كثيرًا ما يُصاغ التاريخ البشري بصورة سلسلة من الوقائع والأحداث، ينتج عن كل واحدة منها انبثاق معارف جديدة ومفاجئة، وما الثورة الزراعية وعصر النهضة والثورة الصناعية إلا أمثلة عن حقب تاريخية كان يُعتَقَد خلالها أن الابتكار والإبداع يتحركان بخطى أسرع مقارنةً بحقب أخرى في التاريخ، ما يؤدي إلى فرض تغيرات شاملة في العلوم والأدب والتكنولوجيا والفلسفة. ومن بين هذه الحقب المشهورة، يتحدث مقالنا عن الثورة العلمية التي ظهرت في أوروبا لحظةَ استيقاظها من فترة خمول فكري (العصور الوسطى المظلمة، كما يسميها المؤرخون).

العلوم الزائفة في حقبة العصور الوسطى:

يعود جل ما كان معروفًا عن العالم الطبيعي خلال العصور الوسطى الباكرة في أوروبا؛ إلى تعاليم الحضارتين الإغريقية والرومانية القديمتين. استمر الناس -قرونًا بعد أفول الحضارة الرومانية- بعدم التشكيك والتساؤل حول الكثير من الأفكار والمفاهيم السائدة طويلًا، على الرغم من الثغرات والعيوب الكبيرة فيها. ويرجع سبب ذلك إلى أن تلك الحقائق حول الكون قد قبلتها الكنسية الكاثوليكية، التي كانت الكيان الرئيس المسؤول عن تعليم المجتمع الغربي وتلقينه الأفكار والعقائد في ذلك الزمان. إضافةً إلى ذلك، كان تحدي عقيدة الكنيسة وتعاليمها بمثابة هرطقة آنذاك، ما يؤدي إلى المجازفة بأن يخضع الشخص المشكِك لمحاكمة، ويُعاقَب بتهمة نشر أفكار مضادة.

ومن أمثلة القواعد أو التعاليم المشهورة، ولكنها غير مثبتة، نجد القوانين الأرسطية في الفيزياء، إذ علَّم أرسطو طلابه أن معدل سرعة سقوط الجسم يحدده وزنه، لأن الأجسام الأثقل تسقط أسرع من الأجسام الأخف وزنًا، اعتقد أرسطو أيضًا أن كل شيء تحت القمر يتألف من أربعة عناصر: التراب والهواء والماء والنار.

أما من ناحية علم الفلك، فإن المنظومة السماوية التي يكون كوكب الأرض مركزها، وتبناها عالم الفلك الإغريقي كلاديوس بطليموس -ويقول فيها إن الأجرام السماوية كالشمس والقمر والكواكب والنجوم المتنوعة تدور جميعها حول الأرض في دوائر مثالية- قد اعتُمدت بوصفها نموذجًا لمنظومات الكواكب. ولفترة من الوقت، استطاع نموذج بطليموس أن يحافظ على استمرار مبدأ مركزية الأرض للكون محافظة فعالة، لأنه كان إلى حد ما دقيقًا عند التنبؤ بحركة الكواكب.

وفيما يتعلق بالعمليات داخل جسم الإنسان؛ فحدِّث ولا حرج من هول الأخطاء وكثرتها في العلوم. فقد استخدم الإغريق والرومان القدماء أسلوب مداواة يُدعَى نظرية الأخلاط، يدَّعي أن السبب الكامن وراء الأمراض هو عدم توازن العناصر الأربعة الأساسية أو الأخلاط. وقد ارتبطت هذه النظرية بنظرية العناصر الأربعة، فمثلًا يقابل الهواء الدم أما الماء فيقابل البلغم.

ولادة الثورة العلمية وثورة الإصلاح:

لحسن الحظ ستفقد الكنيسة هيمنتها على جموع الناس رويدًا رويدًا بمرور الزمن؛ إذ حل أولًا عصر النهضة الذي صاحبه اهتمام متجدد بالفنون والآداب نتج عنه تحول نحو تفكير أكثر استقلالًا. كان لاختراع المطبعة دور في الثورة العلمية، إذ زادت من أعداد الملمّين بالقراءة والكتابة زيادة ضخمة، ومكَّنت القراء من إعادة النظر في الأفكار القديمة ومنظومة المعتقدات.

في عام 1517، ألف مارتن لوثر كتابه الشهير «خمس وتسعون أطروحة». كان لوثر كاهنًا صريحًا في انتقاداته الموجهة للكنسية الكاثوليكية وإصلاحاتها، وقد أدرج في كتابه كل شكاويه وسوَّقها بنشرها في كتيب ووزعها بين الحشود. شجع لوثر مرتادي الكنائس على قراءة الإنجيل بأنفسهم، ومهّد الطريق أمام علماء لاهوت آخرين داعين إلى الإصلاح، مثل جون كالفين.

سيعمل عصر النهضة جنبًا إلى جنب مع جهود لوثر -الذي ساهم في ظهور حركة عُرفت بالإصلاح البروتستانتي-* على تقويض سلطة الكنيسة في جميع الأصعدة، التي كانت بالأساس علومًا زائفة. وفي خضم هذه العملية نجحت روح الانتقاد والإصلاح النامية في توجهها ما جعل تجشم عناء البرهنة والإثبات يكتسب أهمية أكبر لفهم العالم الطبيعي، وبذلك تهيأت الأجواء لرفع الستار عن حقبة الثورة العلمية.

نيكولاس كوبرنيكوس:

بطريقة ما يمكننا القول إن الثورة العلمية قد بدأت بالثورة الكوبرنيكية، التي بدأها عالم الرياضيات والفلكي نيكولاس كوبرنيكوس، الذي وُلد وترعرع في مدينة تورين البولندية، وعاش في عصر النهضة. تابع كوبرنيكوس دراسته في جامعة كراكوف، ودرس لاحقًا في بولونيا في إيطاليا. وهناك قابل كوبرنيكوس عالم الفلك دومينيكو ماريا نوفارا. وسرعان ما تبادل الاثنان أفكارًا علمية تعارضت غالبًا مع نظريات كلاديوس بطليموس المعمول بها منذ زمن طويل.

إبان عودته إلى بولندا، شغل كوبرنيكوس منصب كاهن. عام 1508، بدأ كوبرنيكوس بهدوء تطوير نظام كوكبي يعتمد الشمس مركزًا له بدل نظام بطليموس. وضع النظام الذي خرج به كوبرنيكوس الشمس في المركز مكان الأرض، من أجل تصويب بعض التناقضات وردم بعض الثغرات، التي جعلت نظام بطليموس غير كافٍ للتنبؤ بمواقع الكواكب. وفي نظامه الشمسي (القائم على مركزية الشمس)، فإن السرعة التي تدور بها الأرض والكواكب الأخرى حول الشمس تحددها مسافاتُهم عنها.

من المثير للاهتمام أن كوبرنيكوس لم يكن أول من اقترح مركزية الشمس لنظامنا الشمسي لفهم السماء؛ إذ إن عالم الفلك الإغريقي أريستارخوس من ساموس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد قد اقترح فكرة مماثلة لم تلق آذانًا صاغية قط. أما الاختلاف ما بين الفكرتين فيكمن في أن نموذج كوبرنيكوس قد أثبت أنه أكثر دقة في التنبؤ بحركة الكواكب.

كتب كوبرنيكوس نظرياته المثيرة للجدل بالتفصيل عام 1514 في مخطوطة من أربعين صفحة كان عنوانها: Commentariolus، وكتب كتابًا آخر حمل عنوان: «في دوران الأجرام السماوية»، ونُشِر قبل وفاته عام 1543. ولم يكن أمرًا مفاجئًا أن افتراضات كوبرنيكوس ستغضب الكنيسة الكاثوليكية، التي منعت في نهاية الأمر نشر كتابه عام 1616.

يوهانس كيبلر:

رغم استياء الكنيسة؛ فإن نموذج كوبرنيكوس المعتمد على مركزية الشمس للنظام الشمسي قد أحدث جدلًا كبيرًا في أوساط العلماء. وأحد هؤلاء الأشخاص الذين أظهروا اهتمامًا كبيرًا بأعمال كوبرنيكوس ونظرياته؛ العالم الألماني الشاب يوهانس كيبلر، الذي نشر في عام 1596 كتابًا بعنوان «المعضلة الكونية» كان بمثابة أول كتاب يدافع عن نظريات كوبرنيكوس.

ولكن المشكلة كانت في أن لنموذج كوبرنيكوس عيوبًا وثغرات، ولم يكن دقيقًا تمامًا في التنبؤ بحركة الكواكب. في عام 1609، نشر كيبلر -الذي كان عمله الرئيس التوصل لطريقة تشرح تحرك كوكب المريخ للخلف الذي يحدث دوريًا- كتابًا بعنوان «علم الفلك الجديد»، وشرح فيه نظرية وضعها مفادها أن الكواكب لا تدور حول الشمس في دوائر كاملة مثلما افترض بطليموس وكوبرنيكوس من قبل، بل تدور على طول مسار إهليلجي.

إلى جانب مساهماته في علم الفلك؛ حقق كيبلر اكتشافات مشهورة أخرى؛ إذ توصل إلى أن الانكسار الضوئي هو الذي يسمح للعين بالإدراك البصري، واستغل هذه المعرفة في تطوير نظارات لقصر النظر ومدّه. واستطاع أيضًا وصف طريقة عمل التلسكوب. وما لا يعلمه معظمنا عن كيبلر هو تمكنه من حساب عام ولادة يسوع المسيح.

غاليلو غاليلي:

أثرت نظرية مركزية الشمس لكوبرنيكوس بعالم معاصر آخر لكيبلر؛ العالم الإيطالي غاليلو غاليلي. ولكن خلافًا لكيبلر لم يقتنع غاليلو بحركة الكواكب في مدار إهليلجي، وذهب مع الرأي القائل إن حركة الكواكب دائرية. ومع ذلك، تمخض عن عمل غاليلو دليل ساعد على تعزيز رأي كوبرنيكوس وإضعاف موقف الكنيسة أيضًا.

في عام 1610، بدأ غاليلو بتثبيت عدسات تلسكوبه الذي بناه بنفسه ليراقب الكواكب وحقق سلسلة من الاكتشافات المهمة؛ إذ وجد أن القمر ليس منبسطًا ومستويًا بل فيه جبال وبحيرات باطنية ووديان. ورأى بقعًا على الشمس، واكتشف أن للمشتري كواكب تدور حوله مثل الأرض. وبتعقبه كوكب الزُهرة وجد أن لهذا الكوكب أطوارًا كالقمر، ما أثبت دوران هذا الكوكب حول الشمس.

تعارض الكثير من ملاحظات غاليلو نظرية بطليموس الراسخة والمعتمدَة، التي تجزم بدوران جميع الكواكب حول الأرض، وتدعم نظرية مركزية الشمس. نشر غاليلو بعضًا من ملاحظاته الباكرة في العام ذاته بعنوان: «الرسول الحالم». وقد نتج عن كتابه هذا إضافة إلى نتائج لاحقة توصل إليها؛ اعتناق الكثير من علماء الفلك نظرية كوبرنيكوس وأفكاره وصدام غاليلو مع الكنيسة.

تابع غاليلو في السنوات اللاحقة أساليبه الضلالية والابتداعية -حسب رؤية الكنيسة- التي عمقت من هوة الخلاف بينه وبين الكنيستين الكاثوليكية واللوثرية. وفي عام 1612، دحض غاليلو تفسير أرسطو الذي يرجع سبب طفو الأشياء على الماء إلى شكل الغرض المسطح، وشرح أن سبب ذلك يعود إلى الوزن النسبي للأشياء مقابل الماء وليس مثلما يرى أرسطو.

في عام 1624، حصل غاليلو على إذن لكتابة شرح لنظامي بطليموس وكوبرنيكوس، ثم نشره تحت شرط عدم كتابة هذا الشرح بأسلوب يؤيد نظام كوبرنيكوس، المعتمد على مركزية الشمس. نُشر الكتاب الذي حمل عنوان «حوار حول المنظومتين الرئيستين في العالم» عام 1632، وفُسِّر على أنه خرق للاتفاقية.

وبسرعة أطلقت الكنيسة تحقيقًا، وحاكمت غاليلو بتهمة الهرطقة. وعلى الرغم من أن غاليلو لم يلقَ عقابًا قاسيًا بعد اعترافه بأنه أيَّد نظرية كوبرنيكوس، فقد وُضِع تحت الإقامة الجبرية بقية حياته. ومع ذلك، لم يتوقف قط عن البحث، ونشر عدة نظريات حتى وفاته عام 1642.

إسحاق نيوتن:

بينما ساعد عمل كل من كيبلر وغاليلو على إثبات صحة نظام كوبرنيكوس القائم على مركزية الشمس، كان لا يزال هنالك ثغرة في النظرية؛ إذ لم يستطع الاثنان الإتيان بتفسير محكم للقوة التي تحافظ على حركة الكواكب حول الشمس وسبب حركتها بهذا المسار المحدد. وقد تطلب الأمر عقودًا عدة لاحقة حتى يثبت عالم الحساب الإنكليزي إسحاق نيوتن النموذج الشمسي.

يُعَدُّ إسحاق نيوتن -الذي شكلت اكتشافاته من نواح كثيرة نهاية الثورة العلمية- أحد أهم شخصيات تلك الحقبة، فما حققه خلال زمانه أصبح أساسًا للفيزياء الحديثة، إضافةً إلى أن الكثير من نظرياته المشروحة بالتفصيل في كتابه «المبادئ الحسابية للفلسفة الطبيعية» قد أثرت أيما تأثير في الفيزياء.

يتحدث نيوتن في كتابه المنشور عام 1687 عن ثلاثة قوانين للحركة نستطيع استخدامها في تفسير الآلية الكامنة وراء مدارات الكواكب الإهليلجية؛ إذ يفترض القانون الأول أن شيئًا ما ثابت الحركة سيبقى كذلك ما لم تحركه قوة خارجية. أما القانون الثاني فينص على أن تلك القوة مساوية للكتلة مضروبة بالتسارع، وأن أي تغيير في الحركة يكون متوافقًا مع القوة المؤثرة. وينص القانون الثالث على أن لكل فعل ردة فعل معاكسة تساويه في القيمة.

على الرغم من أن الفضل يعود إلى قوانين نيوتن الثلاث إضافة إلى قانون الجاذبية العام؛ في جعله أحد نجوم المجتمع العلمي، فقد كانت له مساهمات مهمة أخرى في مجال البصريات؛ إذ بنى أول تلسكوب عاكس فعّال وطور نظرية تتعلق بالألوان.

هوامش:

حركة الإصلاح البروتستانتي: احتجاج سياسي وديني ظهر في القرن السادس عشر، تحدّى السلطة البابوية، وشجعه مارتن لوثر والملك هنري الثامن، وأدى إلى حرب دامت ثلاثين عامًا، وأحدث ثورة إصلاح مضادة.

اقرأ أيضًا:

جاليليو و الثورة العلمية

و ماذا لو ” سرق ” الغرب أسس ثورته العلمية من علماء العرب ؟

ترجمة: طارق العبد

تدقيق: عبد الرحمن داده

مراجعة: حسين جرود

المصدر