شهد العالم في السنوات الأخيرة انتقال مفهوم الذكاء الاصطناعي إلى واقع تطبيقي ملموس، إذ غدت على إثره التطبيقات المبتكرة في متناول الجميع؛ وبطبيعة الحال سارعت الشركات في ضخ الاستثمارات التنافسية حتى قُدّر الارتفاع في حجم الإنفاق على الذكاء الاصطناعي بما يتجاوز 100 مليار دولار أمريكي من قبل عمالقة التكنولوجيا وعلى رأسهم: غوغل ومايكروسوفت ومؤخرًا OpenAI.

ظهرت بسرعة كبيرة، نتيجة للتنافس الدائر بين الشركات الكبرى، نماذج لغوية ذكية، لكن أغلبها لم ينل القسط الكافي من الاختبارات والمراقبة. لم تكن هذه النماذج اللغوية بدائية إذ سجلت في غالب الأحيان قدرات عالية من التحليل والإجابة بشكل يوافق فكر الإنسان وتجاوزته في بعض الحالات. لم تقتصر تطبيقات الذكاء الاصطناعي على المجالات اللغوية فقط، بل على العديد من النواحي الحياتية فأصبحت قادرة على التفوق في الألعاب الاستراتيجية المتقدمة، وتقديم أعمال فنية عظيمة وتأليف موسيقى جذابة، وحتى تشخيص الأمراض السرطانية. وبالنظر إلى كل تطبيقات الذكاء الاصطناعي هذه نتيقن جدارتها بالغة الدقة في تقديمها قدرة تعبيرية عالية تتسم بالذكاء. لكن السؤال المطروح هنا عن نوعية هذا الذكاء ومدى قربه من الذكاء الذي يمتاز البشر به.

يجدر الإشارة إلى مصطلح مرافق للذكاء الاصطناعي وهو ما يُسمى بـ الذكاء الاصطناعي العام – artificial general intelligence) أو ما يُرمّز اختصارًا AGI وهو مصطلح فضفاض لتبسيطه يمكن اعتباره منح القدرات الإدراكية البشرية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. يُوصّف بكلمات أكثر تعبيرًا بأنه العتبة التي يتمكن بها الذكاء الاصطناعي من معالجة أي أمر أو قضية بطريقة أشبه بالبشر.

مقارنة بما آلت إليه تطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية، لا يمكن القول بأنّ الذكاء الاصطناعي العام قد أبصر النور. فما تزال نماذج الذكاء الاصطناعي غير ذكية بالقدر الذي يتسم به البشر وخاصةً في المجالات الإبداعية الحقيقية والوعي العاطفي.

تعقيبًا على هذه القضية، وُجه سؤال لخمسة خبراء عن رأيهم في بلوغ الذكاء الاصطناعي مستوى الذكاء الاصطناعي العام، واتفقوا كلهم بالإجابات المؤكدة على الأمر. لكن ما تبايّن بآرائهم هو عن طريقة مقاربة البلوغ لذاك المستوى. وأتى في خضم تعقيبهم عدة أسئلة كانت تتراوح مضامينها بما يشغل الرأي العام بقضايا الذكاء الاصطناعي، فمنها ما تعلق بزمن الوصول إلى مستوى الذكاء الاصطناعي العام، ومنها عن إمكانية وكيفية تخطي الذكاء الاصطناعي العام مستوى الذكاء البشري. وهنا إجاباتهم

1. بول فرموزا

يختص فرموزا بالذكاء الاصطناعي وفلسفة التكنولوجيا، يقول إجابةً على السؤال: «أنجز الذكاء الاصطناعي العديد من المهام التي تتطلب في حلّها ذكاءً بشريًا وأبدى مسبقًا قدرات عظيمة في العديد من المجالات من بينها بالألعاب الاستراتيجية مثل Go، الشطرنج، StarCraft، وكذلك لعبة Diplomacy. ولوحظت براعته في الأداءات اللغوية عبر كتابة مقالات قُبلت في برامج جامعية كثيرة».

يضيف: «بالطبع، فالذكاء الاصطناعي كما الإنسان يختلق أشياء غير صحيحة، إذ أبدى بعضًا من الهلوسات والتعقيبات على أمور وُسمت بعدم الدقة بطريقة أو أخرى. لن يعوز أمر تبدّله إلى الذكاء الاصطناعي العام -مستوى ذكاء الإنسان- غير الوقت اليسير. وعند بلوغه التام لتلك المرحلة سينبغ بحذاقة الذكاء البشري في الكثير من الجوانب. ولكن ولغاية الآن فلا يوجد داعٍ للقلق، فعبر إنجازاته المُلاحظة، يمكن الاستدلال بأنه غير قادر على إدراك ما يجول حوله، وهنا يسعنا القول بإنّه غير واعٍ. لكن يُستأهل توضيح فكرة الذكاء وعدم اقتضاؤها للوعي؛ وذلك كون الذكاء يمكن تفهّمه في شروط وظيفية. بكلمات مُعبرة عن صفة الذكي، يمكن القول بإنّ أي كيان قادر على التعلّم، والاستدلال، كتابة مقالات، وحتى استخدام الأدوات المختلفة في إنجاز المهام».

يختتم كلامه بالقول: «لم تكن الصناعة الحالية والسابقة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي تتسم بالوعي، ولكن هي بشكل كبير قادرة على أداء مهام ذكية. وحتى في بعض الحالات، تنجز تلك المهام بمعزل عن البشر. ومن الواضح استمرارها على هذا المنوال».

2. كريستينا ماهر

تتخصص كريستينا بمجالي علوم الأعصاب الحوسبية والهندسة الطبية الحيوية. وفي سؤالها عن رأيها علقت على الموضوع بقولها: «سيبلغ الذكاء الاصطناعي مرحلة الذكاء البشري حتمًا، ولكن ليس قريبًا. من المعروف بأن قدرة الذكاء البشري تتجلى في القدرات الاستدلالية، وحلّ المشكلات، وكذلك اتخاذ القرارات.

تستلزم تلك القدرة مهارات إدراكية مثل: التأقلم والذكاء الاجتماعي والتعلّم من الخبرات. الأمر الذي لم يتعسر على الذكاء الاصطناعي اعتباره، ولكن ما يزال قاصرًا في نواحٍ بشرية مثل أمور الاستدلال النقدي وكذلك فهمه للمشاعر والتصرّف بناءًا على ذلك آنيًا».

تتابع: «ميزتنا نحن البشر هي قدرتنا على التعلّم واكتساب الخبرات من التجارب بدءًا من وقت ولادتنا. من الصعب استذكار أولى تجارب السعادة التي انتابتنا في حياتنا. إضافة إلى ذلك، نحن نتعلّم الاستدلال النقدي والتحكّم بمشاعرنا منذ طفولتنا بغية تطوير إحساس يوافق مشاعرنا لدى تفاعلاتنا الحياتية المختلفة مع الوسط المحيط. ولهذا يمكن القول بإن الدماغ البشري يأخذ العديد من السنين حتى يُطوّر ويُؤهّل الذكاء. ومقارنةً مع الذكاء الاصطناعي فهو لا يمتلك تلك القدرة بعد. ولكن باعتباره مبدأً لمحاكاة الذكاء البشري فهذا لن يستحيل عليه. لغاية الآن كل ما جرى هو استكشاف لقدرات نماذج الذكاء الاصطناعي فقط التي تعوز عمليات تدريب مسبقة للتفاعل معها وتسجيل تلك التجارب. والسؤال بالغ الأهمية هو ليس عن إمكانية وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى الذكاء البشري، بل متى سيصل وكيف؟».

3. سيدالي ميرجاليلي

يُعتبر ميرجاليلي خبيرًا في الذكاء الاصطناعي وذكاء السرب. وكان جوابه على السؤال كما يلي: «أستطيع الجزم بأن الذكاء الاصطناعي سيتفوق على الذكاء البشري مستقبلًا؛ لأن الماضي كان حافلًا بالأدلة التي من الصعب إنكارها. فالكثير من الناس اليوم يعتقدون بأن المهام مثل: ألعاب الحاسب والتعرّف على الصور وصناعة المحتوى هي حكر على البشر وبدوره لا يستطع الذكاء الاصطناعي إنجازها، على عكس التجارب التقنية التي أثبتت عدم صحة اعتقادهم. اليوم ومع التسارع التقني الذي رافقه تأقلم بشري مع الكثير من خوارزميات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى غزارة ووفرة المصادر الحسابية المولّدة للبيانات، فكل ذلك ساهم بالبلوغ إلى مستوى آلي وذكي غير مسبوق. وعند المضي قدمًا على هذا المنوال وبامتلاك ذكاء اصطناعي أكثر عمومية الذكاء الاصطناعي العام، سنستيقظ مستقبلًا على واقع يغدو فيه الذكاء الاصطناعي متفوقًا على نظيره البشري حتمًا».

يضيف: «إنّها لا تعدو أكثر من كونها مسألة وقت. فلقد طُوّرت خوارزميات تزيد من احتمالية التفوق على الذكاء البشري، لكنها ما انفكت وغفلت عن أمور يُوسّم بها الذكاء البشري مثل: الحدّس، التعاطف، الإبداع. لكن ما نشهده من تطوّر خوارزميّ سيجعل منها حقيقةً لا محالة. علاوة على ما سبق، سيبدأ تأثير كرة الثلج لحظة وصول الذكاء الاصطناعي مرحلة القدرات المعرفية البشرية، ولن يمضي سوى فترة وجيزة وستمسي أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على تطوير أنفسها بدون تدخل بشري أو بأقل الحاجة إليه، وهذا ما يُعرف بكونه «ذكاء التحكّم». ما يزال الذكاء الاصطناعي تحديًا ذو خصوصية، وهذا يتضمن وجود آثار اجتماعية وأخلاقية يُستوجب عنونتها بدقة عالية ولاسيما في المرحلة القادمة».

4. دانا ريزازاديغن

تُعرّف ريزازاديغن بأنّها خبيرة في علم البيانات والذكاء الاصطناعي، وأجابت على السؤال المطروح بقولها: «بالتأكيد، بطريقة أو بأخرى سيصبح الذكاء الاصطناعي ذكيًا بنفس مقدار نظيره البشري. عندها سيُحدد بدقة مدى ذكاءه اعتمادًا على مدى التقدم في الحوسبة الكمومية. ينفرد الذكاء البشري بغرابته وتعقيده البعيدين كل البعد عن البداهة. فلديه الكثير من الجوانب معقدة التركيب مثل: الذكاء العاطفي، الحدّس، والإبداعية. وبدوره يسعى الذكاء الاصطناعي جاهدًا في عمليات المحاكاة لكن لغاية الآن لم يتمكن من تقليده بشكل تام. ولكن ما يمكننا قوله بإنّه سينجح يومًا ما. يقتصر تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية على مجموعات بيانات منحازة وصغيرة نسبيًا، إضافة إلى محدودية الموارد الحسابية. وهنا تظهر الثورة التقنية المرتقبة «الحوسبة الكمومية» التي ستنتشل التقنية الحالية من مشكلاتها وتضع الذكاء الاصطناعي في موضع مختلف إيجابًا. بوساطة الذكاء الاصطناعي الكمومي سيغدو تدّريب النماذج على العديد من مجموعات البيانات بالغة الضخامة بمقاربة أشبه لآلية عمل الدماغ البشرية عند تفاعلها مع الوسط المحيط وبفاعلية ودقة كبيرتين».

تضيف: «سينجم عن تحقيق تلك المرحلة المتقدمة من التعلّم المستمر ظهور تطورات كبيرة على مستوى تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حتى وأنّه بعد فترة وجيزة ستصبح تلك الأنظمة قادرة على القيام بمهامها والتطور دون الحاجة لأي تدخل بشري. عند تنفيذ خوارزميات الذكاء الاصطناعي على حواسيب كمومية مستقرة، سيكون لديها فرصة كبيرة للتعميم والوصول لمستوى الذكاء البشري على الأقل في الكثير من الجوانب المهمة».

5. مارسيل سكارث

سكارث هو خبير ذكاء اصطناعي وتحديدًا تعلّم آلي، يعبر عن رأيه بالموضوع قائلًا: «يمكنني القول أنّ هناك احتمال كبير بأنّ نشهد تطور الذكاء الاصطناعي إلى الذكاء الاصطناعي العام في وقت ما مستقبلًا، وعندها يصبح التفوّق على الذكاء البشري أمرًا واقعًا لا مفر منه. يُعدّ ذكاء البشر نموذجًا منفردًا ودليلًا على سماحية قوانين الفيزياء بالمرونة والتأقلم السريع. وليس هناك ريب بقدرة الآلات على تقديم نماذج حوسبة قادرة على إنجاز ما يقوم الإنسان به عند حل المشاكل. يتفرد الذكاء الاصطناعي بالعديد من المزايا ذات الخصوصية العالية مثل: السرعة وسعة الذاكرة، القيود الفيزيائية المحدودة، وكذلك القدرة على الإصلاح والتطوير الذاتي المتكرر. لكن عند زيادة القدرة الحوسبية يمكن لأنظمته التفوّق واجتياز الذكاء الاصطناعي».

يضيف على كلامه مختتمًا: «إنّ التحدي الأول لنا هو في كيفية تعريفنا مبدأ الذكاء وكذلك المعرفة بكيفية تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي العام. إذ إنّ أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تعاني العديد من القصور، حتى أنّها بعيدة كل البعد عن أنظمة ال الذكاء الاصطناعي العام. وغالبًا ما سيستوجب الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام حدوث خروقات وابتكارات غير مألوفة. تُقدم منصة التوقع Metaculus تكهنات بخصوص الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام سيحدث عام 2032.

بالنسبة لي فأنا أراه نموذجًا متفائلًا للغاية وما هو أكثر عقلانية منه في رأيي هي نتائج استبيان أُجري عام 2022 بين أوساط خبيرة، قُدّر على إثره إمكانية الوصول للمستوى الذكاء الاصطناعي العام بحلول 2059».

اقرأ أيضًا:

عمالقة التكنولوجيا يطالبون بوقف تجارب الذكاء الاصطناعي لما تمثله من خطر كبير على المجتمع!

هل بالإمكان السيطرة على الذكاء الاصطناعي الفائق؟

ترجمة: علي الذياب

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر