منذ آلاف السنين، ومع بداية تشكل المنهج العلمي، كان الهدف الأساسي هو تفسير اللون، وإيجاد رابط واضح وموحد بين كل الجسيمات والأجرام الموجودة في الفضاء الذي نعيش فيه، وعبر ذلك، الوصول إلى معادلة تختصر هذا كله. هذا ما حلم به ألبرت أينشتاين قبيل تفسيره لنظرية النسبية العامة، وكذلك كان الأمر لباقي الفيزيائيين في تلك الحقبة الذين ساهموا في إيجاد نظرية الفيزياء الكمية.

ولكن مع تطور وتوسع هاتين النظريتين من ناحية رياضية، بات من الصعب جدًا إيجاد رابط بينهما يوحدهما في نظرية واحدة تفسر الظواهر الكونية جمعاء. أحد هذه الظواهر هي الجاذبية، التي بدأ فيها نيوتن، إذ ساهم بصنع نظام رياضي يفسر الجاذبية بكونها قوةً موجودة بين أي جرمين.

ولكن أينشتاين اقترح أن الجاذبية ما هي إلا انحناء في الزمكان، يؤدي إلى ظهور موجات جاذبية، وأن هذه الموجات هي التي فسرها نيوتن على أساس أنها قوة ما. وبعد العديد من التجارب التي أثبتت نظرية أينشتاين، بتنا الآن متيقنين أن نسيج الزمكان هو المسبب الأساسي والوحيد لقوة الجاذبية التي نشعر بها.

إلا أن الفيزياء الكمية اقترحت أن الموجات الثقالية أيضًا، ليست سوى مجرد جسيمات، تتناقل في الفضاء الواسع، لتؤثر في الأجرام بنسبٍ مختلفة. وقد أطلق العلماء على هذه الجسيمات اسم الغرافيتون (graviton).

مع وجود هاتين النظريتين، ومحاولة الربط بينهما، اقترح العديد من الباحثين نظريةً أوسع، لتجمع بين كل ما هو موجود داخل كوننا من قوة، إضافةً إلى نسيج الزمكان.

إن النظرية الكمية التي اقترحت أن القوة الكونية والجاذبية ما هي إلا جسيمات تتناقل، كانت صادمةً لكل الفيزيائيين، ومع ذلك، اهتم العديد بتوسيع هذه النظرية، لتشمل أيضًا نسيج الزمكان، إذ اقترح بعض الباحثين النظريين أن الزمكان، أي الفضاء، مؤلف من أجزاء صغيرة للغاية أيضًا، وهذه الأجزاء هي الأساس لوجود كل شيء في كوننا.

هذا ما أسماه العلماء نظرية الجاذبية الحلقية الكمية.

الزمكان: اللاعب الأساسي، أم مجرد وهم؟

إن الاختلاف الأساسي بين النسبية العامة والفيزياء الكمية يقع في وصفهما لدور الزمكان في التأثير على الجسيمات والأجرام، إذ تعطي النسبية العامة الدور الأكبر والأهم للزمكان، فيؤثر تغيره بفعل كتلة الأجرام والجسيمات على كل شيء، ويؤدي إلى وجود قوى الجاذبية. لذا، فإن الزمكان هو الأساس بالنسبة لنظرية النسبية العامة. أما من نظرة الفيزياء الكمية، فإن الزمكان هو مجرد مسرح، لا يؤثر على الأدوار التي يلعبها الممثلون، في هذه الحالة الجسيمات. إن تفاعل الجسيمات فيما بينها هو الأساس في الفيزياء الكمية، وهو المؤثر الأساسي في التغيرات الكونية، أما الزمكان، فهو المكان الذي تحصل فيه هذه التفاعلات، ولا يلعب دورًا فعالًا في التأثير.

ترى العديد من النظريات المرشحة لكونها النظرية الكونية، بأن دور الزمكان في التأثير على الجسيمات هو دور صغير، مقارنةً بتأثير التفاعلات التي تحدث بين هذه الجسيمات، حتى أن نظرية الأوتار، إحدى أهم النظريات الفيزيائية والمرشحة لتكون صلة الوصل بين النسبية العامة والفيزياء الكمية، لا تعطي أهميةً كبرى للزمكان.

ما لا يمكن إنكاره هو الدور الواضح للزمكان في التأثير على قوة الجاذبية، على الأقل إذا اعتمدنا على نظرية النسبية العامة. لذا، على الأرجح، بدلًا من محاولة تفسير الجاذبية كميًا، قد يساعدنا تفسير الزمكان كميًا في إيجاد نظرية كمية تشمل الجاذبية، وتربط بينها وبين الزمكان.

