كانت سنة 536 م سنة سيئة وفظيعة لأوروبا! بدأ الأمر عندما اكتسح ضباب غامض القارة، وحجب الشمس بغلالة زرقاء جعلت أوروبا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا تغرق في ظلام دامس دام 18 شهرًا، انخفضت فيه درجات الحرارة ليحل أبرد عقد مرّ على المنطقة في ألفي عام.

هلكت المحاصيل في العالم من إيرلندا إلى الصين، وتبع ذلك حدوث المجاعات وواجه السكان الذين نجوا من الليل الطويل البارد ظروفًا أقسى في السنوات التالية، إذ ضرب الطاعون الدبلي سنة 541 م الذي عُرِف باسم «طاعون جستينيان» المناطق المحيطة بالبحر المتوسط وأودى بحياة 100 مليون شخص.

كانت سلسلة الأحداث هذه كارثية على العالم، وقد وصف مايكل ماكورميك المؤرخ المُختَص بالقرون الوسطى وعالم الآثار سنة 536 بقوله: «كانت بداية إحدى أسوأ الحقب، إن لم تكن أسوأ سنة في التاريخ»، ورغم معرفة العلماء بالدمار الذي حل بأوروبا وقتها فهم غير متيقنين بعد من سببه.

لكن ماكورميك وزملاءه من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا يظنون أنهم توصلوا إلى الإجابة أخيرًا. في دراسة جديدة نُشِرت مؤخرًا في journal Antiquity حلل العلماء طبقات جليدية قديمة استُخرجت من أعماق جبال الألب السويسرية ضمت ما يعادل ألفي سنة من دروس التاريخ المجهرية، إذ احتوت على جسيمات من الغبار والعناصر المعدنية والمحمولة المتجمدة في طبقات يصل طولها إلى 235 قدمًا (ما يعادل 72 مترًا)، ويشير الجليد المدروس إلى التغيرات التي طرأت على الغلاف الجوي في أوروبا خلال ألفي عام، فهذه جسيمات من عاصفة ترابية وتلك ذرات فضة أما هذه الجسيمات فتشير إلى انفجار بركاني هائل في آيسلندا تلته مباشرة بداية الأشهر المظلمة في أوروبا.

تتابع الدراسة الجديدة ما استهلته أبحاث سابقة أجراها عدد من المشاركين في الدراسة الجديدة، واستخدموا في دراساتهم السابقة سنة 2015 الليزر لتقطيع شرائح ثلجية رقيقة للغاية أُخِذت من أعماق جليد جبال الألب لتُحلَّل كيميائيًا.

سمحت هذه الطريقة للعلماء بأخذ عشرات الآلاف من عينات الجليد الجوفية، تمثل كل واحدة منها بضعة أيام أو أسابيع من تساقط الثلج عبر التاريخ وحللوا عناصر جوية محددة وجدوها في كل عينة.

عندما فحص الفريق عينات جليد تعود إلى ربيع سنة 536 وجدوا شظيتين مجهريتين من الزجاج البركاني، وتتبعوا مصدرهما فوجدوه صخورًا بركانية من آيسلندا. يقول العلماء إن هذه الشظايا التي سافرت مسافة طويلة دليل على حدوث انفجار بركاني هائل أطلق كمية ضخمة من الرماد الكثيف غطى النصف الشمالي من الكرة الأرضية، ونقلته الرياح جنوبًا إلى أوروبا ليغطي السماء أكثر من عام.

كانت دراسات سابقة اقترحت فرضية أن يكون الانفجار البركاني قد حصل فيما يُعرف اليوم بغرب الولايات المتحدة وأن يكون هو سبب الظلام الذي حل بأوروبا، لكن كريستوفر لوفلوك عالم الآثار من جامعة نوتنغهام في الولايات المتحدة وأحد واضعي الدراسة الحديثة يقول إن فرضية آيسلندا أكثر منطقية وتتفق مع أحداث الدمار التي نقلتها السجلات التاريخية من ذلك العصر.

ويضيف «آيسلندا أقرب بكثير إلى بريطانيا وشمال غربي أوروبا من كاليفورنيا في غرب أميركا، وهذا يعني أن تأثير الانفجار في مناخ تلك المناطق كان أكبر بكثير مما اعتقدنا، ولا بد أنه سبب انخفاضًا سريعًا وشديدًا في درجات الحرارة، وكان تأثيره أشد في بريطانيا وشمال غرب أوروبا، ومن المؤكد أن آثار الانفجار كانت فورية في هذه المناطق، مثل حدوث المجاعات وانتشار الأمراض بسبب قلة المحاصيل».

عثر الفريق على آثار لانفجارين بركانيين آخرين حدثا في 540 و547 م، ويرى الباحثون أن تلوث الانفجارات الثلاثة مجتمعة سبب أضرارًا تجاوزت حجب أشعة الشمس وانخفاض درجات الحرارة. وقد تكون تسببت بمئة عام من الموت والخراب لأوروبا.

لكن الأيام الفظيعة قد انتهت لحسن حظ أوروبا، إذ تُظهِر العينات الجليدية الجوفية من جبال الألب علامات لنوع آخر من التلوث، هو تلوث الرصاص الذي انتشر في الهواء خلال عصر صهر الفضة وصناعتها، ويرى لوفلوك أن الطلب المستمر على الفضة في تلك الفترة دليل على حدوث انتعاش اقتصادي وظهور طبقة جديدة من تجار المعادن الثمينة بعد فترة الظلام والجوع والمرض التي ضربت أوروبا.

اقرأ أيضًا:

مجتمع ما بعد الجائحة: الآثار المجتمعية وعواقب الأوبئة الماضية

البركان : ما هي البراكين ؟

ترجمة: الحسين الطاهر

تدقيق: وئام سليمان

المصدر