أدى استعمال المضادات الحيوية التقليدية إلى ظهور الجراثيم الخارقة، ما حتّم على العلماء البحث عن بدائل للعلاج، مثل الفيروسات والتعديل الجيني بواسطة تقنية كريسبر وسيوف البروتينات، من أجل علاج أفضل.

بعد الانفجار الذي حصل في مطار بروكسل سنة 2016، أدت شظايا الانفجار، أو ربما الأدوات الجراحية المستخدمة لتقطيب الجروح، إلى انتقال نوع من البكتيريا الخارقة إلى سيدة ناجية من الانفجار. رفضت هذه الجراثيم الخارقة، التي تنتقل في المستشفيات خاصةً بعد العمليات الجراحية، مغادرة جسم هذه السيدة رغم سنوات من العلاج بالمضادات الحيوية.

بعد أن نجت من انفجار مدمر، ظلت السيدة أسيرة لبكتيريا الكلبسيلة الرئوية، إلى أن نجح علاجها باستخدام علاج يشمل المضادات الحيوية وعلاج تجريبي آخر.

أصبح من الشائع وجود جراثيم مقاومة، تشكل خطرًا متزايدًا، إذ سببت وفاة قرابة 1,7 مليون شخص حولت العالم، وساهمت في وفاة 3,68 ملايين آخرين. في الولايات المتحدة فقط، سببت البكتيريا المقاومة إصابة 2,8 مليون شخص بالعدوى، ووفاة 35 ألف في عام واحد.

وما زال الأمر يتفاقم، إذ أصبح 7 من أصل 18 نوعًا من الجراثيم الخارقة التي رصدتها مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، أكثر مقاومةً للمضادات الحيوية.

مع ذلك، ما زالت مسيرة شركات الأدوية بطيئة لابتكار مضادات جديدة فعالة، قادرة على القضاء على تلك الجراثيم. حاليًا يُطور أقل من 30 مضادًا حيويًا ضد البكتيريا الأكثر أهمية حسب منظمة الصحة العالمية.

يبحث العلماء حاليًا عن بدائل للمضادات الحيوية التقليدية للقضاء على تلك الجراثيم الخارقة، باستعمال الفيروسات مثلًا، أو التعديل الجيني عبر تقنية كريسبر -التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد- أو الجزيئات المقاومة للبكتيريا.

في إطار الجهود لعلاج المرضى والقضاء على الجراثيم الخارقة، يقول شاس بيسل رئيس فريق البحث البيولوجي بمؤسسة هيلمولتز بألمانيا: «تتوجه رؤيتنا إلى ما وراء المضادات الحيوية التقليدية، للتوصل إلى خيارات أوسع».

لكن بالتزامن مع البحث عن هذه العلاجات الجديدة، ما زال علينا الحد من الاستعمال المفرط والعشوائي للمضادات الحيوية، وهو ما أدى –وفقًا للخبراء- إلى جعل هذه الأدوية، التي كانت حتى وقت قريب تنقذ أرواح المرضى، عديمة النفع.

كيف تظهر مقاومة المضادات الحيوية وتنتشر؟

تعمل المضادات الحيوية على قتل البكتيريا أو إبطاء تكاثرها، ليكمل النظام المناعي عمله، بمنعها من بناء جدران عازلة أو نسخ حمضها النووي مؤقتًا، أو تعمل على تعطيل الريبوزوم –مصنع البروتينات- ما يجعل الجراثيم غير قادرة على التكاثر.

تنقسم المضادات الحيوية إلى أصناف عديدة، منها ما تشترك في آلية عملها وهدفها على المستوى الجزيئي للبكتيريا، أو ما يُسمى المضادات واسعة الطيف، إذ تؤثر على نحو واسع في مختلف أنواع البكتيريا، سالبة أو موجبة الجرام.

هذا النوع من الأدوية يؤدي إلى جعل البكتيريا، سواء الممرضة والنافعة، قادرةً على تطوير استراتيجيات دفاعية داخل جسم الإنسان، ما يقلل من فعالية الأدوية.

تحمي الجراثيم أنفسها من الأدوية بتحوير حمضها النووي، أو تبادل الجينات المقاومة مع بكتيريا من محيطها، ما يسمى نقل الجينات الأفقي، وهو انتقال المعلومات الوراثية من خلية إلى أخرى، ما يجعل الجراثيم المقاومة مصدرًا لنشر الجينات الجديدة سريعًا في محيطها.

يؤدي سوء استعمال المضادات الحيوية، سواء في المجال الطبي أو الزراعي، إلى السماح للجراثيم بتطوير مقاومة المضادات الحيوية، ما يؤدي إلى تحول أنواع العدوى التي كان يسهل علاجها سابقًا إلى عدوى مهددة لحياة الإنسان.

تسخير الفيروسات لمحاربة البكتيريا:

تُعد الفيروسات من البدائل المقترحة للقضاء على البكتيريا، حتى منذ عصر ما قبل اكتشاف البنسلين.

يُسمى ذلك العلاج بالبلعمة، إذ تُستخدم الفيروسات التي تهاجم البكتيريا، ويُطلق عليها البلعميات الجرثومية، للقضاء على الجراثيم، باختراق خلاياها وتمزيقها وتركها مفتوحة من الداخل.

تستطيع البلعميات القضاء على الجراثيم الخارقة، بجعلها غير قادرة على استعمال آلياتها الأساسية لمقاومة الأدوية. مثلًا تستطيع بلعمية تسمى U136B التأثير على بكتيريا إي كولاي، إذ تنتقل إليها عبر مضخة تستعملها عادةً تلك البكتيريا لتدفع المضادات الحيوية إلى خارج الخلية، فما أن تحاول البكتيريا ضخ الفيروس خارجًا لتتجنب البلعومية حتى تشغل مضخاتها وتصبح غير قادرة على ضخ الأدوية. الأمر المميز في طريقة العلاج هذه أنه بخلاف المضادات الحيوية، من غير المحتمل تطوير مقاومة للعلاج بالبلعميات.

