في العقود السابقة، لوحظ أن هناك ارتفاع في معدلات الانتحار في الولايات المتحدة. ففي عام 1999، كان معدل الانتحار نحو 10 لكل 100000 شخص. وفي آخر عام أُجريت فيه الإحصائيات كان عام 2017، كانت نتيجة تلك الإحصائيات هي أن نحو 14 شخصًا قد انتحر من كل 100,000 شخص، بمعنى أنها ارتفعت بنسبة 40% في 18 عامًا فقط!

لم تكن تلك المعدلات متساوية في جميع مناطق الولايات المتحدة، فقد ارتفع الانتحار في عدد من المناطق الريفية أكثر من غيرها، وبعض تلك المناطق كان معدل الانتحار قد ارتفع بنسبة 30% في العقد الماضي فقط.

قد يشير تغير نسب الانتحار من عقد إلى آخر واختلافه عبر المناطق إلى أن الانتحار تسببه الظروف الاجتماعية، ولعل أكثر تلك الظروف وضوحًا هي سهولة الوصول إلى خدمات الصحة النفسية، مثل الأطباء النفسيين والمعالجين ومضادات الاكتئاب الطبية. وفي الواقع أن جلسات الطب النفسي هي الطريقة التقليدية للحديث عن الانتحار في العصر الحديث.

هذا لا يعني أن اللجوء إلى المعالجين النفسيين أمر خاطئ؛ لأن مرض الاكتئاب يزيد من معدلات الانتحار، لذا فإن علاجات الاكتئاب قد تحدّ من ارتفاع معدلات الانتحار.

يقول جايسون مانينغ، وهو أستاذ مساعد في علم الاجتماع في جامعة ويست فرجينيا: «بصفتي عالم اجتماع درس الانتحار، أظن أن الاعتماد على النموذج الطبي غير كافٍ وسط تعدد أسباب ارتفاع تلك المعدلات. وقد أظهرت الدراسة التي أجريتها أن هناك أسباب عديدة لها دور في ارتفاع معدلات الانتحار».

يضيف مانينغ: «من كاتو إلى هتلر: هناك العديد من الشخصيات التاريخية الشهيرة قد لجأوا إلى إنهاء حياتهم نتيجة الانتكاسات المفاجئة التي حصلت لهم لعدة أسباب أهمها الهزائم العسكرية».

تشير هذه الرسالة إلى أن الانتحار لا يحصل نتيجة الصراع الطويل مع الاكتئاب فحسب، وإنما قد تكون ردة فعل على حدث ما قد حصل في حياتهم. فقد تدفع صفعات الدهر الجائر وسهامه إلى انتحار أولئك الذين قد عانوا الاكتئاب بالفعل، مثل انتحار الشاعرة سيلفيا بلاث بعد أن تخلى عنها زوجها بفترة وجيزة، فتاريخها الطويل مع الاكتئاب معروف. فالعقل البشري لم يوجد من فراغ.

بسبب الوباء الحالي، أبلغ الخط الساخن الوطني للحدّ من الانتحار عن ازدياد عدد المكالمات، فقد ارتفعت 9 أضعاف مقارنةً بالوقت نفسه في العام الماضي.

الأزمات المالية

خسارة الثروة المادية، ونقص الدخل، وزيادة الديون لها دور كبير في الحثِّ على الانتحار، فقد أثبتت دراسات عديدة أن معدلات الانتحار في الفئات العاطلة عن العمل أعلى بكثير من الفئات العاملة، وأظهرت دراسات أخرى أن المعدلات ترتفع خلال الأزمات الاقتصادية.

ارتفعت معدلات الانتحار خلال مرحلة الكساد الاقتصادي الكبير عام 1930، وكانت منتشرة أكثر في المناطق التي أغلقت بنوكها وأخذت مدخرات عملائها معها.

في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى، ارتفعت معدلات الانتحار خلال فترة الركود الذي حصل عام 2008. ويقول بعض الناس إن الركود الاقتصادي في العديد من أجزاء الولايات المتحدة لم ينتهِ إلى هذه اللحظة، وقد يوضح هذا السبب وراء ارتفاع معدلات الانتحار في المناطق الريفية.

أرسل المزارع كريس ديكشورن من داكوتا الجنوبية رسالة نصية قبل أن ينتحر عام 2019 كتب فيها: «لا أعلم حقًّا كيف سنفعلها، أنا فشلت وأشعر أنني سأفقد كل شيء عملت لأجله». ولم تكن هذه الحالة الأولى من نوعها.

ترتفع معدلات الانتحار مع ارتفاع معدلات تعاطي المخدرات بجرعات زائدة حتى أنه في بعض الأحيان يصعب التمييز بين التعاطي المتعمد وغير المتعمد، وأطلق الباحثون على الحالتين اسم «الموت من اليأس».

الفضائح

قد تكون جميع أنواع الفضائح والإهانة دافعًا للانتحار؛ لأن السمعة والمكانة الاجتماعية وحُسن السيرة مهمة جدًا لدى معظم الأشخاص. فمثلًا، قتل الرئيس السابق لكوريا الجنوبية نفسه بعد إجراء تحقيقات بحقه بتهم الفساد عام 2009، وحصلت حالة أخرى في الولايات المتحدة في ولاية كنتاكي، إذ انتحر نائب الولاية بعد ادعاءات الانتهاكات الجنسية التي ظهرت في حقه.

تُعد الإشاعات والتشهير عقابًا كبيرًا في القرى والبلدات الصغيرة. وليس غريبًا أن الفضائح على وسائل التواصل الاجتماعي تدفع الأشخاص إلى الانتحار، إذ إن ازدهار مواقع التواصل الاجتماعي جعلت الأشخاص معرضين للنقد والفضيحة على نطاق واسع.

قطع العلاقات

قد تؤدي خسارة العلاقات والمكانات الاجتماعية إلى الانتحار، فقد لاحظ علماء الاجتماع قبل أكثر من قرن أن معدلات الانتحار منخفضة جدًا بين الأشخاص الذين ينخرطون في علاقات اجتماعية ومترابطة. ويساهم أيضًا الزواج وتكوين الأسر وجميع أنواع الاندماج الاجتماعي الإيجابي في الابتعاد عن تلك الأفكار.

ترتفع نسب ضحايا الانتحار بين الأشخاص الذين يعيشون وحدهم، والذين يميلون إلى تكوين أصدقاء أقل، وهم أيضًا أقل انخراطًا في الفعاليات الاجتماعية أكثر من غيرهم.

قد يؤدي انخفاض عدد المنظمات المدنية والدينية والمجاميع التطوعية مثل نوادي البولينج وغيرها إلى تفاقم مشكلات أخرى تؤدي إلى رفع معدلات الانتحار.

قد يكون قلة الانخراط في العلاقات الاجتماعية أمرًا سيئًا، ولكن تأثير الفقدان المفاجئ لتلك العلاقات أسوء بكثير، فلا بد من الإشارة إلى أن حالات الانفصال والطلاق سببًا شائعًا للانتحار أيضًا.

أُجريت دراسة على 400,000 أمريكي، وكانت نتائج تلك الدراسة هي أن نسبة الانتحار كانت مرتفعة إلى أكثر من الضعف بين المطلقين، ويكون الانتحار مباشرةً بعد الطلاق.

النزاعات

قد يُقدِم بعض الأشخاص على الانتحار نتيجة ردة فعل على النزاعات الاجتماعية، وقد يكون نوعًا من الاعتراض أو العقاب والهرب من تلك الأزمة، إذ يعتمد الأمر على طبيعة ذلك النزاع.

أحرق المئات من التبتيين «سكان منطقة التبت الواقعة غرب الصين» أنفسهم على الفور احتجاجًا على نظام الحكم في الصين، وأحرق عدد كبير من النساء أنفسهن احتاجًا وهروبًا من الانتهاكات التي حصلت بحقهن في المناطق الريفية في إيران والقرى في أفغانستان.

في أمريكا الحديثة، يُقدِم الأشخاص في بعض الأحيان على الانتحار لإلقاء الذنب على من أساء إليهم. وفي حالات اخرى، قد يكون الانتحار بسبب التعرض للتنمر والإساءة من شخص أو مجموعة أشخاص.

يجب إعادة التفكير في طرائقِ منعِ الانتحار، إذ تشير الحقائق إلى أن منع الانتحار يتطلب عدة أمور، ليس فقط الإكثار من زيادة إتاحة الوصول إلى المعالجين النفسيين والوصفات الطبية فحسب، بل إن الأمر يتطلب منح السكان اقتصادًا متناميًا والمساعدات المالية للأشخاص الذين يعانون مشكلات نفسية.

قد يكون للناس دور مهم في خفض معدلات الانتحار عن طريق بناء روابط اجتماعية وتعزيز سبل التواصل الإيجابي، إضافةً إلى ذلك، يمكنهم توفير الدعم المعنوي للأشخاص وتوفير البدائل لحلّ النزاعات والابتعاد عن العلاقات السلبية.

يجب وضع جميع الأسباب في عين الاعتبار من أجل معالجتها للحدّ من ارتفاع معدلات الانتحار.

اقرأ أيضًا:

ما علامات الانتحار التي يجب الحذر منها؟

لماذا قد يقدم شخص على الانتحار؟

ترجمة: ياسين أحمد

تدقيق: غفران التميمي

مراجعة: هادية أحمد زكي

المصدر