بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، اختُطِف كثير من الناس من قارة إفريقيا وأجبروا على العبودية وعلى العمل في المستعمرات الأمريكية خدمًا وعمَّالًا بالسخرة في إنتاج محاصيل كالتبغ والقطن. وفي منتصف القرن التاسع عشر أشعل كل من التوسع غربًا وحركة المطالبة بإلغاء العبودية جدلًا كبيرًا حول العبودية، ما أدى إلى إدخال الأمة في أتون حرب أهلية مدمرة. ومع أن انتصار الشمال في الحرب الأهلية قد حرر أربعة ملايين إنسان كانوا تحت نير العبودية، فقد استمر إرث العبودية وتاريخها بالتأثير في التاريخ الأمريكي بدايةً من عصر إعادة البناء وحتى حركة الحقوق المدنية التي ظهرت بعد قرن من تحرير العبيد.

متى بدأت العبودية؟

لقد ساعد مئات الألوف من الأفارقة أحرارًا ومستعبَدين في تأسيس المستعمرات في الأمريكيتين والعالم الجديد واستمرارها. يرى الكثيرون أن تاريخ بداية العبودية في أمريكا يعود إلى العام 1619، عندما جلب القرصان وايت ليون 20 عبدًا إفريقيًّا من سفينة العبيد البرتغالية ساو جاو باوتيستا إلى الساحل في مستعمرة جيمس تاون البريطانية في فرجينيا.

بدأ المستوطنون الأوربيون في القرن السابع عشر في أمريكا الشمالية باستعباد الأفارقة، وعدّوهم مصدرًا وفيرًا للعمالة، وأرخص من عمال السخرة الذين كان معظمهم من الفقراء الأوربيين.

ومع استحالة تقديم أرقام دقيقة، يُقَدِّر بعض المؤرخين أن نحو 6-7 ملايين إنسان مستعبَد قد جُلبوا إلى العالم الجديد في القرن الثامن عشر فقط، ما حرم القارة الإفريقية من خيرة رجالها ونسائها.

في القرنين السابع والثامن عشر عمل الأفارقة المُستعبَدون في زراعة التبغ والأرز واستنبات النيلة في الساحل الجنوبي لمستعمرات خليج تشيس بيك في ميرلاند وفرجينيا وجورجيا جنوبًا.

بعد الاستقلال الأمريكي بدأت الكثير من الولايات -خاصةً الشمالية منها حيث لم تُعد العبودية ضروريةً للاقتصاد الزراعي- بربط الظلم الممارَس على المستعبَدين الأفارقة بالظلم الذي قاسوه على أيدي البريطانيين، ومن ثم المطالبة بإنهاء الرق.

اعترف دستور الولايات المتحدة الجديد بعد حرب التحرير بمؤسسة العبودية، معتبرًا أن كل فرد مُستعبَد يساوي ثلاثة أخماس الفرد الحر، وذلك فيما يتعلق بالضرائب والتمثيل في الكونجرس، مع ضمان الحق في استعادة ملكية أي شخص مُقيد بخدمة أو عمل، في عبارة ملطفة -وإن كانت واضحة- بدلًا من لفظة «العبودية».

حلج القطن

في أواخر القرن الثامن عشر، ومع إنهاك الأرض في زراعة التبغ، واجه الجنوب أزمةً اقتصادية، وبات نمو العبودية المستمر في أمريكا موضع شك.

شهدت الفترة نفسها ميكنة صناعة النسيج في إنجلترا، التي نتج عنها طلب كبير على القطن الأمريكي، الذي كان إنتاجه في الجنوب محدودًا لصعوبة إزالة البذور عن ألياف القطن الخام يدويًا.

سنة 1793 اخترع مدرس شاب من الشمال يدعى إيلي وايتني محلاج القطن، وهو جهاز آلي يزيل البذور بفعالية وكفاءة. انتشر جهازه انتشارًا كبيرًا، وفي سنوات قليلة تحول الجنوب من إنتاج التبغ على نطاق واسع إلى إنتاج القطن، ما كان نقلةً نوعيةً من شأنها تعزيز اعتماد الإقليم على العمالة المستعبَدة.

لم تنتشر العبودية في الشمال، مع أن العديد من رجال الأعمال قد أصبحوا أثرياء بفضل تجارة العبيد والاستثمارات في زراعة الجنوب.

بين عامي 1744 و1804 كانت جميع الولايات الشمالية قد منعت العبودية، لكن بقيت مؤسسة العبودية بالغة الأهمية للجنوب.

ومع أن الكونجرس الأمريكي قد حظر تجارة الرقيق سنة 1808، فقد ازدهرت التجارة محليًّا، وتضاعف عدد السكان المستعبَدين في الولايات المتحدة ثلاث مرات تقريبًا خلال خمسين عامًا التالية. بحلول عام 1860 وصل عدد العبيد إلى قرابة 4 ملايين، يعيش أكثر من نصفهم في الولايات المنتجة للقطن في الجنوب.

تاريخ العبودية

شكَّل المستعبَدون فترة ما قبل الحرب نحو ثلث التعداد السكاني في الجنوب، وعاش أكثرهم في المزارع. امتلك الكثير من السادة أقل من خمسين عبدًا.

سعى المُستعبِدون لجعل عبيدهم معتمدين عليهم اعتمادًا كاملًا عبر نظام من القواعد المتشددة، إذ كانوا عادة ما يمنعون العبيد من تعلّم القراءة والكتابة، إضافةً إلى تقييد حركتهم وسلوكهم.

اغتصب العديد من السادة النسوة المستعبَدات، وكافؤوا العبيد المطيعين بحوافز وهدايا، في حين أنزلوا أشد العقاب بالعبيد المتمردين. ساعد هيكل تنظيمي هرمي متشدد من العبيد -تبدأ هذه المنظومة من عمال البيوت ذوي الامتيازات والحرفيين المهرة نزولًا إلى الأيدي العاملة الدنيا في الحقول- على إبقاء المُستعبَدين متفرقين وأقل قدرة على تنظيم أنفسهم في مواجهة السادة.

لم يكن الزواج بين الرجال والنساء المستعبَدين قانونيًا، مع هذا تزوج الكثير منهم وأنشؤوا عائلات كبيرة. وقد شجع أغلب مالكي العبيد هذه العادة، لكنهم بالمقابل لم يترددوا في تقسيم العائلات ببيع أفراد منها أو التفريق بينهم.

العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية، لمحة تاريخية - ما هو تاريخ العبودية في أمريكا وكيف انتهت - إرث العبودية وتاريخها وتأثيرها في التاريخ الأمريكي

تمرد العبيد

اندلعت انتفاضات عدَّة بين العبيد، كان أشهرها التي قادها جابرييل بروسير في ريتشموند عام 1800 والتي قادها دينمارك فيسي في تشارلستون عام 1822، لكن لم يُكتَب النجاح إلا للقليل منها.

كان أكثر التمردات إقلاقًا للمستعبِدين الذي قاده نات تيرنر في مقاطعة ساوثهامبتون في فيرجينيا، ففي أغسطس 1831 قتلت جماعة تيرنر التي ناهز عددها 75 رجلًا أسود نحو 55 شخصًا أبيض في يومين، قبل أن تسحقهم مقاومة مسلحة تشكلت من السكان البيض المحليين وقوات الميليشيا الحكومية.

أشار داعمو العبودية ومؤيدوها إلى تمرُّد تيرنر بوصفه دليلًا على أن السود أناس منحطون ومتوحشون بالفطرة، ما يتطلب وجود مؤسسة مثل العبودية لضبطهم. ونتج عن المخاوف من ثورات مماثلة تشديد الكثير من الولايات الجنوبية القوانين والقواعد الخاصة بالعبودية، بهدف الحد من تثقيف السكان المستعبَدين وحركتهم واجتماعاتهم.

الحركة المعارضة للرق

زاد القمع المتزايد للسكان السود في الجنوب من النشاط المتنامي لحركة المطالبة بإلغاء الاسترقاق في الشمال.

بين عامي 1830 و1860 اكتسبت هذه الحركة المطالِبة بإنهاء العبودية في أمريكا مزيدًا من القوة، وقادها سود محررون مثل فريدريك دوغلاس، وداعمون بيض مثل ويليام لويد جاريسون مؤسس صحيفة «المحرر» الثورية، وهارييت بيتشير ستو التي نشرت الرواية الأكثر مبيعًا المناهضة للعبودية «كوخ العم توم».

في حين أرجع الكثير من المناهضين للعبودية نشاطهم إلى كون هذا الكيان خطيئة، مال آخرون إلى حجة أن العمل يجب أن يكون حرًّا دون ربطه برؤية أو تأويل ديني، وقالوا إن العبودية مجحفة وظالمة وغير فعَّالة وأثرها اقتصاديًا لا يُذكر.

في بدايات ثمانينيات القرن الثامن عشر بدأ السود الأحرار والشماليون المناهضون للعبودية بمساعدة المستعبَدِين على الهروب من المزارع الجنوبية إلى الشمال عبر شبكة واسعة من البيوت الآمنة. هذه الطريقة المعروفة بأنفاق السكك الحديدية اكتسبت زخمًا كبيرًا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

ساعد قادة مثل هارييت تابمان على إرشاد الهاربين وتوجيههم في رحلتهم إلى الشمال، وكان من مديري هذه السكك شخصيات بارزة مثل فريدريك دوغلاس ووزير الخارجية ويليام ه. سيوارد وعضو مجلس النواب عن ولاية بنسلفانيا ثاديوس ستيفنس. تختلف التقديرات اختلافًا كثيرًا، وتبين الأرقام أن هذه السكك قد ساعدت نحو 40 – 100 ألف مستعبَد على اكتساب حريتهم.

ساعد نجاح «أنفاق السكك الحديدية» على نشر المشاعر المناهضة للعبودية في الشمال، ما زاد التوتر بين الشمال والجنوب، إذ بيّن لمؤيدي العبودية الجنوبيين عزم رجال الدولة الشماليين على إنهاء المؤسسة التي تدعمهم وتساعد على استمرارهم.

تسوية ميزوري

خلق النمو الأمريكي الهائل والتوسع غربًا في النصف الأول من القرن التاسع عشر مسرحًا أكبر للصراع المتنامي حول العبودية وتوسع البلاد وتوقف نموها المستقبلي.

سنة 1820 انتهى نقاش حاد حول حقوق الحكومة الفيدرالية بتقييد العبودية بتسوية إثر طلب ميزوري أن تصبح ولاية، فقد أقر الاتحاد ميزوري بوصفها ولاية تسمح بالعبودية، أما مين فقد أُقرت بوصفها ولايةً خالية من العبودية، إضافةً إلى جميع المناطق الغربية شمال الحدود الجنوبية لميزوري، إذ كانت أراضيَ حرة لا تسمح بالعبودية.

مع أن هدف تسوية ميزوري كان إيجاد توازن بين الولايات التي تسمح بالعبودية والتي لا تسمح بها، فقد ساعدت على كبح جماح قوى التعصب الإقليمي مؤقتًا.

قانون كانساس-نبراسكا

سنة 1850 تفاوض الطرفان على تسوية هشة أخرى لحل مسألة العبودية في المناطق التي اكتسبتها أمريكا في أثناء الحرب المكسيكية الأمريكية.

بعد أربع سنوات، فتح قانون كانساس-نبراسكا الباب أمام جميع المناطق الجديدة لتسمح بالعبودية بتأكيد حق السيادة الشعبية على القرار الفيدرالي، ما أدى إلى صراع بين القوى المؤيدة للعبودية والمناهضة لها في ولاية كانساس الناشئة حديثًا.

أدى الغضب في الشمال على خلفية قانون كانساس-نبراسكا إلى سقوط الحزب اليميني القديم وولادة حزب شمالي جديد هو الحزب الجمهوري. سنة 1857 ألغى قرار دريد سكوت الذي اتخذته المحكمة العليا تسوية ميزوري، ومن ثم الحكم بالسماح بالعبودية في جميع المناطق، وقد جاء هذه القرار على خلفية مقاضاة رجل أسود لسيده ليمنحه الحرية على أساس اصطحاب السيد إياه إلى أرض لا تسمح بالعبودية.

غارة جون براون على عبَّارة هاربر

سنة 1859، عامين بعد قرار دريد سكوت، حدث أمر من شأنه أن يلهب المشاعر في جميع أرجاء الأمة على خلفية قضية العبودية.

حدثت هذه الغارة في ولاية فرجينيا بقيادة المناهض للعبودية جون براون و22 رجلًا من بينهم خمسة رجال سود وثلاثة من أبناء براون. أغار هؤلاء على مخزن أسلحة فيدرالي، ونتج عن الهجوم مقتل عشرة أشخاص وشنق براون.

عمَّق هذا التمرد الخلاف بين الطرفين، إذ مدح المناوئون للعبودية الشماليون براون وعدوه شهيدًا، في حين ندد الجنوبيون به وعدُّوه سفاحًا.

الحرب الأهلية

بلغ الجنوب نقطة الانهيار في السنة التالية إثر انتخاب المرشح الجمهوري أبراهام لينكولن رئيسًا، فخلال ثلاثة أشهر انسحبت سبع ولايات من الاتحاد، تبعتها أربع ولايات أخرى بعد اندلاع الحرب الأهلية.

مع أنه كان من الواضح أن لينكولن لا يقر العبودية، لم يكن إلغاء العبودية الهدف الجوهري للاتحاد في الحرب، بل الحفاظ على الولايات المتحدة بوصفها أمةً واحدة.

لاحقًا أصبح إلغاء العبودية هدفًا، نظرًا إلى الحاجة العسكرية وتنامي المشاعر المناوئة للعبودية شمالًا والتحرر الذاتي من العبودية لدى الكثيرين مع اجتياح قوات الاتحاد للجنوب.

متى انتهت العبودية؟

في 22 سبتمبر 1862 سنَّ لينكولن بيانًا أوليًّا حول إعتاق العبيد، وفي 1 يناير 1863 صار هذا القانون رسميًّا وقال: «إن العبيد في أي ولاية أو في جزء معين من ولاية متمردة سيكونون من الآن فصاعدًا أحرارًا إلى الأبد».

حرم هذا الإعلان الولايات الكونفدرالية من معظم قواها العاملة، وذلك بتحرير قرابة 3 ملايين إنسان مُستعبَد في الولايات المتمردة، واكتساب الرأي العام العالمي في صف الاتحاد.

ومع أن إعلان التحرير لم ينهِ العبودية بالكامل في أمريكا -إذ سيُمرَّر التعديل الثالث عشر بعد نهاية الحرب عام 1865- فإن نحو 186 ألف جندي أسود سينضمون إلى جيش الاتحاد، وسيفقد قرابة 38 ألف منهم حياته.

إرث العبودية

أقر التعديل الثالث عشر -18 ديسمبر 1865- رسميًّا قرار إلغاء العبودية، لكن ظلت حالة السود في الجنوب بعد الحرب غير مستقرة، وواجهت الولايات المتحدة تحديات بالغة الأهمية في فترة إعادة الإعمار.

ضمَن الدستور حصول الرجال والنساء المستعبَدين سابقًا على حقوق المواطنة والحماية المتساوية في التعديل الرابع عشر، وحق التصويت في التعديل الخامس عشر، ولكن نادرًا ما طُبقَت هذه الأحكام من الدستور، وكان من الصعب على المواطنين السود الحصول على فرصة في اقتصاد ما بعد الحرب بسبب القوانين المقيدة والترتيبات التعاقدية الرجعية مثل المشاركة في المحصول.

ومع وجود أحداث غير مسبوقة، تجلَّت في مشاركة السود في الحياة السياسية الأمريكية، فإن فترة إعادة الإعمار كانت عمومًا محبطة للأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي، فقد عادت إلى السطح مجددًا الحركة المنادية بتفوق العرق الأبيض، وصعود المنظمات العنصرية مثل كو كلوكس كلان في الجنوب عام 1877.

بعد نحو قرن من الزمان، ستتمخض عن مقاومة العنصرية والتمييز في أمريكا التي بدأت في أثناء عصر العبودية حركة الحقوق المدنية في الستينيات، التي ستحقق للسود الأمريكيين أكبر المكاسب السياسية والاجتماعية منذ إعادة الإعمار.

اقرأ أيضًا:

يعود نجاح مسلسل صراع العروش لاعتماده على نظرية الشبكات، فما هي؟

دراسة للحمض النووي تكشف التاريخ المروع لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: محمد الصفتي

مراجعة: أكرم محيي الدين

المصدر