تعد التجارة العالمية من أهم النشاطات التي ربطت الشعوب ببعضها عبر التاريخ وساهمت بإنشاء الحضارة وتطورها وتعزيز الترابط بين كيانات المجتمع الدولي. وأكثر ما يشغل المجتمع الدولي فيما يخص التجارة العالمية هو طرق النقل والتواصل بين المنتج والمستهلك، والمصدر والمستورد.

بتحليل طرق الشحن الرئيسة في العالم، رأى تقريران ازدياد اعتماد التجارة الدولية على عدد قليل من نقاط العبور، وبالتحديد تُعد المضائق البحرية قنوات ضيقة تربط بين مسطحين مائيين على طول الطرق البحرية المستخدمة على نطاق واسع.

قد يؤدي تعطيلها إلى وضع الإمدادات الغذائية العالمية وسوق الطاقة في حالة من الفوضى. فتعطيل واحد فقط من المضائق البحرية الرئيسية الثمانية في العالم قد يسبب آثارًا مدمرة على الأمن الغذائي العالمي ويعرض ملايين الناس للخطر.

كان هذا هو التحذير الرئيس للباحثين من تشاتام هاوس، المعهد الملكي للشؤون الدولية، الذي استخدم خرائط النشاط الحراري بناءً على بيانات نظام التعرف الآلي للسفن (AIS) وأحكام الخبراء من الصناعة البحرية لدراسة تأثير إغلاق القنوات البحرية على سلسلة الإمدادات الغذائية.

وقد حذرت دراسة منفصلة نشرتها إدارة معلومات الطاقة الأميركية من أن إغلاق المضيق -ولو مؤقتًا- قد يؤدي إلى زيادات كبيرة في إجمالي تكاليف الطاقة وأسعار الطاقة العالمية.

وتشمل بعض أهم الممرات في العالم قناة بنما والمضائق التركية ومضيق باب المندب وقناة السويس ومضيقي ملقا وهرمز. ومع إن البحث عن طرق الشحن البديلة (كقناة نيكاراجوا المقترحة أو قناة كرا) مستمر، فلم تظهر حتى الآن بدائل واقعية.

ولتقريب الفكرة بمثال، يُشحن أكثر من نصف إجمالي الذرة والقمح والأرز وفول الصويا المتداولة دوليًّا -التي تمثل مجتمعة أكثر من 60% من استهلاك المواد الغذائية وإمدادات الأعلاف البروتينية في جميع أنحاء العالم- عبر واحد على الأقل من هذه الممرات.

وحذر تشاتام هاوس من أنه في حين أن وكالة الطاقة الدولية لديها نظام استجابة للطوارئ يساعد في تنظيم سوق النفط، فإنه لا توجد آلية مماثلة لإدارة مخاطر انقطاع كبير في الإمدادات الغذائية. ودعا المشرعين إلى اتخاذ إجراءات فورية للتخفيف من هذه المخاطر.

وأوضح مثال على مدى الترابط بين الغذاء وعدم الاستقرار السياسي قد يأتي من أحد أكبر الصراعات في الذاكرة الحديثة: ضعف محصول القمح في منطقة البحر الأسود الذي ساهم في الاحتجاجات في جميع أنحاء شمال أفريقيا في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، ليتصاعد لاحقًا في الربيع العربي.

مضيق هرمز

يعد مضيق هرمز أهم نقطة اختناق في العالم للتجارة العالمية، وقد أُدرج بوصفه نقطة اختناق بالغة الأهمية دون أي بديل، وهو يسمح للسفن بالوصول المباشر إلى الخليج العربي المغلق. فهو نقطة أساسية للسفن المتجهة من وإلى الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة.

وتشير تقديرات إدارة معلومات الطاقة إلى أن هذا المضيق ينقل نحو 30% من النفط الخام والسوائل الأخرى في العالم، إضافةً إلى 30% من تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية.

وتُعد بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي (كالمملكة العربية السعودية والكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر والبحرين وعمان) من أكثر الدول اعتمادًا على الواردات الغذائية في العالم.

وفيما يتعلق بالنفط، تمتلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة فقط قدرة خطوط الأنابيب للتحايل على مضيق هرمز، في حين أن خيارات إعادة التوجيه المحتملة الأخرى لتجاوز هرمز لا تعمل حاليًا.

ويشير معهد تشاتام هاوس إلى أن تغير المناخ قد يؤدي إلى أعاصير تضرب هرمز. في حين كانت تهديدات إيران بإغلاق مضيق هرمز مصدر قلق لأسواق النفط لفترة طويلة. إذ تحدث اضطرابات في المضيق أحيانًا، ففي عام 2015 أطلقت زوارق دورية إيرانية النار على سفينة شحن قبل الصعود والاستيلاء عليها.

قناة بنما

تُعد قناة بنما أحد أهم القنوات في طرق التجارة العالمية، فمن خلالها يتحقق الارتباط الحيوي بين الأسواق الغربية والآسيوية، وقد شهدت أول توسعة لها منذ عام 1914 لتمكين السفن الأكبر حجمًا من المرور عبرها.

تتعامل القناة مع صادرات الولايات المتحدة الرئيسية من الذرة وفول الصويا إلى الأسواق الآسيوية. ومن المتوقع ازدياد الاعتماد عليها في المستقبل، لأن الطلب الصيني يمثل نصف النمو في الطلب العالمي على الغذاء تقريبًا بحلول عام 2050. ومن المتوقع أن تتجاوز واردات فول الصويا في البلاد إجماليًا سنويًا قدره 100 مليون طن بحلول عام 2025.

وقد شهدت القناة كثيرًا من الاضطرابات سيما بسبب أنماط الطقس القاسية، فقد أدت فترات الفيضانات والجفاف والضباب إلى إغلاقها مؤقتًا والقيود والتأخير.
توجد بدائل للقناة، إذ تستطيع السفن إعادة توجيه مسارها عبر مضيق ماجلان وكيب هورن وممر دريك إذا لزم الأمر، لكن هذا سيضيف أكثر من 11 ألف كيلومتر إلى الرحلة، فضلاً عن التكاليف المرتفعة المرتبطة بمثل هذا التحويل.

مضيق باب المندب

يمثل مضيق باب المندب نقطة عبور بين القرن الأفريقي والشرق الأوسط، وهو بمثابة بوابة إلى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، وممر مهم في مسار التجارة العالمية.

ويُعد مضيق باب المندب من نقاط العبور الثلاثة الحاسمة التي تسمح بالوصول إلى الجزائر وتونس وليبيا ومصر عبر البحر الأبيض المتوسط، إذ تستخدمه هذه البلدان لاستيراد 70% من احتياجاتها من القمح. إضافة إلى تمرير 32% من كلوريد البوتاسيوم على مستوى العالم، وهو السماد الأكثر تداولًا.

ويعني إغلاق المضيق أن تدفقات النفط الأوروبية وشمال أفريقيا لم تعد قادرة على اتخاذ الطريق الأكثر مباشرة إلى الأسواق الآسيوية، في حين تُمنَع الناقلات التي تغادر الخليج العربي من الوصول إلى قناة السويس أو خط أنابيب سوميد، ما يعطل التجارة العالمية كثيرًا.

ويبدو أن الصراع المسلح والتقلبات السياسية في المنطقة من بين الأسباب الأكثر شيوعًا للاضطراب حتى الآن. ففي عام 2015 أُغلِقت جميع الموانئ الرئيسية في اليمن بسبب الغارات الجوية السعودية، أعقبها إطلاق المتمردين لصواريخ مضادة للسفن على سفينة إماراتية في العام التالي، وهجمات متعددة على السفن التي تعبر المضيق طوال عام 2017.

يحذر باحثو تشاتام هاوس من أن مضيق باب المندب ما زال معرضًا لامتداد الصراع في اليمن، وعدم الاستقرار في الصومال المجاورة وخطر ذلك على التجارة العالمية.

مضيق ملقا

يُعد نقطة الاختناق الرئيسة في آسيا، إذ يتيح للسفن أن تسلك أقصر طريق بحري بين الموردين في الخليج العربي والأسواق الآسيوية، (كالصين واليابان وكوريا الجنوبية ومنطقة المحيط الهادئ).

وفيما يتعلق بتدفق النفط، يتعامل المضيق في الغالب مع النفط الخام، بينما تشكل المنتجات البترولية الباقي.

ووجدت إدارة معلومات الطاقة أن الممر الضيق الذي يجب على السفن المرور عبره يخلق عنق زجاجة طبيعي، مع احتمال حدوث تصادمات أو جنوح أو انسكابات نفطية.

وبحسب مركز الإبلاغ عن القرصنة التابع للمكتب البحري الدولي، تعد القرصنة ومحاولات السرقة والاختطاف من بين التهديدات الرئيسية، إذ تقع السفن ضحية لعدد متزايد من الهجمات.

لكن إدارة معلومات الطاقة حذرت من أن إعادة التوجيه ليست خيارًا صالحًا، لأنها ستقيد قدرة الشحن العالمية وتزيد من تكاليف الشحن، وربما تؤثر في أسعار الطاقة. وهذا من شأنه أن يعطل تجارة الغاز الطبيعي المسال من الخليج العربي والموردين الأفارقة الذي يذهب إلى أكبر الدول المستوردة (كاليابان وكوريا الجنوبية).

أحد الخيارات الالتفافية لإمدادات النفط جاء من الصين وميانمار بعد تشغيل خط أنابيب الغاز الطبيعي بينهما، وأصبح يعمل بكامل طاقته في يونيو 2017. وفي الوقت نفسه، يتعامل المضيق أيضًا مع 18% من تجارة الحبوب العالمية، التي لا يوجد لها بديل للشحن.

قناة السويس

تقع قناة السويس في مصر، وهي واحدة من أشهر ممرات التجارة العالمية، وتربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط. وقد شهدت نموًا كبيرًا، فبين عامي 2000-2015، زادت واردات المنطقة من القمح التي تصل عبر قناة السويس بنسبة 120%. ومع إنها تتعامل مع تجارة المواد الغذائية غالبًا، فإن النفط والغاز الطبيعي المسال يمثلان أيضًا 17% و6% من إجمالي شحنات قناة السويس، على التوالي.

وعلى غرار قناة بنما، خضعت قناة السويس لأعمال توسعة في عام 2010، وأصبحت جميع سفن الحاويات في العالم والغالبية العظمى من ناقلات البضائع السائبة قادرة على الإبحار عبرها.

وتمامًا مثل بقية الممرات البحرية الرئيسية في العالم، يبدو أن القناة معرضة للتهديد، بسبب مزيج من العواصف والهجمات على السفن. وقد حذر تشاتام هاوس أيضًا من تزايد المخاطر على مسار التجارة العالمية في قناة السويس بسبب النشاط الإرهابي والهجمات في شبه جزيرة سيناء.

اقرأ أيضًا:

هل يمكن أن يفقد الدولار موقعه بوصفه عملة احتياط؟

مشكلة البطالة بين الشباب في الصين أصبحت أزمة لا يمكن تجاهلها بعد الآن

ترجمة: دياب حوري

تدقيق: حُسام الدِّين طَلعَت

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر