أفضل نظرية لكيفية هجرة البشر البدائيين إلى الأمريكيتين، وفقًا لمعظم علماء الآثار وعلماء الوراثة، هي النظرية التي تعلمها الكثيرون على الأرجح في المدرسة الابتدائية، التي تفيد أنهم عبروا مضيق بيرينغ من آسيا عبر جسر بري منقرض الآن.

يقول ديفيد جيه ميلتزر، عالم الآثار وأستاذ عصور ما قبل التاريخ في جامعة ساوثرن ميثوديست: «لا يسع المرء إلا أن يتخيل ما فكروا به عندما وصلوا إلى أمريكا الشمالية جنوب الصفائح الجليدية ونظروا حولهم وأدركوا أنه لم يكن هناك أي شخص آخر في البلاد». «يا للهول، لدينا أرض كاملة لأنفسنا!».

بفضل التقدم في تسلسل الجينوم وتحليل البيانات، تبيّن أن بعض البشر البدائيين الذين وطأت أقدامهم أمريكا الشمالية -المعروفين باسم أسلاف الهنود أو الأمريكيين القدماء- كانوا من سلالة البشر البدائيين في سيبيريا، وهو دليل قوي على فرضية الجسر البريّ.

ليس الجميع على قناعة بأن جميع الأمريكيين القدماء ساروا إلى الأمريكتين من آسيا. توجد مواقع أثرية خارجية في كل من أمريكا الشمالية والجنوبية تعود إلى زمن ما قبل الطريق البري. هل عبر بعض الأمريكيين البدائيين المحيطات للوصول إلى هناك؟ وهل تصمد مثل هذه النظرية أمام التدقيق العلمي؟

1- نظرية الجسر البري: عبور بيرنجيا:

أصول شعب كلوفيس:

النظرية التي تحظى بدعم شبه إجماعي من كل من علماء الآثار وعلماء الوراثة هي أن أول البشر الذين سكنوا الأمريكيتين وصلوا سيرًا على الأقدام عبر جسر بري مؤقت -عبر منطقة تُعرف باسم بيرنجيا- ربط شرق سيبيريا بألاسكا مدة 5000 عام تقريبًا.

ما سبب عبورهم هذه الأرض المحظورة شبه الميتة إلى عالم غير معروف؟ وفور وصولهم، لماذا وكيف اتجهوا جنوبًا بهذه السرعة؟ وفقًا لميلتزر، مؤلف كتاب «الشعوب الأولى في عالم جديد: سكان أمريكا الجليدية»، بكل بساطة إن التفسير الكلاسيكي أنهم تتبعوا قطعان الحيوانات، «ليس الأمر كما لو أن الحيوانات كانت متجهة إلى ميامي».

ما زال علماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا يبحثون سبب وكيفية أول هجرة بشرية إلى الأمريكيتين، لكنهم يركزون على الزمان. بفضل حفنة من المواقع الأثرية المحفوظة جيدًا في العصر الجليدي، وعدد قليل من الجينومات الثمينة المتسلسلة بالكامل من بقايا بشرية من العصر الحجري القديم، ظهر جدول زمني تقريبي.

غادر الأسلاف القدماء للأمريكيين الأوائل سيبيريا ما بين 24000 و 21000 عام. تأكد ذلك بمقارنة الحمض النووي للأمريكيين القدماء بالحمض النووي للسيبيريين القدماء، لتحديد الزمن التقريبي لتباعد هاتين المجموعتين البشريتين.

تقول جينيفر راف، عالمة الوراثة والأنثروبولوجيا في جامعة كانساس: «نحلل نطاقًا هائلاً محيرًا للعقل من البيانات لاكتشاف هذه الأنماط. هذه اختلافات دقيقة حقًا لن تلتقطها إذا لم تقم بتسلسل كل زوج أساسي من هذه الجينومات القديمة».

