كان المغول غزاةً عسكريين وحشيين، لكنهم أظهروا أيضًا اهتمامًا كبيرًا بتشجيع التعاون الفكري، نتعرف في هذا المقال على بعض هذه الجوانب التي أدت فيها الإمبراطورية المغولية دورًا يُدخلها التاريخ من بابٍ آخر.

كان بزوغ الإمبراطورية المغولية حدثًا مزلزلًا في التاريخ الأوراسي، إذ توسعت جيوش من رماة المغول من أوطانهم وانتشرت لغزو المناطق البعيدة عن بعضها كساحل المحيط الهادئ والمناطق الحدودية التي تواجه مملكتي بولندا وهنغاريا. ومع تقدم القرن الثالث عشر، أصبحت الإمبراطوريات التاريخية التي أثبتت نفسها بثقة حينها ترقد تحت الأنقاض المنهارة. كان ذلك وقت الغزو، ولم تكن الإمبراطورية المغولية مترددة في فرض حكمها، وخلفت جيوشها الدمار وراءها والمدن المنهوبة وأكوام الجثث والمستوطنات المهجورة.

وما إن تغلبت جيوشهم على المقاومة كلها، سعى حكام الإمبراطورية المغولية لإحياء التجارة وإعادة بناء الصناعات وتشجيع الازدهار. ومثل العديد من الغزاة، أرادوا أن يكونوا قادرين على تحصيل الضرائب، وربما الأهم من ذلك، أن يضمنوا أن يوجه الجميع داخل أراضيهم جهودهم نحو الهدف النهائي للإمبراطورية المغولية: الحكم على كل الحضارة الإنسانية.

ولتحقيق هذه الغاية، بذل المغول قصارى جهدهم لتجنيد الحرفيين والتجار المهرة الذين قد تكون لهم قيمة في إمبراطوريتهم. وغالبًا ما كان هؤلاء الأشخاص يُقتلعون من جذورهم ويُنقلون آلاف الكيلومترات الى أماكن يشعر المغول أنها مفيدة جدًا لهم، وقد دخل بعضهم الإمبراطورية المغولية طوعًا (كالرحالة ماركو بولو)، مقدمين خدماتهم بوصفهم مترجمين أو دبلوماسيين أو تجار. وفيما يلي خمس طرق أثرت بها الإمبراطورية المغولية في تاريخ التكنولوجيا والابتكار.

إنشاء الإمبراطورية المغولية للمراكز البحثية ممهدين الطريق للتقدم العلمي

كان المثقفون والعلماء ثروة هامة بالنسبة لقادة المغول، إذ سعوا عمومًا إلى استخدامهم للعمل من أجل تحسين إمبراطوريتهم. في ستينيات القرن الثاني عشر، أنشأ القائد المغولي هولاكو (حفيد جنكيز خان) مركز أبحاث للمفكرين في جميع أنحاء أوراسيا في مكان يسمى مراغا (يقع الآن في مقاطعة أذربيجان الشرقية في إيران). أراد هولاكو من هؤلاء المثقفين ممارسة مواهبهم في خدمته، وكان حريصًا على تكريس أنفسهم لدراسة الكيمياء وعلم التنجيم وأي شيء قد يحسن من صحة السلطان الحاكم في الإمبراطورية المغولية. والواقع أن الكثير من هذه الأهداف كانت غير قابلة للتطبيق بطبيعة الحال، لكن ذلك مهد الطريق بتجميع كثير من المفكرين المدربين على مستوى عالٍ لإحراز تقدم من شأنه أن يخلف تأثيرًا دائمًا، وخاصة في مجال علم المثلثات حسبما أظهر جورج لين في كتابه (الحكم المغولي المبكر في إيران) في القرن الثالث عشر. وعمل هولاكو أيضًا مع الفلكي الفارسي نصير الدين الطوسي لبناء مرصد مراغة، الذي كان من بين المراصد الأكثر تقدمًا في العالم في ذلك الوقت.

تسريع التجارة والتوسع في الاختراعات الجديدة

شجعت الإمبراطورية المغولية التجارة الحرة وغالبًا ما كانت تأخذ السلع من بلد واحد وتقدمها إلى بلدان أخرى، ففتح ذلك أسواقًا جديدةً وازدهر الاقتصاد. وبالغزو المغولي للصين أصبحت التقنيات التي كانت معروفة قليلًا في السابق انتقلت إلى العالم الأوسع عبر الشبكات التي تمتد عبر الإمبراطورية المغولية.

ويوضح تيموثي ماي في كتاب (فن الحرب المغولي) أن البارود هو مثال رئيسي على ذلك، إذ لا يُعرف الكثير عن كيفية انتقال تقنية البارود من الصين إلى العالم الأوسع، ولكن في هذه الفترة وصلت إلى البحر الأبيض المتوسط ومن هناك، إلى الإمبراطورية البيزنطية، والعالم المسيحي الغربي، وأجزاء كثيرة من العالم الأوسع. وفي في دراسة أجراها أحمد الحسن عام 2003، يشير إلى أن بعض أجزاء العالم الإسلامي قد تمكنت من الحصول على البارود ومشتقاته بالفعل قبل ذلك، لكن يبدو أن ظهور الإمبراطورية المغولية قد سرّع انتشار هذه التقنية كثيرًا.

نشر تقنيات الأسلحة

بينما كانت بعض التقنيات العسكرية تتجه غربًا، كانت أخرى تتجه شرقًا. خلال سبعينيات القرن الثاني عشر، أرسل حكام الإمبراطورية المغولية في الشرق الأدنى مهندسين مسلمين قادرين على بناء مجانيق حصار متقدمة في الصين للمساعدة في الإطاحة المغولية النهائية بأسرة سونغ. كتب مايكل فولتون في (المدفعية في عصر الحروب الصليبية)، طُورت هذه المجانيق ذات الثقل الموازن في الشرق الأدنى خلال الحروب الصليبية في أواخر القرن الثاني عشر.

تجربة النقود الورقية

جرب المغول استخدام النقود الورقية، التي تطورت أصلًا في الصين، وكما هو موثق في كتابات ماركو بولو، نشر قادة المغول في الشرق الأدنى هذا الشكل الجديد من العملة في مركزهم التجاري الرئيسي في تبريز، وأصروا على أن يستخدمها الناس تحت التّهديد بالإعدام. وكانت النتيجة كارثية، لأن المجتمعات المحلية رفضت الثقة بالنقود الورقية الجديدة. لكنها ما تزال مثالًا على رغبة المغول في تجربة أفكار وممارسات رعاياهم المُستعمَرين.

تنظيم جيوش ذات كفاءة عالية

في هذه الأثناء، عمل خصوم المغول بكد ليتعلموا من الإمبراطورية المغولية العظيمة. في عام 1245، أرسل البابا إنوسنت الرابع الراهب الفرنسيسكاني جون كاربيني في مهمة إلى السهوب الأوراسية لتمثيل مصالح العالم المسيحي لدى المغول وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن هذا الخصم الجديد. وعندما عاد جون إلى إيطاليا، قدَّم تقريرًا مروِّعًا يصف فيه حجم آلة الحرب المغولية وفعاليتها. فقد نصح حكام العالم المسيحي أن يتعلموا من نموذجهم المعروف بالنظام العشري. ووفقًا لهذا النهج، تنتظم الفرق المكونة من 10 جنود في سرايا من 100 جندي، ثم تنتظم في تشكيلات من 1000 جندي، وهكذا دواليك. فبعدما رأى فعالية هذا النظام، شعر أن الجيوش التي تتجمع بالطريقة نفسها هي وحدها التي قد تهزم جيوش الإمبراطورية المغولية في المعركة. تجاهل الجميع نصيحته، ولكن القوى الأخرى استخدمت هذا النظام لإحداث تأثير كبير.

نشر الأمراض عن غير قصد

في حين ساهمت فتوحات الإمبراطورية المغولية في الابتكارات الجديدة، لم تكن الأفكار وحدها التي عبرت مسافات شاسعة خلال هذه الفترة، إذ أدى بزوغ الإمبراطورية المغولية دورًا في انتشار الموت الأسود. وكما تقترح مونيكا غرين في دراسة عام 2020، قد يكون هذا الطاعون قد انتقل عن غير قصد بالقوارض والبراغيث التي حملتها جيوش المغول والتجار خارج جبال تيان شان، لتصيب المجتمعات سواء داخل الإمبراطورية أو خارج حدودها.

مع مرور الوقت، تجزأت الإمبراطورية المغولية إلى مناطق متحاربة مختلفة حيث تنافست السلالات الرئيسية مع بعضها البعض على السيطرة على أراضيها الشاسعة. وظهر حكام جدد، اعتمدوا في كثير من الأحيان ثقافة ومعتقدات الشعب الذي تحت سيطرتهم، ما أدى إلى تعميق الانقسامات داخل الإمبراطورية، ومع تقلص الإمبراطورية المغولية، انتهت الفترة التي انتقلت فيها الأفكار والأديان والأمراض بسرعة من طرف واحد من القارة إلى الطرف الآخر.

اقرأ أيضًا:

جنكيز خان: مؤسس أكبر إمبراطورية في التاريخ

الغزو المغولي لأوروبا

ترجمة: حنان الميهوب

تدقيق: رغد أبو الراغب

مراجعة: محمد حسان عجك

المصدر