أعلن العلماء عن اكتشاف جزيء بوزون هيغز منذ عشرة أعوام، وهو يُفسر سبب تكتل الجسيمات الأولية (أصغر أحجار البناء في الطبيعة)، وجاءت هذه النتيجة ختام رحلة دامت عقودًا طويلة مليئة بالصعاب، وعُدّ هذا الاكتشاف أهم إنجاز في هذا المجال، لكن نهاية تلك الفترة مهدت الطريق لحقبة أساسها الفيزياء التجريبية.

في العقد المنصرم أكدت قياسات خصائص جزيء بوزون هيغز التنبؤات النابعة من استخدام النموذج الفيزيائي القياسي -أفضل نموذج وضعناه لدراسة الجسيمات- لكنها أيضًا سلطت الضوء على محدودية هذا النموذج، وإن وجدت نظرية أخرى تُساعدنا في تقصي ماهية الطبيعة.

وقد تنبأ الفيزيائي (بيتر هيغز) بوجود جزيء بوزون هيغز في أبحاثه التي نشرها بين العامين 1964 و 1966، وأكد حتمية اكتشاف الجزيء؛ لأنه جزءٌ من الآلية التي فسرت لنا أن الجسيمات الأولية تمتلك كتلة.

تُخبرنا هذه النظرية أن كُتل الجسيمات نتجت عن اقترانها مع حقلٍ يُدعى حقل هيغز، وبحسب هذا النموذج سينتج عن حقل هيغز جزيء بوزون هيغز، وبمعنى آخر لو لم يظهر هذا الجزيء لفشلت النظرية بأكملها.

ولكن تبين فورًا أن اكتشاف هذا الجزيء لن يكون سهلًا، إذ عندما عمد ثلاثة علماء في الفيزياء الجزيئية إلى محاولة حساب خاصيات بوزون هيغز، لم يكن بوسعهم سوى الاعتذار: «نعتذر من العلماء التجريبيين لعدم قدرتنا على معرفة كتلة بوزون هيغز، وعجزنا عن إيجاد ارتباطاتٍ بينها وبين الجسيمات الأخرى في الطبيعة. ولذلك نودُ عدم التشجيع على إجراء بحوثٍ تجريبية أُخرى لاكتشاف بوزون هيغز».

تطلب بروز فرصة جديدة لبدء البحث عن جزيء بوزون هيغز بجدية، أن ننتظر حتى عام 1989، لبدء أول تجربةٍ لتحقيق هذه الغاية.

كانت فكرة التجربة مبنية على محاولة تصادم الجسيمات ذات الطاقة العالية ببعضها لمحاولة خلق الجزيء داخل نفقٍ طوله 27 كيلومترًا في مركز أبحاث CERN في جنيف، وذلك باستخدام أكبر مصادم بوزيترون إلكتروني على الإطلاق، والبوزيترون له نفس خصائص الإلكترون تمامًا لكن يحمل شحنة معاكسة. وقد دامت هذه التجربة 11 عامًا، لكن ما نتج عنها من طاقةٍ عظمى كان ينقصه 5% من الطاقة المطلوبة لخلق جزيء بوزون هيغز.

في ذلك الوقت بدأت أميركا باستخدام مصادمها الأكثر شهرة (التيفترون) لجمع المعلومات في فرميلاب Fermilab، قرب شيكاغو.

كانت تجربة التفترون مبنية على مصادمة البروتونات مع النيترونات -وهذان العنصران اللذان يُشكلان نواة الذرة- وأيضًا أضداد البروتونات -وهي تشبه البروتونات تقريبًا لكن تحمل شحنة معاكسة- وأدت المصادمة إلى بذل طاقة أعلى بخمس مرات ممّا أُنجز في جنيف، وعلى ما بدا لا بد أن تكون تلك الطاقة الهائلة كافية لخلق جزيء بوزون هيغز، ولكن تبين أنَّ تصادمات البروتونات وأضدادها ينتج عنها كثيرٌ من الحُطام، وذلك يجعل إمكانية استخراج البيانات من الإشارات أمرًا بالغ الصعوبة.

في عام 2011، توقف مصادم تفترون عن العمل، وهكذا تحطمت أحلام اكتشاف جزيء بوزون هيغز مرةً أخرى.

عام 2010، استُخدم مصادم الهادرونات الكبير (LHC) لمصادمة البروتونات بطاقاتٍ أعلى بسبع مرات من مصادم التفترون. وأخيرًا في الرابع من يوليو 2012 جُمعت بياناتٌ كافية في سيرن بإجراء تجربتين مستقلتين ليعلنوا إيجاد بوزون هيغز. وفي السنة التالية ربح كلٌ من هيغز وشريكه فرانسوا إنجلرت جائزة نوبل لإثبات وجود آلية تُساهم في فهمنا أصول الكُتل التي تُؤلف الجسيمات دون الذرية.

كل ذلك لا يكفي لوصف أهمية هذا الاكتشاف، فدون بوزون هيغز تنهار دعائم الفيزياء الجزيئية كليًا، ودون الكُتل الموجودة في الجسيمات الأولية لما كانت أيّ من الذرات ولا البشر ولا الأنظمة الشمسية ولا أيّ بنية أُخرى في الكون.

مشاكل تلوح في الأفق

مع أنه اكتشاف هام، فإنه أدى إلى ظهور تساؤلات جديدة مهمة؛ فقد استمر إجراء التجارب في سيرن لمعرفة ماهية جزيء بوزون هيغز، وقد تبين أنَّ خصائص هذا الجزيء لا تساعدنا على تحديد كُتل الجسيمات الأولية فحسب، وإنما تُفيد في معرفة استقرارها أيضًا. وكما يبدو الآن نحن في حالةٍ غير مستقرة تمامًا، وأيضًا قد يدخل الكون في “مرحلة انتقالية” مُفاجئة سريعة وهذا يُشبه إلى حدٍ ما ذوبان الثلج بسرعة وتحوله إلى سائل، وبالطبع بدلًا من تحوله من حالةٍ صلبة إلى سائلة مثل الماء، سينتج عن تحول الكون اختلاف الكُتل الموجودة اختلافًا جذريًا، وتغير كافة قوانين الطبيعة التي نعرفها.

وبحكم أن الكون ما يزالُ مستقرًا لسببٍ ما، فهذا خير دليل على نقصٍ في الحسابات، أيّ يوجد شيءٌ آخر لم نكتشفه بعد.

والآن بعد ثلاث سنوات من الانقطاع؛ لإجراء الصيانة وإضافة التحسينات، سيعود مصادم الهادرونات الكبير LHC إلى الخدمة، وستجري تجارب صدم بطاقات هائلة جدًا تُعادل ضعف تلك الطاقة التي أسفرت عن اكتشاف بوزون هيغز، وقد يُساعد ذلك في إيجاد الجسيمات الناقصة التي لها دور في الحفاظ على الحد الفاصل بين استقرار الكون ودخوله في حالة انتقالية سريعة.

ستساعد التجربة على الإجابة عن تساؤل آخر أيضًا: هل يُمكننا تحليل خصائص بوزون هيغز لاكتشاف المادة المظلمة؟ تلك المادة الخفية المصنوع منها أغلب الكون. إنَّ المادة المظلمة ليس لها شحنة، وبوزون هيغز بالذات يتفاعل تفاعلًا فريدًا من نوعه مع المواد عديمة الشحنة.

كل هذه الخصائص المميزة وضعت الفيزيائيين في حيرةٍ من أمرهم، إن كان بوزون هيغز جسيمًا أساسيًا لوجود الكون أم لا. هل من المحتمل وجود قوة أخرى جديدة نجهلها عدا قوى الطبيعة الأربع وهي الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة والقوية؟ وماذا لو كانت هذه القوة المجهولة تربط الجسيمات ببعضها لتكوين شيءٍ متماسك ندعوه بوزون هيغز؟

هذه النظريات تُفسر نتائج القياسات الحديثة التي تُشير إلى عدم تصرف الجسيمات بالشكل المُفترض الذي يقدمه لنا النموذج القياسي في الفيزياء، ولذلك لا بد من الاستمرار في دراسة بوزون هيغز بجدية لمعرفة هل ثمة فيزياء أخرى مسؤولة عن عمل النموذج القياسي نفسه أم لا؟

مع الوقت سيواجه مصادم الهادرونات الكبير المشكلة ذاتها التي واجهها مصادم تيفترون، وهي فوضوية تصادم البروتونات ومحدودية الطاقة العظمى المُستطاع الوصول إليها، ومع أننا نملك ترسانة واسعة من الفيزياء الجزيئية الحديثة تتضمن كاشفات متطورة، وطرق كشف متقدمة وعلم تلقين الآلة، فلن يغير ذلك من محدودية مصادم LHC.

سيساعد اختراع مصادم جديد عالي الطاقة مُخصص لإنتاج جزيئات بوزون هيغز على فهم خصائص الجزيء فهمًا دقيقًا. وسنتمكن بعد ذلك من تحديد كيفية تفاعل الجزيء مع حقله، وستكون مفيدة لدراسة هذا التفاعل وفهم عملية تشكيل الكتلة لدى الجسيمات الأولية. وفي حال ظهور اختلاف بين التوقعات المُفترضة لهذه التجربة والقياسات المستقبلية ستكون تلك إشارة واضحة على حاجتنا إلى ابتكار فيزياء جديدة لحل المشكلة.

لنتائج هذه القياسات أهمية كبيرة ليس فقط في مجال فيزياء المصادِمات، وإنما أيضًا في إزالة عوائق فهم أصل المادة المظلمة أو زيادة الأمر صعوبةً، والأمر نفسه ينطبق عند التحدث عن الكون بأكمله، وربما مصيره.

اقرأ أيضًا:

اكتشاف نوع جديد من الجسيمات المتعلقة بجسيم بوزون هيغز

رصد محتمل لبوزون هيغز في تحول غير مسبوق

ترجمة: طاهر قوجة

تدقيق: محمد سمير

المصدر