المالية المتزايدة والضغوطات التي قد تقوض ربحيتها. وقد حذرت أيضًا من إمكانية تخفيض التصنيف لبنوك أكبر، مثل بنك «نيويورك ميلون» وبنك «ستايت ستريت».

أما وكالة التصنيف الرائدة الأخرى «إس آند بي» الدولية، فقد انتهجت النهج ذاته. تظهر أبحاثنا أن التخفيضات في تصنيف البنوك مرتبطة بكونها أكثر مخاطرةً وأقل استقرارًا، خاصةً عندما يلازمها خفض الترقيم السيادي.

مع ذلك، توجد جوانب إيجابية من وجهة نظر البنوك. إذ يُتوقع أن تستقر نسب الفائدة والودائع البنكية على الأقل في الأشهر القادمة، ما يفترض أن يكون في مصلحة القطاع البنكي. رغم التدهور في ربحية البنوك، فإن البنوك الكبرى شهدت ارتفاع هوامش الربح نتيجة فرض فوائد أعلى على القروض. بعض البنوك تتوقع أيضًا دفعةً من تغيرات، مثل زيادة في عقد الصفقات لاحقًا هذه السنة. مؤشرات كهذه قد تساعد على تحقيق المزيد من الاستقرار لجميع الأطراف.

شهدت البنوك في أوروبا انخفاضًا في الودائع وصافي هوامش الفائدة في السنوات الأخيرة، ولذلك احتاج بنك «كريدي سويس» إلى الإنقاذ من قِبَل نظيره «يو بي إس» السويسري في مارس. مع ذلك، بدأت مبالغ الودائع وهوامش الربح في أوروبا بالتعافي في الربعين الأخيرين. في الوقت ذاته، بينت اختبارات الضغوط المالية التي أجرتها هيئة الصيرفة الأوروبية استقرار البنوك الكبرى في الاتحاد الأوروبي.

تبدو بنوك المملكة المتحدة بحال أسوأ بقليل من البنوك في الاتحاد الأوروبي. إذ تظل ميزانياتها العمومية سليمة إلا أن مبالغ ودائعها لم تتعاف بالقدر ذاته. وقد بدأت أيضًا بتعديل توقعاتها للأرباح مترقبةً المزيد من الرفع في نسب الفائدة من قِبَل بنك إنجلترا.

التدخلات التعديلية:

لتعزيز القطاع البنكي بالولايات المتحدة، يخطط المشرعون لزيادة الحد الأدنى من قيمة رأس المال الذي يجب أن تحتفظ به البنوك الكبرى في الولايات المتحدة «يجب أن تتجاوز قيمة أصولها 100 مليار دولار، ما يعادل 79 مليار جنيه استرليني».

هذه الخطط لزيادة قدرة البنوك على امتصاص الصدمات مشجعة، مع أنها ستستغرق أكثر من أربع سنوات لتنفيذها بالكامل. عام 2004، وُضعت «قواعد بازل» المصرفية الدولية للهدف ذاته، لكنها لم تُطبق مبكرًا بما يكفي لتجنب الأزمة المالية العالمية.

حاليًا، يظل النظام البنكي في الولايات المتحدة هشًا، سواء أمام الصدمات من داخل المنظومة المالية أو الكوارث عمومًا. سيستغرق الأمر بضعة أشهر حتى نستطيع الجزم بأن المرحلة الأسوأ قد مرت.

اقرأ أيضًا:

ذروة التضخم ومعضلة البنوك المركزية

أزمة البنوك وخيارات الاحتياطي الفيدرالي

المترجم: زياد نصر

تدقيق: حسام الدين طلعت

المصدر