وفقًا لعلماء المناخ القديم فقد غطت الصفائح الجليدية السميكة الكثير من خطوط العرض الشمالية من 23000 إلى 19000 عام، وهي فترة تُعرف باسم العصر الجليدي الأخير. مع كل هذه المياه البحرية المحصورة في الجليد، انخفضت مستويات سطح البحر، ما كشف عن امتداد اليابسة بين آسيا وأمريكا الشمالية.

متى عبروا الجسر البري؟

واحدة من أكثر النقاشات حيوية بين علماء الآثار أنه إذا كان الطريق البري إلى الأمريكيتين مفتوحًا منذ ما لا يقل عن 20000 عام -إن لم يكن قبل ذلك، فمتى بالضبط عبره الأمريكيون الأوائل؟

حسب قول ميلتزر، كان الإجماع لعقود على أن الأمريكيين الأوائل وصلوا منذ نحو 13000 عام. يتوافق هذا التاريخ مع آلاف الاكتشافات في جميع أنحاء أمريكا الشمالية التي تشير إلى ثقافة أثرية مشتركة تُعرف باسم كلوفيس، سُميت باسم نوع معين من رأس الحربة المخددة التي عُثر عليها لأول مرة في كلوفيس، نيو مكسيكو عام 1933. كانت نقاط كلوفيس في كل مكان قبل 12000 عام، لذلك دعمت الأدلة الأثرية بأغلبية ساحقة الوصول الأولي قبل 13000 عام.

بعد ذلك جاء مونتي فيردي في تشيلي. في هذا الموقع الرائع، على بعد آلاف الأميال جنوب معبر جسر بيرينغ لاند، اكتشف علماء الآثار أدلة قوية على مستوطنة بشرية يعود تاريخها إلى 14800 عام، قبل كلوفيس بوقت طويل. بعد أن كسر مونتي فيردي الحاجز البالغ 13000 عام، ظهرت المزيد من مواقع ما قبل كلوفيس: كهوف بيزلي في ولاية أوريغون قبل 14400 عام، وموقع ديبرا إل فريدكين في تكساس قبل 15500 عام، وعبّارة كوبر في أيداهو قبل 16000 عام.

من طريق البر أم البحر؟

كانت التواريخ المبكرة قبل كلوفيس مثيرة للاهتمام، لكنها شكلت تحديًا جديدًا لعلماء الآثار. وفقًا للأدلة الجيولوجية، أغلقت الأنهار الجليدية السميكة الطريق البري من جسر بيرينغ لاند إلى أمريكا الشمالية حتى بدأت الأنهار الجليدية بالتراجع منذ نحو 15000 إلى 14000 عام. إذن كيف كان البشر بالفعل في أيداهو وتكساس قبل فتح الطريق البري؟ أو إلى الجنوب حتى جنوب تشيلي قبل 14800 عام؟

يقول راف: «هذه نقطة جدل كبير بين علماء الآثار. ستجد الكثير من علماء الآثار الذين يقولون إن الأمريكيين القدماء جاؤوا عبر ممر خالٍ من الجليد -معبر بري، والذي لم يُفتح إلا قبل 14000 عام. لكن لدينا مواقع ما قبل كلوفيس التي هي قديمة كفاية في الأمريكتين، ولا يمكن تفسيرها بواسطة الممر البري».

بالنسبة لراف وآخرين، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن البشر قبل كلوفيس وصلوا إلى أمريكا في قوارب. كان الساحل الغربي لأمريكا الشمالية خاليًا من الجليد قبل آلاف السنين من الداخل. كان بإمكان البشر قبل كلوفيس عبور جسر بيرينغ لاند سيرًا على الأقدام، ومن ثم استخدموا قوارب بسيطة للتجول حول الأنهار الجليدية وشق طريقهم أسفل الساحل الغربي لأمريكا الشمالية والجنوبية.

تدعم الأدلة الجينومية أيضًا نظرية القوارب الساحلية. يقول راف: «تحمل جميع الجينومات القديمة التي تسلسلت توقيعًا للحركة السريعة -الاختلاف السريع للسلالات المختلفة في الأمريكتين، ما يشير إلى أن الناس يتحركون بسرعة كبيرة. ما يرجح أن الحركة كانت بواسطة القوارب، لا سيرًا على الأقدام».

وفقًا لميلتزر فربما وُجد العديد من موجات الهجرة إلى الأمريكتين عبر الجسر البري على مدى عدة آلاف من السنين، لكن الوافدين قبل كلوفيس كانوا متنقلين للغاية وعددهم قليل نسبيًا.

يضيف ميلتزر: «نحن نعلم أن الناس ربما حضروا قبل وقت طويل من ظهورهم على الرادار الأثري. قد يكون ما مثّله كلوفيس -قبل 13000 عام- هو أن السكان في الأمريكيتين وصلوا أخيرًا إلى النقطة التي وُجد فيها عدد كافٍ منهم لإنتاج ما يكفي من الأشياء التي أصبح العثور على آثارها ممكنًا».

2- نظرية الهجرة عبر المحيط الهادئ: الإبحار في المياه المفتوحة

عام 2015، نشر عالم الوراثة بونتوس سكوغلاند بعض النتائج المثيرة للاهتمام من تسلسل جينومات السكان الأصليين المعاصرين الذين يعيشون في منطقة الأمازون في أمريكا الجنوبية. في حين تشاركت الغالبية العظمى من جينومهم مع السكان الأصليين في أجزاء أخرى من الأمريكيتين -ومن الواضح أنهم ينحدرون من شرق سيبيريا- كانت هناك إشارة غامضة في البيانات.

وفقًا لهذه الإشارة، يبدو أن قرويي الأمازون الأصليين يشتركون في سلف مشترك قديم -سُمي «السكان Y»- مع السكان الأصليين من أستراليا، وهي منطقة تضم الأستراليين الأصليين وسكان بابوا غينيا الجديدة.

بالنسبة إلى البعض، كان هذا دليلًا على أن السكان القدامى في أستراليا أو جزرها المجاورة ربما استخدموا طريقة البحث على الطراز البابواوي للإبحار آلاف الأميال عبر المحيط الهادئ المفتوح للوصول إلى ساحل أمريكا الجنوبية.

مع أن الهجرة عبر المحيط الهادئ إلى الأمريكيتين تبدو نظرية معقولة، فإنها تعاني بعض المشكلات.

يصرح راف: «ليس لدينا أي دليل، أثري أو وراثي، على الهجرة عبر المحيط الهادئ. الدليل الوحيد هو وجود إشارة غامضة في الجينوم للأصول المشتركة بين بعض الأمريكيين الجنوبيين، القدامى والحديثين، والأفراد في أستراليا، لكنها لا تتطابق مع ما تتوقعه من الهجرة عبر المحيط الهادئ. ستكون الإشارة أقوى بكثير في الأفراد على الساحل الغربي، وأقل كلما تحركت إلى الشرق، وهو ليس الحال مع هذا النموذج. إنه مبعثر في جميع أنحاء السكان».

بسبب طبيعة الإشارة، يعتقد راف وعلماء الوراثة الآخرون أن السكان Y قدماء جدًا، ونشأوا في آسيا -كانت نفس الإشارة الجينية موجودة في رجل يرجع إلى 40 ألف عام وُجد في كهف صيني. قبل عشرات الآلاف من السنين، ذهب بعض أحفاد السكان Y شمالًا وذهب آخرون جنوبًا. عبر بعض هؤلاء الأحفاد الشماليين الجسر البري في النهاية ووصلوا إلى أمريكا الجنوبية، بينما سكن بعض الأحفاد الجنوبيين أستراليا.

اقرأ أيضًا:

ما أصل الحب وكيف تطور عبر الأنواع خلال التاريخ؟

لمحة تاريخية عن الميثولوجيا الاسكندنافية

ترجمة: زينب عثمان

تدقيق: رغد أبو الراغب

المصدر