تُعد الأوديسة أحد أقدم المؤلفات التي لا تزال تُقرأ حتى يومنا هذا. تنقسم هذه القصيدة الملحمية إلى 24 فصلًا، وتحكي قصة أوديسيوس، ملك جزيرة إيثاكا، ورحلته التي امتدت عشر سنوات للعودة إلى وطنه، عقب حرب طروادة التي دامت بدورها عشر سنوات.

على مر الرحلة، دُمرت سفن أوديسيوس بفعل العواصف، وتعرض للأسر مدة سبع سنوات، وزار العالم السفلي، وخاض معارك ضد عمالقة ووحوش وآلهة متعددة. أما مصطلح أوديسة، الذي يُعرف بأنه تجوال طويل أو رحلة تتخللها عادةً تحولات عديدة في الحظ، فقد اشتُق من اسم هذه الملحمة اليونانية.

يُنسب تأليف الإلياذة، التي تدور أحداثها في أواخر حرب طروادة، والأوديسة إلى الشاعر اليوناني القديم هوميروس، مع أن العلماء لا يجزمون بوجوده الحقيقي. بل إن بعضهم اقترح أن هوميروس ليس سوى مفهوم رمزي، وأن هذه الأعمال قد نُقلت شفهيًا قبل أن تُدوَّن لاحقًا في صيغة شعرية مخصصة للأداء، في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد.

يقول هانز بيورك، أستاذ الدراسات الكلاسيكية المساعد في جامعة ستانفورد: «يعد كثير من النقاد أن الأوديسة عمل أقل شأنًا، لأنها تنطوي على عناصر خيالية عديدة».

لكن يرى بيورك أن الأوديسة تمثل همزة الوصل بين التصوير المعقد لشخصية أوديسيوس والقراء المعاصرين، إذ تُقدم بمثابة تحذير من شتى أنواع المتاعب التي قد يقع فيها الإنسان.

مثلًا، عندما يبحر أوديسيوس ورفاقه قرب حوريات البحر، لا يستطيع أوديسيوس مقاومة الاستماع إلى ترانيمهن.

يعلق بيورك قائلًا: «أوديسيوس فضولي للغاية حيال كل شيء. فعندما كانوا يمرون قرب حوريات البحر، طلب منه رجاله أن يغيروا المسار. لكنه أمرهم بسد آذانهم بالشمع والقطن، وربط نفسه بصاري السفينة، حتى يتسنى له سماع أصواتهن».

فيما يلي خمس حقائق رئيسية عن بطل الأوديسة:

أوديسيوس: شخصية زاخرة في الأساطير القديمة:

يرى بيورك أن أوديسيوس من أكثر الشخصيات ثراءً وتفرعًا في الأساطير القديمة، فهو ليس مجرد شخصية رئيسية في الإلياذة والبطل المحوري في الأوديسة، بل يظهر أيضًا في مسرحيات إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وفي أعمال تعود إلى الحقبة الهلنستية.

ما يجعل من أوديسيوس شخصية أدبية متكاملة هو امتداد حضوره الزمني، فقد استُمر في سرد قصصه على مدى القرون التالية، خلال عهد الإمبراطورية الرومانية والعصور الوسطى. وحتى في القرنين الماضيين، استلهم كل من الشاعر ألفريد لورد تينيسون، والكاتبين جيمس جويس، ونيكوس كازانتزاكيس، ومارجريت أتوود، من الأوديسة وشخصية أوديسيوس، ما يبرهن على أن هذه الشخصية لا تزال تحتفظ بجاذبيتها وبصيرتها حتى اليوم.

ذكاء أوديسيوس:

ما زال تأثير أوديسيوس قائمًا حتى اليوم، لأنه على عكس أبطال الإغريق الآخرين مثل أخيل وبرسيوس وهيراكليس، يُعرَف بذكائه وبصيرته، أكثر من قوته البدنية، يصفه بيورك بأنه ذكي للغاية.

يشير بيورك إلى أن دور أوديسيوس في القصص يتمثل في معرفة كيفية إنجاز المهام الصعبة، يقول: «في جميع القصص، هناك خيط سردي متواصل يتمثل في إخفاء هويته، والتظاهر بأنه شخصيات أخرى، وخداع الآخرين لتحقيق أهدافه».

«إنه كالحرباء، وهذا ما يجعله جذابًا بوصفه شخصية أدبية».

يصعُب تصنيف أوديسيوس ضمن نمط محدد من الشخصيات، لأنه مرّ بتجارب وسيناريوهات متنوعة في الإلياذة والأوديسة، ففي بعض المواقف يبدو نبيلًا جدًا، في حين تتسم تصرفاته أحيانًا بالقسوة والدموية والفظاظة. يعتقد بيورك أنه لم يكن حتى قائدًا عظيمًا للرجال، إذ كانوا دائمًا ما يقعون في المشاكل ويتسبّبون في أزمات يضطر هو لاحقًا إلى إصلاحها.

يقول بيورك: «ثمّ شعور بعدم الارتياح حيال شخصية أوديسيوس، وهو ما يلازم عادةً أكثر الشخصيات الأدبية إثارة للاهتمام». فالقراءة عن طريقة مواجهة أوديسيوس للمِحن والتعامل معها هي ما يجذب القراء إليه.

استخدام أوديسيوس الحيلة لهزيمة الوحوش:

خلال رحلته الطويلة التي استغرقت عشر سنوات للعودة إلى إيثاكا، واجه أوديسيوس طيفًا من الوحوش والكائنات الغريبة. ومن أشهر تلك المواجهات، صدامه مع العملاق بوليفيموس، أحد الكواسيكلوب، الذي نصب فخًا لأوديسيوس ورفاقه واحتجزهم. بدأ بوليفيموس بأكل رجاله واحدًا تلو الآخر، متوعدًا بالتهامهم جميعًا. إلا أن أوديسيوس تمكّن من النجاة عبر حيلة بارعة. يشرح بيورك ما حدث قائلًا: «لقد جعله يشرب حتى الثمالة، وعندما فقد وعيه، غرز وتدًا حادًا في عينه وأعماه».

لكن هجوم أوديسيوس لم يمر مرور الكرام دون تبعات، إذ كان بوليفيموس مقرّبًا من بوسيدون، إله البحر. فأثار بوسيدون العواصف والأمواج العاتية انتقامًا لابنه، ما أطال رحلة عودة أوديسيوس ودمر قاربه.

في أثناء رحلته، التقى أوديسيوس بإله الرياح أيولوس، الذي منحه حقيبة تحوي جميع أنواع الرياح، باستثناء الريح الغربية التي كانت ستحمله إلى وطنه. ونجا بصعوبة من قبيلة من آكلي لحوم البشر.

عندما واجه الساحرة سيرس، حولت عدد من رجاله إلى خنازير، إلا أن أوديسيوس استخدم عشبة سحرية تُسمى مولي لإقناعها بإعادتهم إلى هيئتهم البشرية. ثم أقام معها علاقة دامت عامًا كاملًا، أسفرت عن إنجاب ولدين.

أبحر أوديسيوس بمحاذاة تشاريبديس، وهي دوامة بحرية عملاقة تبتلع السفن، وسكيلا، الوحش ذو الرؤوس الست، التي اختطفت ستة من بحارته حين اقتربت السفينة منها أكثر مما ينبغي.

أوديسيوس مبتكر حصان طروادة:

تُعد قصة حصان طروادة بلا شك من أشهر ما أفرزته الأساطير اليونانية. فبعد سنوات من الحرب الضروس بين الإغريق والطرواديين، بنى الإغريق حصانًا خشبيًا ضخمًا بدا كأنه هدية للآلهة، وتركوه خارج أسوار المدينة. وما إن أدخل الطرواديون الحصان إلى داخل أسوارهم، حتى خرج منه الجنود الإغريق في جنح الليل، وفتحوا البوابات لبقية الجيش الذي اقتحم المدينة ودمرها، منهيًا الحرب بانتصار ساحق.

رغم هيمنة أسماء مثل أخيل وأغاممنون وهيلين الطروادية وباريس على مشهد الحرب، يرجح كثيرون أن أوديسيوس هو صاحب فكرة الحصان العبقرية.

مع أن هذه الحيلة تُعد ذروة ما بلغه أوديسيوس من دهاء وذكاء وفعالية، فإنها تكشف أيضًا عن جانبه المظلم. يقول بيورك: «إنها حيلة طريفة بلا شك، لكنها أفضت إلى مذبحة جماعية واستعباد مدينة بأكملها».

أعادت الكاتبة مارغريت أتوود في روايتها القصيرة (The Penelopiad)، التي نُشرت عام 2005، سرد ملحمة الأوديسة من منظور بينيلوبي، زوجة أوديسيوس، مصورة إياه في صورة أكثر قتامة. يعلق بيورك قائلًا: «لقد وجهت الرواية طعنًا حادًا إلى صورة البطولة التي تحيط بأوديسيوس، وغاصت في الجوانب المظلمة من حكايته، تلك التي غالبًا ما نتجاهلها لأنه شخصية آسرة وساحرة».

الطرق المتعددة لتفسير شخصية أوديسيوس:

شهدت ملحمة الأوديسة تفسيرات متعددة منذ تدوينها قبل ما يتراوح بين 2670 و2770 عامًا. إذ يرى البعض أنها تتناول الثبات في مواجهة الشدائد، والسعي للعودة إلى كنف العائلة مهما كلف الأمر، وتُعد قصة عن الوفاء والضيافة ودور الآلهة في مصائر البشر.

لكن في رأي آخرين، يسلط العمل الضوء على الأثر النفسي للحرب وما تخلفه من صدمات. فعندما يبدأ أوديسيوس بسرد ما عاشه خلال حرب طروادة، لا يتمالك نفسه من البكاء. يقول بيورك: «في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومع تصاعد حرب فيتنام، بدأ العديد من الباحثين ينظرون إلى الأوديسة بوصفها استكشافًا لتأثير اضطراب ما بعد الصدمة على سلوك أوديسيوس وقراراته».

«تظل شخصية أوديسيوس حاضرة بفضل تعدد المناحي التي يمكن بواسطتها تحليل حكايته. فحسب المصدر، تتباين الرؤى حوله تباينًا لافتًا. إنه بطل بالغ الذكاء والدهاء، لكنه يتحول أحيانًا إلى خصم شرس لا يعرف الرحمة».

اقرأ أيضًا:

أهم الشخصيات في التاريخ القديم – الجزء الثالث

ما الفرق بين الخرافة والفلكلور والأسطورة؟

ترجمة: أميمة الهلو

تدقيق: مؤمن محمد حلمي

المصدر