تحويل دفاعات الجراثيم ضدها:

رغم شهرتها بوصفها وسيلة للتعديل الجيني، فإن تقنية كريسبر مستوحاة في الأصل من الجهاز المناعي لعدد كبير من أنواع البكتيريا.

تتضمن العناصر الأساسية لجهاز المناعة هذا، مقصات الجزيئات أو ما يُسمى بروتينات كاس، وبنك حفظ مقتطفات الحمض النووي التي جمعتها الجراثيم وخزنتها بعد العدوى البلعمية. بذلك يستطيع كريسبر كاس مهاجمة نقطة محددة في الحمض النووي وهدمها بسلاسة.

بدلًا من مهاجمة البلعميات، تستطيع كريسبر كاس عرضيًا إحداث أضرار على مستوى الحمض النووي للخلية البكتيرية، ما يؤدي إلى استجابة الجهاز المناعي. أوحت هذه الظاهرة للعلماء باستعمال تقنية كريسبر كاس لتفكيك الحمض النووي داخل خلايا البكتيريا.

المميز في هذه التقنية إمكانية استعمالها لتفكيك أجزاء معينة من الحمض النووي دون التأثير في بقية السلسلة. على هذا، فور إعطائها للمريض، تدخل إلى فئة محددة من الخلايا اختيرت مسبقًا، وهي التي حُددت لتُهاجم ويُقضى عليها.

إذن كيف تعرف تقنية كريسبر البكتيريا الصحيحة التي يجب عليها مهاجمتها؟ تعمل مجموعة من فرق البحث على هذا الموضوع وتجرب طرقًا مختلفة، لكن حتى الآن تعتمد الطريقة المثلى على البلعميات، التي تعمل موصلًا بين البكتيريا وهذه التقنية من أجل نقلها إلى البكتيريا المناسبة.

الجزيئات المصممة للقضاء على الجراثيم:

إضافةً إلى البلعميات وتقنية كريسبر، يعمل العلماء على تطوير بدائل أخرى للمضادات الحيوية، مثل استخدام الببتيدات المهاجمة للبكتيريا، وهي سلاسل قصيرة من وحدات البناء الأساسية للبروتينات، والإنزيمات المختصة في بدء تفاعلات كيميائية محددة. تختلف هذه الجزيئات عن المضادات الحيوية كونها قادرة على مهاجمة مجال محدود جدًا من البكتيريا، باستهداف بروتينات محددة، ما يجعل من الصعب تطوير مقاومة ضدها.

الجزيئات المصنعة مخبريًا، التي تسمى الأحماض النووية البيبتيدية، واحدة من التقنيات الواعدة، إذ تعمل على تعطيل بناء البروتينات الأساسية لعمل خلايا البكتيريا، الضرورية لاستمرارها، وذلك بالارتباط بالأحماض الريبوزومية الرسول، وهي جزيئات جينية تحمل الإرشادات الخاصة ببناء البروتينات وتنقلها من نواة الخلايا إلى مراكز تصنيع البروتينات، لكنها تحتاج إلى الببتيدات من أجل دخول الخلية عبر جدرانها.

تتجنب هذه الأنواع من الأدوية وجود أي مقاومة لها، باستهداف بروتينات لا تستطيع الجراثيم تغييرها دون إلحاق ضرر بنفسها، ويمكن أيضًا استعمالها مباشرةً للتغلب على مقاومة المضادات الحيوية، بتعطيل الإنزيمات والمضخات التي تمكن الجراثيم من التخلص من الأدوية.

ما زالت هذه التقنية تحت الاختبار داخل المختبرات وعلى الحيوانات، ولم تخضع بعد للاختبار على الإنسان، حتى التحقق من أمانها على الحمض النووي البشري.

أيضًا تُعد إنزيمات الليسين واعدة في هذا السياق، إذ تستعملها البلعميات لإحداث ثقوب في جدران الجراثيم الخارقة، وتعمل سيوفًا دقيقة تعبر الخلايا لتجعلها تخرج مكوناتها الداخلية، ومن المستبعد أن تجد البكتيريا طريقة لمقاومتها إذ لا تستطيع تغيير مكونات جدرانها بسهولة.

تستطيع إنزيمات الليسين استهداف نوع محدد من البكتيريا، فتقضي على الأنواع الضارة منها دون النافعة. دخل هذا النوع من العلاج حيز التجريب على الإنسان إذ تلقاه مئات من المتطوعين علاجًا مكملًا للمضادات الحيوية، لكن ما زالت النتائج متضاربة.

الإشراف على استعمال المضادات الحيوية قد ينقذ الأرواح:

في انتظار تسويق الجيل الجديد من العلاجات الواعدة للقضاء على الجراثيم الخارقة، علينا اتخاذ بعض الإجراءات للحد من ظهور الجراثيم الخارقة، بتفادي سوء استعمال المضادات الحيوية، وهو السبب الرئيسي لظهور الجراثيم المقاومة بالمقام الأول.

مثلًا، على الأطباء التحقق من طبيعة العدوى، وأنها عدوى بكتيرية وليست فيروسية قبل وصف المضادات الحيوية، ويمكنهم وصف المضادات الحيوية محدودة الطيف بدل المضادات واسعة الطيف.

اقرأ أيضًا:

تقنية كريسبر تحمي الجراثيم من غزو الفيروسات

الباحثون يطورون برنامجًا لتحري الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية

ترجمة: إيمان مشماشي

تدقيق: حسام التهامي

المصدر