تعلمنا في السنوات الأخيرة الكثير عن مختلف الجهود المبذولة للحد من انتشار الأمراض مثل كوفيد-19، خصوصًا من الجهود العالمية للقاح، ولكن هل تعلم أن للقاح تاريخًا طويلًا ومذهلًا؟

مع إن مبدأ اللقاح يعد تقنية حديثة، فقد استُخدام منذ عدة قرون وتوجد أدلة على أن المبادئ التي يقوم عليها أقدم حتى من ذلك. فما هو اللقاح إذن؟ ومن أين جاءت الفكرة؟

ما هو اللقاح وكيف يعمل؟

عندما تغزو الجسم عضويات مجهرية مؤذية كالبكتيريا أو الفيروسات، يُظهر الجسم رد فعل دفاعي باستخدام الجهاز المناعي، إذ يُنتج ثلاثة أنواع من خلايا الدم البيضاء: الخلايا البلعمية والخلايا الليمفاوية البائية والخلايا الليمفاوية التائية.

تبتلع الخلايا البلعمية الجراثيم الغازية وتهضمها، وكذلك أي خلايا ميتة أو محتضرة، تاركة وراءها أجزاءً من الكائنات الحية تسمى المستضدات. يرى الجسم في هذه المستضدات تهديدًا، لذلك تنتج الخلايا الليمفاوية البائية أجسامًا مضادة لمحاربتها. وفي الوقت نفسه، تتعلم الخلايا اللمفية التائية كيفية التعرف على جراثيم معينة للتمكن من إنتاج أجسام مضادة لمحاربتها مرة أخرى في المستقبل.

يساعد اللقاح الجهاز المناعي في جهوده الدفاعية ضد المرض بتقليد العدوى، ومع إن أنواع اللقاح الموجودة مختلفة وكثيرة، فإنها تعمل جميعها على نفس المبدأ لتوليد المناعة المكتسبة ضد أمراض معدية معينة، وذلك باستخدام المستضدات أي مادة غريبة تجعل الجهاز المناعي ينتج أجسامًا مضادة ضده.

تقلّد المستضدات مرضًا معينًا في الأساس، ما يجعل الجسم يستجيب كما كان سيفعل ضد العدوى الحقيقة. وهذا يزود الجهاز المناعي بالخلايا المناسبة اللازمة لمكافحة العدوى في المستقبل. لذلك مع إن اللقاح لا يحتوي على المرض الأصلي بل نسخة ضعيفة أو غير نشطة على شكل مستضدات، فإن الجسم يتعلم كيفية التعرف على المسبب الحقيقي.

في بعض الحالات، قد يحتاج اللقاح جرعات متعددة على مدى فترة من الوقت لتمكينه من أداء عمله بطريقة صحيحة، وذلك لأن الجسم قد يحتاج إلى وقت لصنع أجسام مضادة طويلة الأمد وتطوير الخلايا اللمفية التائية للكائن الحي المحدد.

لسوء الحظ، لا يوجد لقاح مثالي يضمن أن الشخص لن يصاب بالمرض، ولكنها أثبتت مرارًا وتكرارًا أنها وسيلة قوية وآمنة وفعالة لحماية الناس.

اللقاح والوحش المرقط (الجدري)

يرتبط تاريخ اللقاح بعمقٍ مع عدو قديم، وهو الجدري الذي أصاب كثيرًا من أسلافنا، إذ قتل أعدادًا كبيرة عشوائيًا طوال قرون. ومع إننا لا نعرف من أين أتى الجدري، فإن الدلائل تشير إلى وجود طفح جدري على المومياوات المصرية لا يقل عمره عن 3000 سنة. وعلى مر السنين، انتقل المرض عبر قنوات الاتصال المختلفة التي فُتحت في جميع أنحاء العالم من أجل التجارة والحرب والهجرة. وباختصار، أينما ذهب الناس، كان الجدري يتبعهم.