الجاذبية الحلقية الكمية

يأتي إسم الجاذبية الحلقية الكمية من التفسير الفيزيائي الذي تعتمده هذه النظرية لوصف النسبية العامة والزمكان. عادةً، تُوصف النسبية العامة اعتمادًا على نقاطٍ معينة، أما في الجاذبية الحلقية الكمية، تُوصف النسبية العامة رياضيًا اعتمادًا على خطوط معينة، ما يسهل العديد من العمليات الحسابية التي تصف الزمكان كميًا.

إن وصف الزمكان كميًا يعني وجود أجزاء صغيرة أساسية تُعتبر المكون الأساسي للزمكان.

تخيل أنك تنظر إلى صورة ما عبر هاتفك. مع اقترابك شيئًا فشيئًا نحو هذه الصورة وتفاصيلها، ترى بأنها في الحقيقة تتكون من نقاطٍ أصغر (pixels) تشكلها.

هذا التشبيه هو الأقرب للوصف الكمي للزمكان. في حال مراقبتنا ومحاولة وصفنا للزمكان عن بعد، فإننا سنراه بمثابة مسرح كبير، لا يتكون من أي شيء، ولكن مع اقترابنا شيئًا فشيئًا، نرى أن المسرح يتألف من أجزاء صغيرة للغاية، هي المشكّلة له. لذا، عند تحرك أي جسيم في الزمكان، فإنه ينتقل من جزءٍ إلى أخر، بشكلٍ متواصل.

قد يسأل أحدنا، لم علينا وصف النسبية العامة كميًا؟ أليست مثبتةً ومؤكدةً؟

الجواب بسيط للغاية. نرى العديد من المشاكل التي تظهر في النسبية العامة رياضيًا. على سبيل المثال، تظهر نقطة التفرد في الأماكن التي تصل فيها الكثافة إلى ما لا نهاية، ما يؤدي إلى إرتفاع الجاذبية إلى ما لا نهاية أيضًأ. لاحظ الباحثون هذه الظواهر عند الثقوب السوداء، وعند لحظة الانفجار الكوني العظيم، ولكن عدم قدرة النسبية العامة في تفسيرها أدى إلى العدول نحو نظرية كمية.

الجاذبية الحلقية الكمية تحول نقطة التفرد إلى أجزاء متناهية الصغر من المادة، ما يؤدي إلى اختفاء نقاط التفرد واستبدالها بشيءٍ آخر، من الممكن تفسيره.

لم يكتمل التصميم بعد

لم تكتمل بعد نظرية الجاذبية الحلقية الكمية، إذ ما زلنا عاجزين عن وصف شكل وماهية هذه الأجزاء المتناهية في الصغر من المادة، على الرغم من نجاح بعض الباحثين بإيجاد بعض التفسيرات الرياضية باستعمال نظرية شبكة الدوران (spin network)، الأخيرة نظرية رياضية تساهم في وصف التفاعلات بين الحقول والجسيمات الكمية.

لكن المشكلة تقع مجددًا في الرابط بينها وبين النسبية العامة، إذ تتمكن الجاذبية الحلقية الكمية من تفسير الجاذبية في الحالات متناهية الصغر كالثقب الأسود، ولكن، على هذه النظرية أن تفسر الجاذبية في الحالات العادية أيضًا، مثل جاذبية شمس وجاذبية كوكبنا، وهذا ما لم يتأكد الباحثون منه بعد.

إضافةً لذلك، توجد مشاكل أخرى ترتبط بالنسبية الخاصة، إذ تقترح الأخيرة أن الزمكان يتغير مع تغير السرعة، ولكن من جهةٍ أخرى، فإن القواعد والأسس الفيزيائية لا تتغير.

هذا لا يتناسب مع الجاذبية الحلقية الكمية، إذ إن تغير المراقب وحالته (كسرعته) سيغير من حجم وتأثير الأجزاء متناهية الصغر.

إن البحث عن نظرية تشمل كل شيء في الكون يستمر، وقد يستمر لوقتٍ طويل للغاية. الجاذبية الحلقية الكمية ما زالت لم تكتمل بعد، وما زالت تنتقص العديد من الأسس الرياضية، ولكن المستقبل بالتأكيد سيحمل لنا الإجابات، وقد ينجح الباحثون في كشف سر قوة الجاذبية، والربط بينها وبين الفيزياء الكمية.

الفيزياء بشكلها العام عبارة عن حلقة كبيرة، لا متناهية، ندور فيها بحثًا عن الإجابات لوصف الكون، ومن يعلم، قد نستمر في الدوران، للأبد.

اقرأ أيضًا:

لماذا لا يمكن اعتبار نظرية الأوتار صحيحة ولا حتى خاطئة؟

ما هي النظرية الرائعة لكل شيء تقريبًا؟

إعداد: محمد مسلماني

تدقيق: باسل حميدي

مراجعة: آية فحماوي

المصدر