قد تظن أن الدولار مجرد عملة أو ورقة مالية، لكنه في الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. إن الدولار هو العملة المتداولة عالميًا، إذ يهيمن على التجارة العالمية. يسميه الاقتصاديون «عملة الاحتياط العالمية» وهي صفة حصل عليها الدولار منذ ما يقارب 80 سنة، وكان من شأنها منح اقتصاد الولايات المتحدة فوائد جمة.

لكن هل يُمكن أن يُزاح الدولار عن مركزه الريادي؟ توجد تحديات آخذة في التصاعد، والتاريخ يُظهر أن البلدان التي هيمنت عملاتها على العالم سابقًا تفقد هذه المكانة في النهاية، وسريعًا جدًا أحيانًا.

كيف حدث الأمر: «التوقيت والقوة والكثير من الذهب»:

لم يكن وصول الدولار إلى مكانته الحالية نتاج الحظ. لقد كانت خطةً مُعدّةً بإحكام، بدأ الإعداد لها في مرتفعات ولاية «نيو هامبشير» الأمريكية قبل 80 سنة تقريبًا. آنذاك كان الجنيه الإسترليني البريطاني العملة الدولية، وهو لقب احتفظ به طوال عقود.

حقق الدولار صعوده على نحو مفاجئ نوعًا ما خلال مؤتمر «بريتون وودز» المالي الدولي سنة 1944. كان بريتون وودز تجمعًا لقادة العالم عقب الحرب العالمية الثانية. إذ اجتمعوا في محاولة لتأسيس نظام دولي جديد للتجارة والشؤون المالية، بهدف المساعدة في تعزيز ترابط العالم والرفاهية للجميع.

اتفق الجميع على ضرورة وجود عملة مشتركة تمثل معيارًا يستعمله الجميع بهدف تسهيل التجارة الدولية.

آنذاك كان الاقتصاد البريطاني في الحضيض. فالحرب التي خاضتها بريطانيا على أراضيها كلفتها ثمنًا باهظًا. لذا كان من الواضح أن الجنيه الإسترليني لا يُعول عليه.

لذلك دعم البريطانيون أنفسهم فكرة إيجاد عملة جديدة تُستعمل بهدف التجارة بين البلدان. اقترح الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز الذي مثّل بريطانيا في بريتون وودز عملة سماها «بانكور»، وهي كلمة تجمع بين «بانك» اللفظ الفرنسي لكلمة بنك، و«أور» اللفظ الفرنسي لكلمة ذهب. اقتُرح أيضا أسماء أخرى مثل «أورب» و«يونيكورن».

غير أن الدولار الأمريكي تفوق بسهولة على كل هذه العملات المقترحة.

كانت الولايات المتحدة قوةً اقتصاديةً مُعتبرة، وكان لديها الكثير من الذهب في خزائنها، ما جعل الجميع يثقون في وجود ضمانةً لثروتها الطائلة. استُعملت هذه الميزات لتأييد فرض الدولار بقوة بوصفه عملةً رسميةً للتجارة العالمية.

فوائد كون الدولار العملة العالمية:

لمّا كان الدولار الأمريكي عملة الاحتياط العالمي، فإن معظم التجارة العالمية ترتبط به. مثلًا، إن كنت مصمم ملابس في تشيلي وطلبت كميةً من القطن من مصر بهدف صناعة بعض القمصان، فستدفع ثمن القطن بالدولار الأمريكي، وليس بالبيسو التشيلي أو الجنيه المصري.

للتوضيح، فإن الولايات المتحدة لا علاقة لها بهذه الصفقة، لكن الدولار الأمريكي جزء منها. عندما تُعقد الصفقات الدولية فإنها غالبًا ما تتم باستعمال الدولار.

يُعد هذا مكسبًا للولايات المتحدة بكل المعايير، فالشركات المحلية مثلًا لديها ميزة أصحاب الأرض «أو بالأحرى أصحاب العملة» في التجارة العالمية. لكن مثلما أوضح مؤتمر بريتون وودز، فإن هذا المركز الريادي قد يُفقد سريعًا. يقول الاقتصادي والمستشار السابق للبيت الأبيض مايكل بوسكين: «إن لدينا ميزةً مهمة، غير أننا قد نضيعها إن لم ننتبه».

التحديات التي تواجه الدولار:

الخطر المحدق بمكانة الدولار حاليًا يمكن تفصيله بعدة أسباب مثيرة للجدل. في وقت سابق من هذا العام، شرعت دول مثل الصين وروسيا والإمارات والبرازيل في التجارة بعملات أخرى، مثل اليوان الصيني والروبل الروسي، في تحدٍّ مباشر لمركزية الدولار الأمريكي. طالما كانت الصين تضغط من أجل استبدال عملتها بالدولار، وهي تحقق الآن تقدمًا في هذا الاتجاه نتيجة عدة عوامل.

سقف الدين:

عندما يعول الجميع على عملة ما في أعمالهم وتجارتهم، فذلك لأنهم يعتقدون أنها عملة يُعتمد عليها. الضجة التي حدثت مؤخرًا بسبب موضوع سقف الدين جعلت الولايات المتحدة «والدولار بالتبعية» تبدو أقل استقرارًا وأكثر عرضةً للمخاطر.

استعمال الدولار سلاحًا:

يُوضح بين ستيل، الخبير الاقتصادي لمجلس الشؤون الخارجية أن سقف الدين ليس من الأسباب المركزية لتزايد وتيرة الصفقات بعملات غير الدولار في الآونة الأخيرة، يقول: «إن الإشكالية الحقيقية هي استعمال الولايات المتحدة للدولار بوصفه أداةً للعقوبات المالية بتزايد».

الدولار عملة قوية جدًا لدرجة تُحيّد من لا يستطيع استعماله عن التجارة والأعمال في أي مكان في العالم. وقد استعملت الولايات المتحدة ذلك وسيلةً للضغط على دول مثل كوريا الشمالية وإيران ومؤخرًا روسيا. فبعد غزو أوكرانيا، منعت الولايات المتحدة روسيا من التعامل بالدولار.

يقول ستيل إن التأثيرات الاقتصادية لمثل هذه العقوبات كانت وخيمةً، وقد لاحظت البلدان الأخرى ذلك، ويضيف: «إن العقوبات وسيلة فعالة، لكن يجب أن نكون حذرين. الأمر أشبه بإعطاء مضاد حيوي فعال للمريض بكمية زائدة عن الحد اللازم، ما يؤدي إلى تطور بكتيريا مقاومة لهذا الدواء».

إذا كانت علاقة بلدك بالولايات المتحدة مُعقدةً، فإن رؤية تأثير العقوبات المالية الأمريكية على روسيا أمر مخيف. كان ذلك كافيًا لدفع الصين والسعودية ودول أخرى لإبرام صفقات بهدف تجاوز الدولار ومحاولة سحب البساط منه تدريجيًا.

يقول ستيل عن هذه الصفقات: «إنها لا تُقارن باستعمال الدولار من حيث نجاعتها، لأن ذلك قد يؤدي إلى انقسامات كبيرة في الاقتصاد العالمي وجعله أقل نجاعةً وإنتاجيةً بكثير».

مازال الدولار هو العملة الأهم «حتى الآن»:

حاليًا، يظل لدى الدولار القوة الأكبر، وليست مكانته في خطر وشيك، وفقًا للاقتصادي مايكل بوسكين. مع ذلك، فإن هذا الوضع قد يتغير بسرعة، يضيف: «كان لدى دول أخرى عملات الاحتياط في أوقات سابقة، غير أنها فرطت فيها. يجب أن نكون حذرين».

في ظل الاضطراب العالمي الراهن، بدأت الصين وغيرها من البلدان برؤية منفذ قد يخولها حيازة ذلك الموقع الريادي، أو على الأقل محاولة سحب البساط من الدولار الأمريكي.

اقرأ أيضًا:

ما مدى صحة التوقعات المتشائمة حول مستقبل الدولار؟

الدولرة، كيف سيطر الدولار على الاقتصاد العالمي؟

المترجم: زياد نصر

تدقيق: منال توفيق الضللي

المصدر