تتحمل منطقة واحدة شديدة النشاط في الدماغ تسمى القشرة الحزامية الأمامية تحت الخلقية subgenual anterior cingulate cortex (sgACC) المسؤولية عن بعض الأعراض الرئيسية المتعلقة باضطرابات القلق والمزاج، إذ تعالج مضادات الاكتئاب بعض هذه الأعراض بنجاح لكن ليس جميعها. اقترحت دراسة جديدة نُشرت اليوم ضمن مجلة Nature Communications أن المنطقة sgACC ذات أهمية بالغة في اضطرابات القلق والاكتئاب ، ويستطيع العلاج الموجه المبني على أعراض المريض وحده أن يعطي نتائج مُبشّرة.

الاكتئاب مرض مُنهِك يصيب مئات الملايين من البشر حول العالم، لكن يختبره كل إنسان بصورة مختلفة. يظهر لدى البعض باشتداد المشاعر السلبية كالشعور بالذنب والقلق؛ بينما يفقد البعض الآخر القدرة على الشعور بالمتعة (وهذا يسمى طبيًّا بانعدام التلذّذ – anhedonia)؛ وآخرون يعانون خليطًا من النمطين.

وجدت دراسة من جامعة كامبريدج أن النشاط المتزايد في المنطقة sgACC، التي تشكل جزءًا مهمًا من الدماغ العاطفي، قد تكون هي السبب في زيادة المشاعر السلبية، وانخفاض الإحساس بالمتعة، وارتفاع خطر الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية عند الأفراد المكتئبين والقلقين. والأكثر دهشةً، اكتشاف أن هذه الأعراض نفسها تختلف بين الأفراد في استجابتها للعلاج بمضادات الاكتئاب، رغم أنها تنشأ عند الجميع نتيجة نفس التغيرات في نشاط الدماغ.

اعتمد الباحثون في دراستهم على القرَدة الأمريكية الصغيرة (سعدان) – marmoset، وهي أحد أنواع الرئيسيات اللا بشرية، إذ حقنوا كميةً صغيرةً من مادة منشّطة ضمن منطقة sgACC لزيادة نشاطها. نعتمد على السعادين لأن أدمغتها تتشارك الكثير من الصفات مع أدمغة البشر، ويمكن إجراء التجارب على المناطق الدماغية لديها لفهم الآثار الجانبية للأدوية والأمراض.

اكتشاف منطقة دماغية واحدة تتحكم بالاكتئاب والقلق وأمراض القلب وحساسية العلاج - المنطقة sgACC - القشرة الحزامية الأمامية تحت الخلقية - القلق والاكتئاب

وجد الباحثون في تجاربهم أن زيادة النشاط في المنطقة sgACC أدى إلى رفع كل من معدل ضربات القلب، ومستوى هرمون الكورتيزول، بإضافة إلى المبالغة في درجة استجابة الحيوانات إلى الخطر، مشابهةً بذلك أعراض اضطرابات القلق والاكتئاب.

قال الدكتور ليث ألكسندر، أحد المؤلفين الأساسين للدراسة من جامعة كامبريدج قسم الفزيولوجيا، والتطوير وعلم الأعصاب: «وجدنا أن زيادة النشاط في المنطقة sgACC حرّضت الجسد على اعتماد حالة “الكر والفر” بدلًا من حالة “الراحة والهضم”، ذلك عبر تنشيط الجهاز القلبي الوعائي ورفع درجة الاستجابة للخطر. يضيف هذا إلى عملنا السابق أن النشاط الزائد في هذه المنطقة يَخفض لدى المصاب الأمل والحافز بالمكافآت، ما يعكس فقدان القدرة على الاستمتاع عند الأشخاص المكتئبين».

درّب الباحثون السعادين على ربط خطر وجود أفعى المطاطا المفترسة مع نغمة معينة وذلك بهدف دراسة العلاقة بين الخطر والاكتئاب. ما أنْ أنشأت السعادين هذا الرابط بين خطر الأفعى والخوف، عمد الباحثون إلى قطعه عبر عرض النغمة عليهم دون الأفعى. ثم قاسوا سرعة السعادين في العودة إلى حالة الهدوء والسيطرة على مشاعرهم بعد تحريض استجابة الخوف لديهم.

قال ألكسندر: «لاحظنا أنه عبر الإفراط في تنشيط المنطقة sgACC، بقيت السعادين بالنظر إلى سلوكها وقياسات ضغط دمها خائفةً لفترة أطول عند التعرض لمحرض ما، ليؤكد هذا أن قدرتهم على ضبط العواطف تضطرب في المواقف الموترة».

على نحو مماثل، أصبحت السعادين، بعد الإفراط في تنبيه المنطقة sgACC، أكثر قلقًا عند التعرض لخطر مبهم غامض كمقابلة إنسان غير معتادة عليه.

قال الدكتور كريستيان وود، أحد المؤلفين الرئيسين في الدراسة وعالم كبير في بحوث ما بعد الدكتوراه في جامعة كامبرديج في قسم الفزيولوجيا والتطوير وعلم الأعصاب: «بعد الإفراط في تنبيه المنطقة sgACC، كانت السعادين أكثر حذرًا وارتباكًا عند لقائها شخصًا غير مألوف، إذ بقيت بعيدةً عنه وأبدت تجاهه سلوكًا مشككًا».

استخدم الباحثون تقنية تصوير الدماغ لاكتشاف مناطق دماغية أخرى تأثرت بفرط النشاط الحاصل في sgACC عند التعرض لخطر ما، واكتشفوا أن فرط تنشيط sgACC ترافق مع ازدياد النشاط في كل من اللوزة الدماغية amygdala والوطاء hypothalamus، وهما بُنيتان أساسيتان في الشبكة الدماغية الخاصة بالقلق، وترافق أيضًا انخفاض النشاط في القشرة أمام الجبهية الجانبية lateral prefrontal cortex، التي تحتل مكانةً هامةً في ضبط الاستجابة العاطفية إذ ثبَت انخفاض نشاطها في حالات الاكتئاب.

قالت الدكتورة أنجيلا روبرتس من جامعة كامبريدج قسم الفزيولوجيا والتطوير وعلم الأعصاب التي قادت الدراسة: «اختلفت المناطق الدماغية التي تأثرت بالاستجابة للخطر عن تلك المعروفة سابقًا بنشاطها خلال المكافآت. وهذا أمر هام، إذ بإمكان الشبكات الدماغية المُتغايرة أن تفسر الاختلاف في استجابة الأعراض المتعلقة بالخطر عن تلك المتعلقة بالمكافآت للعلاج».

أظهر الباحثون سابقًا أن دواء الكيتامين – Ketamine، الذي له تأثيرات مضادة للاكتئاب سريعة الظهور، قد يعدّل من الأعراض المتعلقة بحالة انعدام المتعة. لكنه لم يستطع أن يحسن من حالة فرط القلق التي أظهرتها السعادين عند لقائها بالإنسان الغريب بعد الإفراط في تنبيه sgACC.

قالت الدكتورة روبرتس: «لدينا أدلة حاسمة حول الاختلاف في استجابة مجموعات الأعراض للعلاج، فمن جهة، عكس الكيتامين السلوكيات المشابهة لحالة انعدام التلذذ، بينما لم يعكس تلك المشابهة للقلق. يظهر بحثنا أن المنطقة sgACC تقع في مركز المشكلة المتعلقة بعلاج أعراض كل من القلق والاكتئاب».

اقرأ أيضًا:

علماءٌ يكتشفون وجود 97 منطقة دماغية جديدة

أصل الشعور بالشبع: خلايا دماغية تغير شكلها وقت الوجبة

شبكة النمط التلقائي: اختبارنا للجمال يرتبط بمنطقة غير متوقعة من الدماغ

ممارسة ألعاب الفيديو تزيد كمية المادة الرمادية والاتصالات الدماغية

ترجمة: يونس الجنيدي

تدقيق: نغم رابي

مراجعة: آية فحماوي

المصدر