أولًا يجب علينا الإجابة عن أسئلة أخرى بخصوص الحياة على القمر.

إنها السنة 3000، وقد استُنزِفت كل موارد الكرة الأرضية، وأصبح البشر جنسًا يسافر عبر الفضاء ويشيّد مستعمرات على القمر. تتجمّع القباب الواسعة والمغلقة حول سطحه، وتمتلئ المدن بمئات بل آلاف البشر. لقد أصبحت هذه الصخرة الباردة رمادية اللون ملاذًا جديدًا للبشرية.

طبعًا كل هذا من وحي الخيال. ولكن الرؤى المستقبلية لا تكتمل إلا بوجود مستعمرة للبشر خارج الكرة الأرضية؛ ولأنه هو أقرب جسم سماوي لكوكبنا، كان الخيارَ الأسهل لنا لنتخيل مستقبلنا عليه.

ولكن هل تتوافق هذه الرؤيا مع الواقع؟ هل يمكن للقمر أن يكون في يوم من الأيام ملاذًا للبشر؟ وإذا كان كذلك حقًا فكم من البشر يمكن لسطحه أن يستوعب؟

هناك طريقة واحدة للإجابة عن هذه التساؤلات. بكل بساطة يجب أن نأخذ مساحة القمر بعين الاعتبار.

تُقدَّر مساحته بنحو 15.9 بالمئة من مساحة الأرض بغض النظر عن المناطق التي تشغلها المحيطات. إذا حشدنا السكان في هذه المنطقة بكثافة مشابهة لأكثر المدن ازدحامًا، فسنكون قادرين على وضع عدد كبير من السكان على سطح القمر.

ولكن عدد السكان الذين يمكن أن يعيشوا فوق سطح القمر مختلف عن عدد السكان الذين يمكن للقمر ان يستوعبهم بشكل مستديم. فالقمر بالتأكيد أكثر فقرًا من الأرض.

قالت العالمة داربي ديار في معهد بلانتاري للعلوم في أريزونا وأستاذة علم الفلك في جامعة مونت هوليوك في ماساتشوسيت: «إن القمر هو مكان عقيم جدًا، وكل كائن يحاول أن يتوسع في نطاقه البيئي، ولكن النطاق الجديد لا يرحب بالبشر».

معيقات العيش على سطح القمر

  • إن الأمطار لا تهطل هناك أو تتجمع بشكل يمكننا من أن نستخرجه لنشربه لاحقًا، كما يحدث في الأرض.
  • يفتقر إلى غلافٍ جوي يحوي هواء قابلًا للتنفس.
  • القمر معرض أيضًا للعواصف الشمسية، والانفجارات الشمسية التي تبعث إشعاعاتٍ إليكتروميغناطيسية لا يستطيع تابعنا الصغير أن يشتتها من دون حقل مغناطيسي وهو ما لا يمتلكه القمر. توجد أيضا درجات حرارة قصوى وفترات ليل ونهار طويلة ومتنوابة.
  • ما سبق يجعلنا نظن أن الحياة على سطح القمر مستحيلةٌ، ولكن الأمر ليس كذلك.
  • في الواقع، إن العناصر الأساسية لحياة البشر على سطحه أي: الهواء، والماء، والأكل، والمأوى ليست صعبة المنال كما تعتقد من الناحية النظرية.
البشر على سطح القمر

البشر على سطح القمر

الهواء على سطحه

إذا أراد مئة إنسان العيش على القمر فإننا نحتاج إلى نقل الهواء وضخه في مبانٍ مغلقة.

قد يبدو هذا غير مستدام، ولكنه سيكون على المدى القريب غيرَ مكلف وفقَ قولِ ماركوس لاندغراف مدير مشروع القمر في وكالة الفضاء الأوروبية، يضيف ماركوس: «لا يستهلك الناس الكثير من الهواء، و لن نحتاج لإنتاج الهواء، بل يمكننا إحضاره ببساطة، فتكاليف نقل الهواء ما زال التعامل معها سهلًا». ولكن لو نما عدد السكان ليصير عشرات الآلاف، عندها سنضطر لتركيب الأوكسجين وهي عملية مكلفة، لكنّ نمو الاكتشافات الفضائية في المستقبل قد يساهم في جعل العملية أقل تكلفة».

يضيف لاندغراف: «إن المركبات الفضائية تحتاج للأوكسجين، لهذا إذا ارتفع الطلب عليه سيكون من المنطقي بناء مولدات للأوكسجين هناك من أجل مدافع الصواريخ، لا من أجل توفير الماء الصالح للشرب أو الهواء من أجل البشر». بناء المولدات سيقلل تكاليف النقل، ما سيجعل توفير الهواء لسكان القمر أرخص.

الماء في كل مكان

اعتقد العلماء منذ بضعة عقود أن القمر جاف تمامًا. ولكنهم الآن يعلمون أن هناك قدرًا مهمًا من السوائل الموزعة على سطحه.

تقول العالمة ديار: «نعتقد بأن الماء من مخلفات ما بعد تكوين القمر. و نعلم أن المذنبات التي هي كرات ثلج متسخة قد اصطدمت بسطح القمر على نحو دوري، هذا دليل جيد لكي نقول إن تلك الحفر المخلفة عند اصطدام المذنبات بسطح القمر ما زال داخلها احتياطي من الثلج».

تضيف قائلة إن هناك مصدرًا آخر للماء يأتي من الرياح الشمسية التي تعبر الفضاء محملة بالبروتونات وتصطدم بالإلكترونات على سطح القمر مكونة الهيدروجين.
كل هذا يشكل قدرًا لا بأس به من الماء على سطح القمر ولربما يمكن أن يكون كافيًا لعدد قليل من السكان. تساعد التقنيات التي طُورت في المحطة الفضائية العالمية على إعادة تدوير المياه التي يستخدمها رواد الفضاء في الاستحمام، والبول، والعرق لتصبح صالحةً للشرب، ويمكن إعادة تدوير الرطوبة من أنفاس رواد الفضاء.

هذه التقنيات يمكن أن تصنع حلقة مفرغة لإنتاج الماء للسكان على سطح القمر.

تقول ديار لكنّ إعادة التدوير لا تكفي لأنها لن تجعل مخزون المياه غير محدود. إعادة تدوير المياه بشكل متكرر لها سلبياتها؛ لذلك يجب ملء الخزانات مرة كل حين.

تضيف ديار إن استخراج مياه القمر بوساطة سحق الصخور القمرية واستخراج الجليد من عمق الحفر سيتطلب طاقة هائلة ومكلفة. تقول ديار: «أعتقد أن تعمير القمر سيعتمد على إحضار الهيدروجين إلى هناك». يقول لاندغراف: «نقل الهيدروجين سيكون مكلفًا أيضًا: نحو 220 ألف دولار للكيلوغرام الواحد».
من الصعب تقدير عدد السكان الذي يستطيع القمر أن يستوعبه لأننا نجهل كمية الماء الموجودة على سطحه. ولكننا على الأقل نعلم أننا نستطيع أن نوفر نسبيًا مصدرًا مستدامًا للماء.

يقدر لاندغراف أن أول دفعة من البشر على القمر لن تحتاج إلى اللجوء إلى الماء على القمر لمدة خمس أو عشر سنوات من التعمير. سيكون من الأرخص أن ننقل الماء إلى هناك ونعيد تدويره للبشر الذين سيعتبرون القمر مسكنًا لهم.

أما عن الزراعة على سطح القمر، فنستطيع أن نقلد ظروف الأرض التي تساعد على نمو النباتات بوساطة نظام شبه بيئي كما هو الحال مع القباب المغلقة وفق قول لاندغراف.

يمكن للزراعة على سطح القمر أن تزدهر بشكل مهم لإطعام الآلاف إذ إنها ستتغذى على أشعة الشمس وتسقى بالمياه التي أعيد تدويرها. هناك العديد من الأبحاث التي تشير إلى أن الزراعة في الفضاء ستنجح.

تستطيع الموارد الطبيعية على القمر أن تدعم عشرات الآلاف، بل الملايين من البشر. لكن لماذا ليس هناك مئات منا على سطحه؟

يقول لاندغراف: «إن أكبر المعيقات لتعمير القمر لا تتعلق بالموارد الطبيعية، بل بالتكلفة الباهظة من أجل نقل البشر إلى هناك بالمركبات الفضائية. يستلزم القيام بهذا العمل قفزاتٍ نوعيةً في التكنولوجيا مثل اختراع المصاعد الفضائية.

لو امتلكنا هذه المصاعد فسيكون هناك عشرات الآلاف من البشر هناك.

وهناك شيء آخر يؤخر استيطاننا للقمر وهو الهدف. فنحن لا ننظر إليه الآن بوصفه ملاذًا نلجأ إليه في الكوارث الطبيعية الحادة، بل ننظر إليه بوصفه محور أبحاث وقاعدة لاكتشاف نظامنا الشمسي.

انطلاقا من هذه المقاربة يقول لاندغراف: «نستطيع أن نبحث عن دلائل لحياة الإنسان في القارة القطبية الجنوبية؛ لأنها تعد البيئة الأكثر تشابهًا معه على الأرض. القارة القطبية الجنوبية ملاذ لنحو ألف وأربعمئة باحثٍ موسمي يكافح الظروف القاسية والجافة للقيام بعمله. هذا يعطينا فكرة عن عدد السكان الذين بإمكانهم فعلًا العيش على سطح القمر في العقود القادمة».

وفقا لديار: «يمكن لهذه النسبة من السكان الاضمحلال مع الوقت وذلك عن طريق استبدالهم بروبوتات أرخص وأكثر فعالية. مع تقدم التكنولوجيا لن يكون هناك سبب وجيه لإرسال البشر ليقوموا بالأبحاث. لكن هذا لا يعني أن أحلامنا بالحياة هناك قد انتهت. فهناك عامل آخر يدعونا لاستيطانه: ألا وهو حب البشر للاستكشاف الذي لا يمكن إشباعه. وهذا قد يلهم الأجيال القادمة لتعمير القمر بالملايين أو اتخاذه قاعدة لرحلات استكشافية أخرى في الفضاء».

يقول لاندغراف: «البشر هم النوع الوحيد الذي يستكشف دائمًا حتى وإن لم تكن هناك فائدة من ذلك. ولقد كنا ناجحين باستعمالنا لهذه الإستراتيجية. فهل من المعقول تغير هذا؟ لا أعتقد ذلك».

إقرأ ايضًا: هل يمتلك بلوتو مقومات الحياة ؟

ترجمة ياسين الغفولي – تدقيق الياس عباس – مراجعة رزان حميدة

المصدر