قال الممثل الكوميدي جون مولاني ذات مرة: «لا أعرف ما فائدة جسدي بخلاف نقل رأسي من غرفة إلى أخرى». الكثير من الناس أيضًا يساوون بين جوهر ذواتهم ووعيهم والأفكار الموجودة في رؤوسهم، وتتطرق بعض البرامج التلفزيونية والأفلام (مثل Upload و Transcendence) إلى فكرة تحقيق الخلود بتحميل وعي المرء على جهاز حاسوب. وفي الحقيقة هذه الفكرة ما هي إلا جزء صغير من خطوةٍ أكبر تسمى ما بعد الإنسانية.

يعمل الفيزيائي ديفيد دويتش أستاذًا زائرًا وباحثًا ومؤلفًا تابعًا لجامعة أكسفورد، وهو الملقب بأبو الحوسبة الكمومية، ويريد أن يخطو خطوةً إلى الأمام، إذ يرى أنه في يومًا ما سنستطيع تحميل أنفسنا إلى أجهزة الحواسيب الكمومية، ما سيسمح لنا برؤية الإصدارات الأخرى من ذواتنا كيف تعيش في الأكوان الأخرى. لكن حتى يومنا هذا، فإن الحواسيب الكمومية غير مُجهزةٍ تمامًا لهذا الغرض، ولا أحد يعرف ما هي حقيقة الوعي. ولكن مع تقدم هذه الأجهزة والبيولوجيا الكمومية، قد يكون ذلك ممكنًا.

تختلف الرؤى والأفكار حول ما سيكون عليه الحال إذا تمكنا من استخدام الحواسيب الكمومية بوصفها أجسادًا، في المسلسل الكوميدي أبلود تُفحص أدمغة الناس وتُرفع على أجسادٍ افتراضية (أفاتار) في أحد عوالم الميتافيرس المتعددة، إذ توجد عوالم ميتافيرس فاخرة وبها منتجعات للأغنياء وأماكن الإقامة السيئة للفقراء. ولقاء سعرٍ معين يستطيع المستخدم تحديث أفاتاره، والتفاعل جسديًا مع الأشخاص الأحياء إذا كانوا يرتدون ملابس خاصة تتيح لهم تجربة اللمس.

يعمل لويس روزنبرغ بوصفه مهندسًا حاصلًا على دكتوراه في الفلسفة، ومؤلفًا، ومديرًا تنفيذيًا وكبيرًا للعلماء في شركة يونانيموس إيه آي التي تُنشئ خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحصيل الذكاء الجمعي، ويقول واصفًا هذه الجنة الرقمية: «إن ذاتك المرفوعة على الميتافيرس هي في الحقيقة مجرد نسخة منك.

حتى لو تمكنا من ابتكار آلة قادرة على نسخ دماغ شخص ما بالكامل متضمنين ذكرياته وأفكاره وسلوكياته وصولًا إلى المستوى الجزيئي، ثم إعادة إنشائه داخل جهاز حاسوب، فإن ذلك لن يطيل عمليًا من حياتة».

وصرح لمجلة بابيولار ميكانيكس: «ستكون هذه النسخة مطابقة لك للحظةٍ، هذه النسخة الحاسوبية ستعتقد أن لها جسدًا، والتعامل مع افتقارها إلى الجسد قد يدفعها إلى الجنون. ثم في اللحظة التالية، ما إن تبدأ تلك النسخة في الحصول على تجاربها الخاصة، ستكون مختلفة عنك كما لو كانت شخصًا آخر». وقد طرح هذه التجربة الفكرية:

«إذا وُضع أحد هذه الماسحات الضوئية السحرية للدماغ في شارع مزدحم، بحيث يمر شخص ما تحتها عن غير قصد فينُسخ دماغه، فهل سينتقل من جسده إلى الحاسوب؟

في البداية ، لن يكون لديه أي فكرة أن دماغه قد نُسخ، أليس كذلك؟ ليس لديه أية فكرة عن وجود نسخة في جهاز حاسوب في مكان ما، لذلك لن يشعر فجأة بأنه انتقل إلى نظامٍ حاسوبي، لن يكون هو نفسه. إذا قابلتَ هذا الشخص في الشارع بعد تعرضه للنسخ وقُلت: مرحبا لقد نسخنا للتو دماغك، لقد رفعناك على السحابة الإلكترونية، أنت بأفضل حال الآن، وبوسعك الآن السير بين زحام السيارات المسرعة لتتعرض للدهس، بالطبع سيقول لا.

ولكن الآن، ستوجد نسخة منك في حاسوب تعتقد حقًا أنها أنت، وسيكون لها كل ذكرياتك، وتعتقد أن عائلتك هي عائلتها، ووظيفتك هي وظيفتها، وأموالك هي أموالها، وتعتقد أن لها نفس الحقوق التي تتمتع بها. في المجمل سيخلق الشخص لنفسه هذا الموقف الصعب جدًا».

يشير روزينبرغ الذي نشر رواية خيال علمي بعنوان (ترقية – Upgrade) إلى أن نسخة الحاسوب هذه ستعتقد أن لها جسدًا، والتعامل مع افتقارها إلى الجسد قد يدفعها إلى الجنون. ففي مسلسل أبلود مثلًا ذكرت إحدى الشخصيات أن الجيل الأول من الأفاتارات لم يأكل أو يتغوط أو يرمش، ما دفعهم إلى الجنون.

إن الأشخاص الذين يعتقدون أن أجسادهم تحمل رؤوسهم فقط، يتجاهلون التعايش بين الاثنين، إذ نتلقى باستمرار إشارات من أجسادنا، فالجسد هو المكان الذي تُسجل فيه الكثير من عواطفنا لتساعدنا على معرفة وجودنا هذا العالم. أظهرت الأبحاث أن جينوم بكتيريا الأمعاء لدينا الذي نادرًا ما نفكر به هو مفتاح هويتنا، وقد ينتقل من جيل إلى جيل مثل الحمض النووي، وقد ينظم عملية التعبير الجيني. لذا فإن الذات غير المجسدة في الحواسيب الكمومية سيكون لها وجود مختلف تمامًا، وربما على نحوٍ مشوه.

لكن ماذا لو لم نكن نخطط لقضاء حياة أبدية في نسخة الحاسوب؟ ماذا لو أردنا، السفر عبر الكون المتعدد لنرى ما يفعله أشباهنا في العالم الآخر؟

وبحسب دويتش الذي كتب إحدى أوائل الأوراق العلمية عام 1985 التي اقترحت الحوسبة الكمومية، يرى أن الحوسبة الكمومية تستمد بعض طاقتها الحاسوبية من عوالم أخرى. ومع أنها تبدو نظرية غريبة فهي تعتمد جزئيًا على شيء اعتيادي جدًا، وهو حقيقةُ أن العمليات الكمومية تستخدم الطاقة على نحوٍ أكثر كفاءة من العمليات الكلاسيكية. في العالم الكلاسيكي، توجد الجسيمات في أماكن محددة وقابلة للقياس، ولكن في العالم الكمومي، توجد الجسيمات في حالة تراكب، بمعنى أنها قد تكون في أي مكان وفي كل مكان في كثير من موجة الاحتمالات حتى تُرصد، وما إن تُرصد فإن الدالة الموجية تنهار تاركةً وراءها جسيمًا معينًا قابل للقياس في حالة معينة.

ما يزال الفيزيائيون يناقشون ما تعنيه ظاهرة انهيار الدالة الموجية، وكيف تعمل، أو ما إذا كانت هذه طريقة دقيقة لوصف الظاهرة، لكن كثيرًا من الخبراء يعتقدون أنه عند تحديد جسيم في مكان واحد وحالة واحدة في كوننا، فإن ذلك يحدده أيضًا في نفس الوقت وفي كل حالة من حالاته المحتملة المتبقية في الأكوان الأخرى، وبعبارةٍ أخرى، كل ما قد يحدث في كوننا، يحدث في أكوان أخرى. هذا هو تفسير الأكوان المتعددة لميكانيكا الكم، الذي طرحه الفيزيائي هيو إيفريت في عام 1957.

تستخدم الحواسيب الكلاسيكية نظام البتات أو نظام العد الثنائي لحل المشكلات باختبار الخيارات المتاحة واحدةً تلو الأخرى بسرعة كبيرة، ولكن بدلًا من استخدام البتات، تستخدم الحواسيب الكمومية الكيوبتات التي قد تكون آحادًا أو أصفارًا وكل شيء بينهما في موجة من الاحتمالات، وهي عادةً جسيمات دون ذرية مثل الإلكترون أو الفوتون. وهذا يعني أن الحواسيب الكمومية تستطيع اختبار جميع الإجابات دفعةً واحدة في آنٍ واحدٍ تقريبًا.

إن خاصية التشابك الكمومية تساعد على تحقيق ذلك، فعندما تكون الجسيمات المُوصلة مسبقًا متشابكةً، حتى لو كان الجسيمان المتشابكان بعيدين جدًا عن بعضهما، قد يظلان متشابكين. فإذا كنا نعرف حالة إحداهما، نستطيع على الفور معرفة حالة الجسيم الآخر الذي يتشابك معه. فإذا وجدت مثلًا جسيمًا واتجاه دورانه للأعلى، فستعلم أن الجسيم الذي يتشابك معه سيكون اتجاه دورانه للأسفل.

قد تتشابك الكثير من الجسيمات مع بعضها، لذا فإن الحواسيب الكمومية التي تعرف حالة جسيم واحد ستعرف حالات جميع الجسيمات التي تتشابك معه في آنٍ واحد، ما يمنحنا المزيد من البيانات لكل عملية استعلام. الحواسيب الكمومية تستطيع حل المشكلات بسرعة أكبر بنفس كمية الطاقة التي تستهلكها الحواسيب الكلاسيكية نتيجة لقدرتها على اختبار الكثير من النتائج في آنٍ واحد.

في عام 1994، قدم الفيزيائي بيتر شور خوارزمية أظهرت أن المشكلة التي يستغرق الحاسوب الكلاسيكي مليارات السنين لحلها (تحليل الأعداد الكبيرة إلى عواملها الأولية) تستطيع الحواسيب الكمومية إكمالها خلال أيام قليلة، يعتقد دويتش أن خوارزمية شور هي دليل على أن الحواسيب الكمومية تتفاعل مع أكوان أخرى.

كتب دويتش في كتابه (نسيج الواقع): «عندما تحلل خوارزمية شور عددًا ما باستخدام 10^500أو أضعاف الموارد الحسابية الموجودة في كوننا، فأين حُلل العدد؟

لا يوجد سوى حوالي 10^80 ذرة في الكون المرئي بأكمله، وهو عدد ضئيل جدًا مقارنة بـ 10^500. لذلك إذا كان الكون المرئي هو مدى الواقع المادي، فإن الواقع المادي لن يحتوي على الموارد المطلوبة لتحليل مثل هذا العدد الكبير. من الذي حلله إذن؟ كيف وأين أُجري الحساب؟».

لذلك يعتقد دويتش أن الحواسيب الكمومية تحل المشكلات جزئيًا بالتعامل مع الكُموم في الأكوان الأخرى، وتأخذ منها المعلومات وتنقلها إلى هذا الكون. ويشرح تفسير الأكوان المتعددة أن الناس، وليس فقط الجسيمات، ممثلون أيضًا في جميع حالاتهم الممكنة في الكون المتعدد. لذلك ما إن تصبح الحواسيب الكمومية أقوى، وما إن نجد طريقة لرفع وعينا عليها، قد نجد أنفسنا على طريق سريع للوصول إلى ذواتنا الأخرى، أو على الأقل نسخًا منا.

اقرأ أيضًا:

هل يرتبط الوعي البشري بالفيزياء الكمومية؟

الحوسبة الكمومية في طريقها نحو تغيير العالم

ترجمة: خالد عامر

تدقيق: يمنى عيسى

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر