استطاع مجتمع في الصحراء الكبرى البقاء على قيد الحياة قرابة ألف عام دون أي مياه من الأمطار الموسمية المنتظمة أو الأنهار المتدفقة باستمرار. عرف الرومان هذه الحضارة المنسية باسم الجرمنتيين، وكانوا أول مجتمع حضري استطاع تأسيس حياة في الصحراء، ومع أن هذا الموقع الجغرافي قاسي المناخ، لم ينجُ سكانه فحسب، بل استطاعوا الازدهار واستخراج كل قطرة مياه تحت هذه الرمال، باستخدام العبيد لحفر الأنفاق واستخراج المياه الجوفية.

يقول الخبراء إن سكان هذه المملكة الصحراوية تمتعوا بمستوى معيشي لا مثيل له في المنطقة. أشار باحثون من جامعة ولاية أوهايو إلى أن هذه الجهود الكبيرة تطلبت الذكاء بالتأكيد، إضافةً إلى الكثير من الحظ أيضًا. في الواقع، سار كل شيء على ما يرام حتى نفد هذا الحظ.

استند البحث الأخير إلى الدراسات الأثرية والتحليل الهيدرولوجي (دراسة المياه الجوفية)، وقد عُرضت النتائج في مؤتمر (كونكتس) للجمعية الجيولوجية الأمريكية في أكتوبر الماضي.

وفقًا للمؤرخين، كان الجرمنتيون شعبًا من بربر الصحراء، وعندما اكتشف العلماء آثار العاصمة الجرمنتية (جرمة) في ستينات القرن العشرين، كان من المفترض أن تكون هذه الحضارة بدائية، نظرًا إلى أن الصحراء قاحلة للغاية وقاسية، ما يجعل من الصعب التوصل لما هو أكثر من ذلك.

لكن بمرور السنوات ظهر المزيد من الأدلة، التي أشارت إلى أن هذا المجتمع كان أكثر تطورًا ونجاحًا مما افترضه العلماء سابقًا، إذ امتدت هذه المملكة على مساحة تفوق 180,000 كم مربع، وسكن عاصمتها 4000 شخص.

كان سر نجاحهم هو المساحات الشاسعة من طبقات المياه الجوفية في الحجر الرملي، التي تعد حاليًا إحدى أكبر الطبقات في العالم، تعود هذه المياه للفترات المطيرة الماضية، التي استطاعت دعم البلدات والمستوطنات الكبيرة في هذه المنطقة القاحلة من الصحراء، لتكون موطنًا للمزارعين والرعاة والتجار والعبيد.

للوصول إلى المياه الجوفية، أمضى الجرمنتيون قرونًا من استخدام العبيد في حفر 750 كم من الآبار الرأسية والأنفاق تحت الأرض، أو ما يُعرف بالفقارة.

استوحيت هذه التقنية من المجتمعات في بلاد فارس، لكن على عكس بلاد فارس، فإن طبقات المياه الجوفية لا يُعاد إمدادها من مياه الثلوج الذائبة، نظرًا إلى الطبيعة الصحراوية، ما يعني أن هذه الاستراتيجية في الواقع ما كان يُفترض أن تنجح، مع ذلك كان الجرمنتيون محظوظين، إذ كان لمياههم الجوفية نظام تدفق خاص، ينقل المياه من أسفل الأرض حتى قواعد التلال، حيث بُنيت أكثر من 500 فقارة امتد بعضها أكثر من 4.5 كم.

مثل عملية إمالة كأس لسحب الماء من داخله بواسطة قشة، أتاحت هذه الإستراتيجية للحضارة الجرمنتية ري محاصيلهم في الصحراء قرابة قرن من الزمن، ومكّنتهم مياه الأمطار من إعادة تغذية المنظومة المائية مرارًا، لكن لا شيء يدوم.

بدأ مستوى المياه الجوفية بالانحدار حتى بلغ مستوى أقل من مستوى الفقارة، وتطلب بلوغ هذا المستوى مجددًا بناء أنفاق أكثر، وعددًا أكبر من العبيد لأعمال البناء. ومع تناقص الغذاء والمياه، أصبحت تجارة العبيد أو الحصول عليهم بواسطة الحروب أصعب.

يمثل ما حدث مع الجرمنتيين جرس إنذار لنا، إذ يشهد العالم اليوم تناقصًا مستمرًا في مستويات المياه الجوفية، ومع زيادة احتياجات البشر والتغير المناخي فإن هذه الموارد المائية لن تدوم للأبد. يقول عالم الأرض فرانك شفارتز من جامعة ولاية أوهايو: «يرتبط تقدم المجتمعات وتراجعها بالطبيعة، إذ توجد سمات محددة تساهم في نهضة المجتمعات، وبالنظر إلى الأمثلة الحديثة مثل وادي سان خواكين، يستهلك الناس المياه الجوفية بمعدل أكبر من معدل تجددها، وبالنظر إلى أننا نتجه نحو مناخ أكثر جفافًا، فإن كاليفورنيا ستواجه نفس مشكلة الجرمنتيين».

اقرأ أيضًا:

كيف مات بيتهوفن؟

علماء آثار يكتشفون مدينة مفقودة من حضارة المايا

ترجمة: لؤي بوبو

تدقيق: علام بخيت كباشي

المصدر