غالبًا ما يُفترض أن اللقاح أو مبدأه على الأقل تطور أول مرة في بريطانيا في أوائل القرن الثامن عشر، لكن الممارسة أقدم بكثير في الواقع، إذ توجد أدلة على استخدام اللقاح على نطاق واسع في آسيا وأجزاء من أفريقيا لحماية الناس من الجدري في وقت مبكر من عام 200 قبل الميلا،. وذلك بنقل كميات صغيرة من صديد الجدري إلى شخص سليم لإعطائه شكلًا خفيفًا من المرض، الذي كان من المفترض أن يكون أقل فتكًا من العدوى الطبيعية.

يعود تاريخ أول بيانات مكتوبة معروفة للقاح إلى حوالي منتصف القرن السادس عشر في الصين. ومع إن الأدلة الموثقة محدودة، فإن واحدة من أكثر الطرق شيوعًا للتلقيح تتضمن نفخ مسحوق قشور الجدري في فتحتي أنف الطفل، وفي تقنيات أخرى تُستخرج القشور في الماء، أو بإدخال سدادة قطنية مغطاة بالصديد في الأنف.

ومن المعروف أيضًا أن الهند جربت اللقاح قبل أن يُمارس في الغرب، فوفقًا لروايات القرن الثامن عشر من المستوطنين الإنكليز، كان اللقاح يتم بثقب بثرات الجدري بإبرة ثم وخز شخص سليم في ذراعه عدة مرات، ومن الممكن أن تقنيات مثل هذه كانت تستخدم قبل عدة قرون من الوجود الإنكليزي في البلاد.

لم يظهر اللقاح في أوروبا حتى أوائل القرن الثامن عشر عندما لاحظت السيدة ماري ورتلي مونتاجو أن الفلاحين الأتراك ينظمون حفلات للجدري لأغراض التلقيح.

عندما عادت إلى بريطانيا، لقحت طفليها باستخدام تقنيات مماثلة. ثم أصبحت الفكرة مؤثرة جدًا في الأوساط الطبية البريطانية وسرعان ما انتشرت في جميع أنحاء أوروبا.

وفي الوقت نفسه، بدأت أفكار مماثلة تتأصل في المستعمرات الأمريكية، وهنا كان الأفارقة الغربيون المستعبدون يمارسون منذ فترة طويلة التقنيات التي جلبوها معهم قبل تفريقهم بعنف في جميع أنحاء الأمريكيتين.

ومن المؤسف أن عدم وجود أدلة موثقة يعني أننا غير قادرين على أن نفهم تمامًا إلى أي مدى مارس المستعبدون أو الأحرار المنحدرون من أصل أفريقي هذا النوع من الوقاية، ولكن مع ذلك يوجد ما يكفي من الأدلة الباقية التي تشير إلى أنه كان يُمارس في كثير من الأحيان بعيدًا عن الأطباء الأوروبيين الذين لم يكن لديهم معرفة به.

شارك الواعظ كوتون ميذر في محاكمات السحر في سالم بطريقة غير مباشرة، وفي قضية شهيرة ذكر ما يشير إلى نسْبِ هذه الأفكار، إذ كتب أنه قبل أن يسمع عن اللقاح في أي مكان في أوروبا، كان قد سمع عنه من خادمه الخاص رواية عن ممارسته في أفريقيا.

ومع تفشي الحصبة في عام 1713، خسر ميذر إحدى زوجاته واثنين من أطفاله الخمسة عشر بسبب المرض المعدي، ولذلك عندما أُخبره عبده أونيسيموس سنة 1716 عن روائع التلقيح، نظر في ذلك بإمعان، ولم يرسل رسالة حماسية حول هذه الممارسة إلى الجمعية الملكية في لندن فحسب، بل دافع عنها لاحقًا عندما انتشر الجدري في ماساتشوستس في عام 1721.

بدايات اللقاح

كانت ممارسات اللقاح فعالة حتى حينها، ولكن مع ذلك كان هناك دائمًا خطر بإصابة شخص ما بالجدري في مرحلة متقدمة، وألا يموت فحسب بل ينشر المرض أكثر. وحتى عام 1796 شهد العالم أول لقاح فعال وأكثر أمانًا.

