وفقًا لأكثر النماذج الكونية المقبولة على نطاق واسع، بدأ تكون المجرات منذ 13 أو 14 مليار عام، وخلال المليار عام التالية، ظهرت الهياكل الكونيةcosmic structures وتشكلت كما نعرفها الآن. تضمنت هذه الهياكل الكونية أشياء رائعة مثل العناقيد المجرية والعناقيد المجرية الفائقة والخيوط المجرية، والخصائص المجرية مثل الانتفاخات والعناقيد الكروية والثقوب السوداء فائقة الكتلة SMBHs التي توجد عادةً في مركز المجرة. ومثل الكائنات الحية التي تعيش على الأرض ، تتطور المجرات باستمرار منذ نشأتها. في الواقع، تكتسب المجرات الكتل وتفقدها على مدار حياتها.

في دراسة حديثة، حسب فريق دولي من علماء الفلك معدل التدفق الداخلي والخارجي للمواد بمجرة درب التبانة، وأوضح المختصون كيف يلائم هذا فهمنا لتكوّن المجرات وتطورها، وفقًا للنتائج المنشورة في مجلة Astrobites.

قاد الدراسة عالم الفلك أندرو ج. فوكس Andrew J. Fox من وكالة الفضاء الأوروبية ESA، وضم الفريق أعضاءً من معهد تلسكوب علوم الفضاء STScI، من مجموعةMilky Way Halo Research Group وجامعات أخرى. اعتمادًا على دراسات سابقة، فحص الفريق معدل تدفق الغاز داخل مجرة درب التبانة وخارجها، من خلال السُدُم السحابية عالية السرعة HVC المحيطة بالمجرة.

ولأن وفرة المواد هي مفتاح تكون النجوم في المجرة، فإن معرفة معدل اكتساب المواد وفقدها من المجرة يُعَدُّ أمرًا هامًا لمعرفة كيفية تطورها بمرور الوقت، ووفقًا لمايكل فولي Michael Foley من مجلة أستروبايتس، فإن معرفة معدلات اكتساب المجرات للكتل هو أمر أساسي لفهم تفاصيل نموذج النافورة المجرية Galactic Fountain.

وفقًا لهذا النموذج، تنتج النجوم عالية الكتلة في المجرة رياحًا نجمية stellar winds، تُخرج المواد إلى خارج قرص المجرة، وعندما تصل تلك النجوم إلى طور المستعر الأعظم supernova، تنطلق المواد منها نتيجةً للانفجار، فتعود المواد مجددًا إلى المجرة لتتكون منها نجوم جديدة.

قال فولي: «تُعرف هذه العملية باسم التغذية النجمية الراجعة stellar feedback، وتُعد مسؤولةً عن تدفق الغاز إلى خارج المجرة، أي أن مجرة درب التبانة ليست بحيرة معزولة من المواد، بل هي مثل خزان يكتسب الغاز ويفقده طيلة الوقت بسبب الجاذبية والتغذية النجمية الراجعة».

إضافةً إلى ذلك، أظهرت دراسات حديثة أن تكون النجوم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحجم الثقب الأسود فائق الكتلة الموجود في مركز المجرة، إذ يُنتج الثقب الأسود كميةً هائلةً من الطاقة، تسخن الغاز والغبار المحيط بالنواة، ما يمنعها من التكتل، ويجعلها تخضع لانهيار الجاذبية، ومن ثَم تتشكل نجوم جديدة.

موقع الشمس بالنسبة إلى منطقة تشكل النجوم في ذراع القنطورس Scutum-Centaurus

موقع الشمس بالنسبة إلى منطقة تشكل النجوم في ذراع القنطورس Scutum-Centaurus

وبناءً على ذلك، فإن معدل تدفّق المواد داخل المجرة وخارجها هو مفتاح تحديد معدل تكوّن النجوم، ولحساب معدل تدفّق المواد الداخلة والخارجة في مجرة درب التبانة، استعان فوكس وزملاؤه ببيانات من مصادر متعددة، وفقًا لتصريح فوكس لموقع Universe Today:

«لدينا أرشيف رائع من البيانات، إذ تحتفظ ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية بأرشيف كامل لكل بيانات تلسكوب هابل الفضائي، وحصلنا أيضًا على جميع ملاحظات مطياف الأصول الكونية COS لكوازرات الخلفية background quasars، والمطياف الضوئي الحساس الموجود في تلسكوب هابل، الذي يمكنه أن يحلل الضوء فوق البنفسجي الصادر من أماكن بعيدة، وقد وجدنا 270 من تلك الكوازرات، استخدمنا أولًا هذه الملاحظات لوضع مرجع للسحب الغازية المعروفة باسم السُدُم السحابية عالية السرعة HVCs، ثم ابتكرنا طريقةً لتقسيم تلك السُدُم حسب تدفقها داخل المجرة أو خارجها، بواسطة تقنية تحويل دوبلر Doppler shift».

إضافةً إلى ذلك، أظهرت دراسة حديثة أن مجرة درب التبانة شهدت فترة خمول منذ نحو 7 مليارات سنة، واستمرت نحو ملياري سنة، نتيجةً لموجات الصدمة التي سببت تسخين سحب الغاز بين النجمي interstellar gas clouds، ما سبب توقف تدفق الغاز البارد إلى مجرتنا مؤقتًا، ولكن مع مرور الوقت بدأ الغاز يبرد مجددًا، وبدأ التدفق مرةً أخرى، ما أدى إلى دورة جديدة من تشكل النجوم.

بعد الاطلاع على هذه البيانات، استطاع فوكس وزملاؤه تحديد معدل تدفق المواد داخل مجرتنا وخارجها، وفقًا لتصريح فوكس:

«بمقارنة معدلات تدفق الغاز داخل المجرة وخارجها، وجدنا زيادةً في تدفق الغاز إلى داخل المجرة، وهي أخبار سارة لنجوم مجرتنا، إذ يوجد الكثير من الغاز الذي يمكن تحويله إلى نجوم وكواكب. أظهرت القياسات أن تدفق المواد إلى داخل المجرة يبلغ نحو 0.5 كتلة شمسية سنويًا، في حين يبلغ التدفق إلى خارجها 0.16 كتلة شمسية، ما يعني أن مجرتنا تكتسب كتلةً إضافيةً كل سنة».

ومع ذلك، فإن سُدُم الغاز عالية السرعة لا تعيش فترات طويلة، إذ لا تزيد أعمارها على 100 مليون سنة، ما يعني أن هذا التدفق لن يستمر على هذا المعدل إلى الأبد.

ويضيف فوكس: «في النهاية ستتخذ السُدُم الغازية عالية السرعة شكل تكوينات معينة، تُعرف بالفقاعات Fermi Bubbles، وهي لا تتبع تدفق الغاز الداخل أو الخارج».

تكوين الفقاعة Fermi bubble

تكوين الفقاعة Fermi bubble

يعرف علماء الفلك منذ عام 2010 بوجود تلك الفقاعات الغامضة، الناشئة وسط مجرتنا، تمتد هذه التكوينات لآلاف السنين الضوئية، ويُعتقد أنها ناتجة عن استهلاك الثقوب السوداء فائقة الكتلة للغاز بين النجمي، وتجشؤ أشعة جاما نتيجةً لذلك.

تزامن التوصل إلى هذه النتائج مع توفر تصور جديد عن آلية تكون المجرات وتطورها، تدعمه نظرية تراكم التدفق البارد cold flow accretion، التي طرحها البروفيسور أفيشاي ديكل Avishai Dekel وزملاؤه من معهد الفيزياء التابع للجامعة العبرية في القدس، تصف النظرية كيف يمكن للمجرات أن تسبب تراكم الغاز من الفضاء المحيط بها خلال تكونها.

يقول فوكس مُلخصًا: «تُظهر النتائج أن المجرات مثل مجرة درب التبانة لا تتطور في حالتها الثابتة، بل تكتسب الغاز وتفقده في دورة مستمرة، عندما يتدفق الغاز إلى داخل المجرة يتشكل المزيد من النجوم، ولكن إذا تدفق الغاز أكثر من اللازم، يحدث انفجار نجمي قوي، لدرجة أنه يقذف كل الغاز المتبقي بعيدًا ويتوقف تشكل النجوم، لذا فإن التوازن الحادث بين معدلي التدفق الداخلي والخارجي ينظم تشكل النجوم، وتساعدنا النتائج الجديدة على إلقاء الضوء على هذه العملية».

من المثير للاهتمام فيما يتعلق بهذه الدراسة، أن ما ينطبق على المجرات ينطبق أيضًا على الأنظمة النجمية، فنجد أن نظامنا الشمسي يُظهر كذلك تدفق المواد إلى الداخل والخارج طيلة الوقت، ووجود أجرام مثلOumuamua ، وأجرام أحدث مثل 21/ Borisov، يؤكد أن الكويكبات والمذنبات تُطرَد من أنظمة النجوم لتلتقطها أنظمة نجمية أخرى.

لكن ماذا عن الغاز والغبار؟ وهل يكتسب نظامنا الشمسي -أو كوكبنا- كتلةً أم يفقدها بمرور الوقت؟ وماذا يعني هذا لمستقبل نظامنا الشمسي وكوكبنا؟ تناول عالم الفيزياء الفلكية برايان كوبرلين Brian Koberlein هذا الموضوع مستخدمًا مثال زخة شهب الجوزائيات Gemini meteor shower، وكتب:

«برصد الأقمار الصناعية لمسارات النيازك، نجد أن الأرض تتلقى يوميًا من 100 إلى 300 طن متري metric tons من المواد، أي أن 30 ألف إلى 100 ألف طن من المواد يُضاف إلى كتلة الأرض سنويًا، قد يبدو هذا كثيرًا، لكنه في الحقيقة لا يمثل أكثر من واحد على مليار من كتلة الأرض».

مواقع اصطدام الكويكبات الصغيرة بالأرض بين عامي 1994 - 2013

مواقع اصطدام الكويكبات الصغيرة بالأرض بين عامي 1994 – 2013

وتفقد الأرض المواد بانتظام من طريق عدة عمليات، تتضمن الاضمحلال الإشعاعي radioactive decay للمواد من قشرة الأرض، الذي يؤدي إلي فقد الطاقة والجسيمات دون الذرية، مثل جسيمات ألفا وبيتا، وأشعة جاما، من كوكبنا.

الآلية الأخرى للفقد هي خروج الغازات من الغلاف الجوي للأرض، إذ تُفقَد غازات مثل الهيدروجين والهيليوم المكونة للغلاف الجوي إلى الفضاء، تُفقدنا العمليتان معًا قرابة 110 آلاف طن من مادة الأرض سنويًا.

وبهذا يتجاوز إجمالي الفقد من سطح الأرض 10 آلاف طن سنويًا، ووفقًا لحسابات عالم الأحياء الدقيقة كريس سميث Chris Smith، والفيزيائي بجامعة كامبريدج ديف أنسل Dave Ansell عام 2012، تكتسب الأرض نحو 40 ألف طن سنويًا في صورة غبار من الفضاء، في حين تفقد نحو 90 ألف طن سنويًا من خلال الغلاف الجوي والعمليات الأخرى.

لذا فمن المرجح أن وزن الأرض يتناقص بمعدل يتراوح بين 10 آلاف و50 ألف طن سنويًا، حتى وإن كان معدل إضافة المواد إلى الأرض غير محدد، فالأرجح أن المحصلة الإجمالية هي فقد الأرض للكتلة وليس اكتسابها.

ويشبه هذا وضع نظامنا لشمسي، إذ يتدفق الغاز والغبار بين النجمي باستمرار.

أما الشمس، التي تمثل نحو 99.86% من كتلة النظام الشمسي، فتفقد كتلةً بمرور الوقت. بناءً على بيانات مسبار مسينجر التابع لناسا NASA’s MESSENGER probe، استنتج فريق من الباحثين من ناسا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الشمس تفقد كتلةً بسبب الرياح الشمسية والتفاعلات الداخلية (أي الانفجارات النووية التي تحدث داخل الشمس)، وذلك بمعدل 1.3245 x 10^15 طن سنويًا، ولا يناقض هذا كون الشمس تتوسع في الحجم.

وهو رقم ضخم حقًا، ولكن نظرًا إلى أن كتلة الشمس تبلغ نحو1.9885 × 10^27 طن، يُعَد هذا الفقد ضئيلًا جدًا، وغير مؤثر على كتلة الشمس على الإطلاق.

ولكن مع فقد الشمس المستمر لكتلتها، يضعف تأثير الجاذبية على الأرض والكواكب الأخرى شيئًا فشيئًا، وبحلول الوقت الذي ستصل فيها شمسنا إلى نهاية مرحلة التسلسل الرئيسي، ستكون قد توسعت إلى درجة ابتلاع الكواكب الداخلية عطارد والزهرة والأرض حتى المريخ.

ما خلصنا إليه إذن هو أن مجرتنا تكتسب كتلةً باستمرار، في حين يفقد نظامنا الشمسي و الأرض كتلتيهما ببطء، وليس هذا بالخبر السيئ، ولكنّ له آثارًا بعيدة المدى.

وعلى كل حال فمن المثير للاهتمام أن نعرف أنه حتى أقدم الأجسام وأكبرها في كوننا تخضع للتطور، مثلها كمثل الكائنات الحية، وسواءً كنا نتحدث عن الكواكب والنجوم أم عن المجرات، فإنها تولد وتعيش وتموت، وتفقد وتكتسب أرطالًا من المواد، إنها دائرة الحياة ذاتها لكن على نطاق كوني.

اقرأ أيضًا:

لغز كوني: لماذا تزداد نسبة الغاز في مجرة درب التبانة؟

نجم ينطلق من القلب المظلم لمجرة درب التبانة بسرعة لا تصدق

ترجمة: آية قاسم

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: صالح عثمان

المصدر