يستعمل الناس مصطلح العصور الوسطى لوصف أوروبا في الفترة ما بين سقوط روما سنة 476 ميلادية، وبداية عصر النهضة في القرن الرابع عشر.

ولادة فكرة

تخبرنا عبارة العصور الوسطى عن عصر النهضة الذي تلاها أكثر مما تخبرنا عن فترة العصور الوسطى نفسها. ابتداء من القرن الرابع عشر، بدأ المفكرون والكتّاب والفنانون الأوروبيون بالنظر إلى الماضي والاحتفال بفن وثقافة اليونان القديمة وروما، فرفضوا، بناء على ذلك، الفترة التي تلت سقوط روما بوصفها جزءًا من العصور الوسطى أو من العصور المظلمة، إذ لم ينجز أي إنجاز علمي ولم يظهر أي فن عظيم، ولم يولد قادة عظماء. بددت شعوب العصور الوسطى التقدم الذي حققه أسلافهم، وأغرقوا أنفسهم بدلًا من ذلك في ما وصفه المؤرخ الإنكليزي إدوارد جيبون في القرن الثامن عشر بالبربرية والدين.

سادت طريقة التفكير هذه عصر ما قبل سقوط روما وبداية عصر النهضة حتى وقت قريب نسبيًا. مع ذلك، يقول باحثو اليوم إن تلك الفترة كانت معقدة ونابضة بالحياة مثل أي فترة أخرى.

الكنيسة الكاثوليكية:

بعد سقوط روما، لم توحد أية دولة أو حكومة الشعوب التي عاشت في أوروبا. بل أصبحت الكنيسة الكاثوليكية المؤسسة الأقوى في فترة العصور الوسطى. استمد الملوك والقادة أكثر قوتهم من تحالفاتهم مع الكنيسة وحمايتها.

سنة 800 ميلادية، مثلًا، أطلق البابا ليون الثالث تسمية «إمبراطور الرومان» على ملك الفرنجة شارلمان، وهو الإمبراطور الأول منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية قبل 300 سنة. بمرور الوقت، أصبحت إمبراطورية شارلمان، إمبراطورية الرومان العظيمة، واحدة من الكيانات السياسية في أوروبا التي تنحاز مصالحها إلى مصالح الكنيسة الكاثوليكية.

اضطر الناس العاديون عبر أوروبا إلى دفع ضريبة تمثل 10% من دخلهم السنوي للكنيسة، في حين كانت الكنيسة معفاة من الضرائب. ساعدت هذه السياسات الكنيسة على جمع الكثير من الأموال والسلطة.

صعود الإسلام

في تلك الأثناء، كان العالم الإسلامي يزداد حجمًا وقوة. فتحت الجيوش الإسلامية أجزاء واسعة من الشرق الأوسط، موحدة إياهم تحت حكم خليفة واحد. في ذروة قوته، كان العالم الإسلامي أكبر بثلاثة أضعاف من العالم المسيحي كله.

تحت حكم الخلفاء، عززت مدن مثل القاهرة وبغداد ودمشق حياة فكرية وثقافية نابضة بالحياة.كتب الشعراء والعلماء والفلاسفة آلاف الكتب على الورق، وهو اختراع صيني وصل إلى العالم الإسلامي في القرن الثامن. وترجم الباحثون النصوص اليونانية والإيرانية والهندية إلى العربية. ابتكر المخترعون تقنيات آلة التصوير ذات الثقوب والصابون وطواحين الهواء والأدوات الجراحية وآلة طيران بدائية ونظام الأرقام الذي نستخدمه اليوم. قام علماء الدين والمتصوفون بترجمة وتفسير وتعليم القرآن الكريم وغيره من النصوص المقدسة للناس في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

الحملات الصليبية

في نهاية القرن الحادي عشر، بدأت الكنيسة الكاثوليكية تجيز القيام بالحملات العسكرية، الحملات الصليبية لطرد المسلمين -الكفار حسب رأيهم- من الأراضي المقدسة. آمن الصليبيون، الذين ارتدوا معاطف عليها صلبان حمراء تعلن عن توجههم، بأن خدمتهم العسكرية تضمن خلاصهم من الخطايا وأنهم سيعيشون الحياة الأخرى في ملكوت السماء، وحصلوا أيضًا على مكافآت دنيوية مثل حماية ممتلكاتهم والإعفاء من بعض دفعات القروض.

بدأت الحملات الصليبية عام 1095، عندما جمع البابا جيشًا مسيحيًا حضريًا من أجل القتال للوصول إلى القدس، واستمرت الحملات متقطعةً حتى القرن الخامس عشر. عام 1099، سيطرت الجيوش المسيحية على القدس، وبدأ الحجاج من أوروبا الغربية يزورون الأراضي المقدسة، غير أنهم تعرضوا للقتل والسرقة خلال رحلتهم وهم يعبرون مناطق سيطرة المسلمين.

نحو عام 1118، أنشأ فارس فرنسي يدعى هوغو دو باينز جماعة عسكرية مع ثمانية من أقاربه ومعارفه، أصبحت لاحقًا «فرسان الهيكل»، وكسبوا في نهاية المطاف دعم البابا وسمعة أنهم مقاتلون مخيفون. شهد سقوط عكا سنة 1291 تدمير آخر ملجأ صليبي في الأراضي المقدسة، وحلّ البابا كليمنت الخامس جماعة فرسان الهيكل عام 1312.

لم ينتصر أحد في الحملات الصليبية. في الحقيقة، خسر آلاف الأشخاص من الطرفين حياتهم. جعلت الحملات الصليبية المسيحيين الكاثوليكيين العاديين عبر العالم المسيحي يشعرون أن لديهم هدفًا مشتركًا، وألهمت موجات من الحماس الديني بين الناس الذين لولا ذلك كانوا سيشعرون بالابتعاد عن الكنيسة الرسمية. وعرّضت الصليبيين أيضًا للأدب والعلوم والتقنيات الإسلامية، ما كان له تأثير دائم في الحياة الفكرية الأوروبية.

الفن والعمارة

وُجدت طريقة أخرى لإظهار الإخلاص للكنيسة، وهي بناء كاتدرائيات كبيرة وغيرها من الكنائس والأديرة. كانت الكاتدرائيات أكبر الأبنية في أوروبا خلال العصور الوسطى ووُجدت في مراكز البلدات والمدن عبر القارة. كانت الكاتدرائيات الرومانية كبيرة ومتينة. ولها أقواس مدورة وقناطر تدعم السقف وجدران حجرية ونوافذ. من أمثلة العمارة الرومانية كاتدرائية بورتو في البرتغال وكاتدرائية سبير في ألمانيا.

نحو عام 1200، بدأ بناة الكنائس باعتناق طراز جديد للعمارة هو الطراز القوطي. تمتلك الأبنية القوطية -مثل كنيسة آبي في سان دوني في فرنسا وكاتدرائية كانتربري في إنجلترا- نوافذ زجاجية ملونة وقبابًا وأقواسًا مدببة -مستوحاة من العمارة الإسلامية- وأبراجًا وأعمدة داعمة. تبدو الأبنية القوطية خفيفة الوزن إذا قورنت بالأبنية الرومانية الثقيلة.

اتخذت الفنون الدينية في العصور الوسطى أشكالًا أخرى أيضًا. زينت الفسيفساء والموزاييك داخل الكنيسة، ورسم الفنانون صورًا تعبدية لمريم العذراء والسيد المسيح والقديسين.

كانت الكتب نوعًا من الفن قبل اختراع الصحافة المطبوعة. أنشأ الحرفيون في الأديرة ولاحقًا في الجامعات مخطوطات مزخرفة، كتبًا مقدسة ودنيوية مصنوعة يدويًا مع رسوم ملونة وأحرف ذهبية وفضية وزخارف أخرى.

كانت الأديرة من الأماكن القليلة التي استطاعت فيها المرأة الحصول على تعليم عال، وقامت الراهبات بكتابة المخطوطات وترجمتها وتزيينها أيضًا. بدأ باعة الكتب في المناطق الحضرية تسويق مخطوطات مزخرفة أصغر -مثل كتب الصلوات والمزامير وغيرها- للأثرياء.

احتُفل بالفروسية والحب بقصص وأغاني تروبادور. تتضمن أشهر قصص الأدب في العصور الوسطى أغنية رولاند وأغنية هيلدبراند.

الموت الأسود (الطاعون):

بين عامي 1347 و1350، قتل وباء غامض عُرف باسم الموت الأسود -الطاعون الدبلي- نحو 20 مليون شخص في أوروبا، أي 30% من السكان. كان الوباء قاتلًا خاصةً في المدن، لصعوبة منع انتقال المرض من شخص إلى آخر.

بدأ الطاعون بالانتشار في أوروبا عام 1347، عندما رست 12 سفينة قادمة من البحر الأسود في ميناء ميسينا في صقلية، كان معظم البحارة أمواتًا، ومن بقوا على قيد الحياة امتلؤوا بالدمامل السوداء التي رشحت الدم والقيح. شملت الأعراض الحمى والقشعريرة والتقيؤ والإسهال وآلام قوية ثم الوفاة. قد يذهب المريض إلى الفراش ليلًا بصحة جيدة ثم لا يستيقظ صباحًا.

قتل الطاعون البقر والخنازير والماعز والدجاج والغنم ما أدى إلى نقص الصوف في أوروبا. اعتقد بعض الناس أن الطاعون عقاب إلهي بسبب خطاياهم، وأصبح بعض الناس جلادين يجوبون أوروبا ليعرضوا مظاهر التكفير عن الذنب التي قد تتضمن الضرب والجلد. انقلب البعض الآخر على جيرانهم، مطهرين الناس الذين اعتقدوا أنهم هراطقة. قُتل العديد من اليهود عامي 1348 و1349، بينما نزح آخرون إلى مناطق أقل كثافةً سكانية في أوروبا الشرقية.

اليوم، يعرف العلماء أن سبب الطاعون عصية «يرسينيا بيستيس» التي تنتقل عبر الهواء أو بواسطة البراغيث أو الجرذان، التي كانت شائعة في العصور الوسطى خصوصًا على السفن.

المجتمع والاقتصاد

في العصور الوسطى، كانت الحياة في الريف محكومة بنظام وصفه الباحثون بالنظام الإقطاعي. في المجتمع الإقطاعي، وهب الملك أجزاء واسعة من الأراضي –مقاطعات- للنبلاء والأساقفة. قام الفلاحون، الذين لا يملكون أي أراض، بمعظم العمل في المقاطعات، زرعوا وحصدوا المحاصيل وأعطوا معظم الناتج إلى مالك الأرض. سُمح لهم بالمقابل بالعيش على هذه الأراضي، وحصلوا على وعد بالحماية حال حصول غزو من الأعداء.

بدأت الحياة الإقطاعية بالتغير خلال القرن الحادي عشر. جعلت الابتكارات الزراعية -مثل المحراث الثقيل وطريقة استخدام الحقل لزراعة ثلاثة محاصيل- الزراعة أكثر فعالية وإنتاجية، فقلت الحاجة إلى العمال، وبفضل تحسن الإمدادات الغذائية ازداد عدد السكان، وازدادت هجرة الناس إلى المدن والبلدات. ووسعت الحملات الصليبية طرق التجارة نحو الشرق فعرف الأوروبيون السلع المستوردة مثل النبيذ وزيت الزيتون والمنسوجات الفاخرة. مع تطور النظام الاقتصادي، ازدهرت المدن، خصوصًا التي تمتلك مواني. بحلول عام 1300 تجاوز عدد سكان 15 مدينة أوروبية 50 ألف شخص.

وُلد في هذه المدن عصر جديد هو عصر النهضة، فترة تغير فكري واقتصادي، لكنها لم تكن ولادة جديدة بالكامل بل كان لها جذور العصور الوسطى.

اقرأ أيضًا:

العصر الحجري: تاريخ موجز

البانثيون: لمحة تاريخية

ترجمة: بديع عيسى

تدقيق: نور عباس

المصدر