نفّذ إدوارد جينر التلقيح بالطريقة التقليدية بوصفه طبيبًا في الريف الإنكليزي، فقد علم بانتقال مرض يصيب الماشية يُعرف بجدري البقر إلى البشر، وخصوصًا الريفيات اللواتي يحلبن الأبقار في غلوسترشير، وبأعجوبة، بدا الناس الذين أُصيبوا بجدري البقر محصنين ضد الجدري.

لم يفوت جينر فرصة إجراء التجربة، فأخذ الصديد من يد شابة تحلب الأبقار مصابة بجدري البقر تدعى سارة نيلمز، واستخدمها لتطعيم طفل يبلغ من العمر 8 سنوات يدعى جيمس فيبس في مايو 1796، وقد أصيب فيبس بحمى طفيفة ولكنه تعافى بسرعة، وبعد عدة أسابيع كرر جينر العملية مع الجدري ووجد أن الإصابة لم تحدث، فكان فيبس على ما يبدو محصنًا وأول شخص يتم تطعيمه.

وكما هو الحال اليوم، لم يوافق الجميع على العملية. ونشر بعض الناس شائعات بأن اللقاح سيحولهم إلى أبقار، في حين زعمت السلطات الدينية أنه من غير الأخلاقي إيقاف مرض كان تعبيرًا عن إرادة الله. ولكن مع كل هذه الأصوات وغيرها من أصوات المعارضة، عُد الإجراء آمنًا وفعالًا بالاختبار المتكرر بحلول عام 1801.

وسرعان ما انتشرت قوة لقاحات الجدري في جميع أنحاء العالم، وأصبحت إلزامية في بريطانيا وأجزاء من أمريكا وأماكن أخرى في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى إدخال شهادات اللقاح ضد الجدري لإثبات سلامة الأفراد في السفر، ولكن مع كل هذا النجاح، ظل هذا المرض يجتاح بعض أنحاء العالم، ويموت بسببه أكثر من مليوني شخص كل عام.

الطريق إلى استئصال الجدري

طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم تسعَ البحوث والتجارب في إجراءات اللقاح إلى تحسين إيصال اللقاحات فحسب، بل إلى زيادة عدد الأمراض التي يمكن الوقاية منها. ففي عام 1872، ابتكر الكيميائي الفرنسي الشهير لويس باستور أول لقاح أنتجه في المختبر لكوليرا الطيور، ومن خلاله اشتهر مصطلح اللقاح في اللغة الشائعة، بل ساعد أيضًا على إثبات نظرية جرثومة المرض. ثم واصل باستور وزملاؤه تطوير لقاحات لأمراض أخرى، مثل الجمرة الخبيثة وداء الكلب.

وبحلول الخمسينيات من القرن العشرين، ساعدت التقنيات المتقدمة للحفظ على تخزين لقاحات الجدري المقاومة للحرارة والمجففة بالتجميد دون تبريد.

سرعان ما أدى اللقاح إلى القضاء على الجدري في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان. لكن ظل المرض يشكل تهديدًا طالما لم تُنسق الجهود.

ثم في عام 1959 دعت جمعية الصحة العالمية إلى تبني نهج عالمي للتغلب أخيرًا على العدو القديم، وفي العام نفسه أطلقت منظمة الصحة العالمية برنامجها للقضاء على الجدري، واتُخذت خطوات شجاعة نحو تحقيق هذا الهدف العام. وعلى مدى العقدين التاليين، تعاون العلماء من مختلف أنحاء العالم ومن ضمنها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومع إنهم كانوا على خلاف خلال ذروة الحرب الباردة فقد تقاسموا الموارد والخبرات اللازمة لتقديم اللقاحات، وبفضل هذا الجهد المشترك، تمكنت منظمة الصحة العالمية من الإعلان عن الانتهاء من الجدري أخيرًا في جميع أنحاء العالم في عام 1980.

وكانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يثمر فيها التدخل البشري بإيقاف مرض معروف قاتل ومتفشٍ. ومنذ ذلك الحين لم تحدث حالة واحدة من الجدري بشكل طبيعي.

اقرأ أيضًا:

سبعة إنجازات طبية تاريخية

أحد أكثر الأمراض البشرية فتكًا بالتاريخ يعود ظهوره لزمن الفراعنة!

ترجمة: حنان الميهوب

تدقيق: يوسف صابوني

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر