بعد انتهاء عرض الفيزياء عند اليونانين القدماء في الحلقتين السابقتين، ربما يتبادر الى ذهن القارئ، اننا سوف نتحدث في هذة الحلقة عن غاليليو مثلاَ، او نتعرض لحقبة جديدة في تاريخ هذا العلم، ولكن لم يكن من الصواب ان نتجاهل علم الفلك، الذي يرتبط كثيرًا بعلم الفيزياء منذ قديم الأزل وحتى الآن، فوجب علينا ان نوضح تأثير علم الفلك على نشأة علم الفيزياء خاصةً عند الليونانين القدماء.

يقول الأديب الأمريكي « جيمس هنري » ” لا شئ يتحرك في هذا العالم، إلا وله منشأ يوناني، ماعدا قوى الطبيعة العمياء.”، فعلم الفيزياء بشكل عام تبدأ اركانه من عند علم الفلك اليوناني، فاليونانين اول من حاولوا فهم حركة النجوم والكواكب، فهم اول من افترضوا ان الأجرام السماوية تخضع لقوى وقوانين غير مرئية، وحاولوا ايضًا تطويع علم الرياضيات والهندسة لفهم الية عمل عذا الكون، فعملوا على حساب قطر كوكب الأرض، وحساب عدد حبات الرمال.

مع كل هذا لم يقم اليونانين بعمل نظريات او مبادئ عن علم الفلك، ولكنهم قاموا بتسجيل الكثير من جداول الرصد، وقاموا بعمل تصميمات اولية عن شكل الكون، وهذه التصميمات ساعدت من بعدهم كثيرًا في اكتشاف الكون، وبالتالي فاسهامات اليونانين في الفلك مماثلة للفيزياء، لم يقوموا بالتدوين لأي اساسيات او مبادئ نظرية يعملوا عليها، ولكنهم سجلوا مشاهدات ونتائج فقط دون الوصول للنظرية، ولكن يعتبر البعض ان اسهامتهم في الفلك تتقدم بخطوة او خطوتين عنها في الفيزياء، وذلك لأن النظر للسماء ومناظرها الخلابة، يعتبر اكثر جذبًا للأهتمام من دراسة المادة وتركيبها وتكوينها، بالأضافة الى انه يدفع للتساؤل والحيرة وهذا ما يُرضي الغريزة الفلسفية لدى اليونانين.

قام فيثاغورث بأفتراض ان الأرض هي مركز الكون، وتدور في محيط دائرة، دورة كل 24ساعة، وذلك حول نار كبيرة، وهذة النار هي التي تجعل الشمس والقمر مضيئان، وكان هذا الرأي هو الأكثر انتشارًا بينهم، الا ان القليل لم يكونوا مقتنعين بأن الأرض هي مركز الكون. ومن ضمن هؤلاء عالم رياضيات، واحد تلاميذ مدرسة ( اللوقيون ) التي اسسها ارسطو، هو « ارسطرخوس » الذي اعتقد بأن الشمس هي مركز الكون، وأن الأرض تدور حولها، وتوصل « ارسطرخوس » لهذا الأفتراض بعد ما قام بمحاولة قياس بُعد الشمس والقمر عن الأرض.

افترض « ارسطرخوس » بأنه عندما يكون القمر في طور التربيع الأول ( اي ان نصف القمر المرئي مضاء )، فأن المستقيم الواصل من مركز الأرض الى مركز القمر، عمودي على المستقيم الممتد من مركز القمر الى مركز الشمس، وبالتالي لو ان الأرض مركز الكون، فأن المسافة بين القمر والأرض مساوية بين القمر والشمس، وبالتالي تكون الزاوية الناتجة من تعامد الخطين المستقيمين 45̊، لكنه وجد ان هذه الزاوية تساوي 90̊، وبالتالي بُعد الشمس عن القمر اكبر بكثير من بُعدها عن الأرض، ووجد ايضًا ان الشمس والقمر بحجم واحد بالرغم من ابتعادهما الشاسع عن بعض، وبالتالي فأن الشمس حجمها اكبر بكثير من القمر ومن الأرض، فكيف لجسم كبير ( الشمس ) يدور حول جسم اصغر ( الأرض )؟!، وهنا سقط افتراض فيثاغورث، واقتنع ارسطرخوس بأن الشمس هي مركز الأرض.

افكار ارسطرخوس لاقت قبول واستحسان عند بعض النقاد والفلاسفة، الى انها لاقت هجومًا عنيفًا وتشكيكًا، فعلى سبيل المثال قال ارخميدس بأن ما قام به ارسطرخوس يشمل خطأ رياضي، فقد افترض ارسطرخوس بأن نسبة الأرض ككرة ثابتة، اذا ما قورنت بأي نجم في السماء، ولكن في الحقيقة ان ارسطرخوس لم يكن يريد ان يقوم بعمل اثباتات رياضية، فأرسطرخوس افترض هذا الأفتراض من اجل توضيح صغر حجم كوكب الأرض مقارنةً بهذا الكون الشاسع، بالأضافة الى ان علماء عظماء امثال بطليموس قدموا نظريات عن الكون أكثر تعقيدًا من هذه النظرية، وبالتالى فقدت نظرية ارسطرخوس اهميتها لبساطتها.

ولكن قبل ارسطرخوس بقرن من الزمان، كان هناك « هيراقليدس » الذي افترض بأن الأرض تدور حول محورها فقط، ولكن هذا الرأي كان تجرأ كبير على افتراضات ارسطو وافلاطون الذين افترضوا أن الكون كله يدور حول الأرض، ولم تقف محاولات « هيراقليدس » عند هذا الحد بل انه لاحظ لمعان كوكب الزهرة طوال السنة، فأفترض انه بعيد جدًا عن الأرض ليدور حولها، وبالتالي يدور حول الشمس.

كل هذا يدل على ان محاولات اليونانين القدماء قد اخذت شيئًا من الصواب، وافادت كل العلماء من بعدهم في فهم بنية هذا الكون.

سنستعرض في الحلقة القادمة محاولات البطالمة وانجازتهم في هذا العلم.


 

المصدر الأول

المصدر الثاني